عناصر الخطبة
1/رحلة روح المؤمن والفاجر إلى الدار الآخرة 2/حياة البرزخ وما فيها من أهوال 3/البعث والنشور 4/الحساب والصراط 5/الجنة والنار 6/حقيقة الدنيااهداف الخطبة
اقتباس
حتى إذا تكاملت عُدّتُهم، وصاروا جميعاً على وجه الأرض، تشققت السماء، وانتثرت الكواكب، ونزلت ملائكة السماء، فأحاطت بملائكة السماء الدنيا، ثم كل سماء كذلك، فبينما هم كذلك، إذ جاء الله رب العالمين لفصل القضاء، فأشرقت الأرض بنوره، وتميز المجرمون من المؤمنين، ونُصب الميزان، وأحضر الديوان، واستُدعي الشهود، وشهدت يومئذ الأيدي والألسن، والأرجل والجلود، ولا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
اعلموا -رحمني الله وإياكم- أنه إذا بلغ الأجل الذي قدر لكل عبد واستوفاه، جاءته رسل ربه -عز وجل-، ينقلونه من دار الفناء إلى دار البقاء، فجلسوا منه مد البصر، ثم دنا منه الملك الموكل بقبض الأرواح، فاستدعى الروح، فإن كانت روحاً طيبة، قال: "اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة، والبشرى بروح وريحان ورب غير غضبان، فتخرج من بدنه كما تخرج القطرة من فيّ السقاء، فإذا أخذها لم يدعها الرسول في يديه طرفة عين، فيحنطونها ويكفنونها بحنوط وكفن من الجنة، ثم يصلون عليها، ويوجد لها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض، ثم يُصعد بها للعرض الأول على أسرع الحاسبين، فينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيُستأذن لها فيُفتح لها أبواب السماء، ويُصلي عليها ملائكتها، ويشيّعها مقربوها إلى السماء الثانية، فيُفعل بها كذلك، ثم الثالثة، ثم الرابعة إلى أن ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله -عز وجل- فتُحيّى ربها -تبارك وتعالى- بتحية الربوبية: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام".
فإن شاء أذن لها بالسجود، ثم يخرج لها التوقيع بالجنة، فيقول الرب -جل جلاله-: "اكتبوا كتاب عبدي في عليين، ثم أعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى".
ثم ترجع روحه إلى الأرض، فتشهد غسله وتكفينه، وحمله وتجهيزه، ويقول: قدموني قدموني، فإذا وضع في لحده، وتولى عنه أصحابه، دخلت الروح معه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم على الأرض، فأتاه حينئذ فتّانا القبر، فيجلسانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فيصدقانه ويبشرانه، بأن هذا الذي عاش عليه، ومات عليه، وعليه يبعث.
ثم يفسح له في قبره مد بصره، ويفرش له خضراً، ويقيض له شاب حسن الوجه والرائحة، فيقول: أبشر بالذي يسرك، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟
فيقول: أنا عملك الصالح، ثم يفتح له باب إلى النار، ويقول: انظر ما صرف الله عنك، ثم يفتح له باب إلى الجنة، ويقول: انظر ما أعد الله لك، فيراهما جميعاً.
وأما النفس الفاجرة، فبالضد عن ذلك كله، إذا أذنت بالرحيل نزل عليها ملائكة سود الوجوه، معهم حنوط من نار وكفن من نار، فجلسوا منها مد البصر، ثم دنا الملك الموكل بقبض النفوس، فاستدعى بها، وقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، أبشري بحميم وغساق: (وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ)[ص: 58].
فتطاير في بدنه، فيجتذبها من أعماق البدن، فتنقطع معها العروق والعصب، كما ينتزع الشوك من الصوف، فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين.
ويوجد لها كأنتن رائحة جيفة على وجه الأرض، فتحنط بذلك الحنوط، وتلف في ذلك الكفن، ويلعنها كل ملك بين السماء والأرض، ثم يصعد بها إلى السماء، فيُستفتح لها، فلا يُفتح لها أبواب السماء، ثم يجيء النداء من رب العالمين: اكتبوا كتابه في سجين، وأعيدوه إلى الأرض، فتطرح روحه طرحاً، فتشهد تجهيزه وتكفينه وحمله.
وتقول وهي على السرير: يا ويلها إلى أين يذهبون بها؟
فإذا وضع في اللحد أعيدت إليه، وجاء الملكان فسألاه عن ربه ودينه ونبيه، فيتلجلج، ويقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريت ولا دريت، ثم يضربانه ضربة، يصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين.
ثم يضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ثم يفرش له نار.
ويفتح له باب إلى الجنة، فيقال: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، فيراهما جميعاً، ثم يقيض له أعمى وأصم وأبكم، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟
فيقول: أنا عملك السيء.
ثم ينعم المؤمن في البرزخ على حسب أعماله، ويعذب الفاجر فيه على حسب أعماله، ويختص كل عضو بعذاب يليق بجناية ذلك العضو، فتقرض شفاه المغتابين الذين يمزقون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم بمقاريض من نار، وتسجر بطون أكلة أموال اليتامى بالنار، ويُلقم أكلة الربا بالحجارة، ويسبحون في أنهار الدم كما كانوا يسبحون في الكسب الخبيث في الدنيا، وترض رءوس النائمين عن الصلاة المكتوبة بالحجر العظيم، ويشق شدق الكذاب الكذبة العظيمة بكلاليب الحديد إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينيه إلى قفاه، كما شقت كلمته النواحي، ويعلق النساء الزواني بثديهن، ويحبس الزناة والزواني في التنور المحمي عليه، فيعذب محل المعصية منهم، وما هو إلا سافل.
وتسلط الهموم والغموم والأحزان والآلام النفسانية على النفوس البطالة التي كانت مشغوفة باللهو واللعب والبطالة، فتصنع الآلام في نفوسهم كما تصنع الهوام والديدان في لحومهم، حتى يأذن الله -تعالى- بانقضاء أجل العالم، وطي الدنيا، فتمطر الأرض مطراً أربعين صباحاً، فينبتون من قبورهم كما تنبت الشجرة والعشب، فإذا تكاملت الأجنة وكان وقت الولادة، أمر الله -سبحانه- إسرافيل فنفخ في الصور نفخة البعث، فتشققت الأرض عنهم، فإذا هم قيام ينظرون، يقول المؤمن: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور".
ويقول الكافر: (يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)[يــس: 52].
فيساقون إلى المحشر حفاةً عراةً غرلاً بهماً، مع كل نفس سائق يسوقها وشهيد يشهد عليها، وهم بين مسرورٍ ومثبورٍ، وضاحكٍ وباكٍ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)[عبس: 38- 42].
حتى إذا تكاملت عُدّتُهم وصاروا جميعاً على وجه الأرض، تشققت السماء وانتثرت الكواكب، ونزلت ملائكة السماء، فأحاطت بملائكة السماء الدنيا، ثم كل سماء كذلك، فبينما هم كذلك، إذ جاء الله رب العالمين لفصل القضاء، فأشرقت الأرض بنوره، وتميز المجرمون من المؤمنين.
ونُصب الميزان، وأحضر الديوان، واستُدعي الشهود، وشهدت يومئذ الأيدي والألسن والأرجل والجلود، ولا تزال الخصومة بين يدي الله -سبحانه- حتى يختصم الروح والجسد.
فيقول الجسد: إنما كنتُ ميّتاً لا أعقل، ولا أسمع ولا أبصر، وأنتِ كنتِ السميعة المبصرة العاقلة، وكنتِ تصرِّفينني حيث أردت.
فتقول الروح: وأنتَ الذي فعلتَ، وباشرتَ المعصية، وبطشت.
فيرسل الله–سبحانه- إليهما ملكاً يحكم بينهما، فيقول: مثَلكما مَثل بصير مقعد، وأعمى صحيح، دخلا بستاناً.
فقال المُقعد: أنا أرى الثمار، ولا أستطيع أن أقوم إليها.
وقال الأعمى: أنا أستطيع القيام، ولكن لا أرى شيئاً، فقال له المقعد: احمِلني حتى أتناول لي ولك، ففعلا، فعلى من تكون العقوبة؟
فيقولان: عليهما، فيقول: فكذلك أنتما.
فيحكم الله -سبحانه- بين عباده بحكمه الذي يحمده عليه جميع أهل السماوات والأرض، وكل بر وفاجر، ومؤمن وكافر: (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ)[النحل: 111].
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7- 8].
ثم ينادي مناد: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيذهب أهل الأوثان مع أوثانهم، وأهل الصليب مع صليبهم، وكل مشرك مع إلهه الذي كان يعبد، لا يستطيع التخلف عنه، فيتساقطون في النار.
ويبقى الموحدون، فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس أحوج ما كنّا إليهم، وإن لنا رباً ننتظره، فيقال: وهل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، إنه لا مثل له، فيتجلى لهم سبحانه في غير الصورة التي يعرفونه، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيتجلى لهم في صورته التي رؤي فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون نعم أنت ربنا، ويخرون لله سجداً، إلا من كان لا يصلي في الدنيا، أو كان يصلي رياء، فإنه يحال بينه وبين السجود.
ثم ينطلق سبحانه ويتبعونه، ويضرب الجسر ويساق الخلق إليه، وهو دحض مزلة، مظلم لا يمكن عبوره إلا بنور.
فإذا انتهوا إليه، قسمت بينهم الأنوار على حسب نور إيمانهم، وإخلاصهم وأعمالهم في الدنيا، فنور كالشمس، ونور كالنجم، ونور كالسراج في قوته وضعفه.
وترسل الأمانة والرحم على جنبتي الصراط، فلا يجوزه خائن ولا قاطع.
ويختلف مرورهم عليه بحسب اختلاف استقامتهم على الصراط المستقيم في الدنيا، فمار كالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل، وساعٍ، وماشٍ، وزاحفٍ، وحابٍ حبواً.
وينصب على جنبيه كلاليب لا يعلم قدر عظمها إلا الله -عز وجل-، تعوق من علقت به عن العبور على حسب ما كانت تعوقه الدنيا عن طاعة الله ومرضاته وعبوديته، فناجٍ مسلم، ومخدوشٍ مسلم، ومقطّع بتلك الكلاليب، ومكودس في النار، وقد طُفئ نور المنافقين على الجسر أحوج ما كانوا إليه كما طُفئ في الدنيا من قلوبهم وأعطوا دون الكفار نوراً في الظاهر كما كان إسلامهم في الظاهر دون الباطن، فيقولون للمؤمنين: قفوا لنا نقتبس من نوركم ما نجوز به، فيقول لهم المؤمنون والملائكة: (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا)[الحديد: 13].
قيل المعنى: ارجعوا إلى الدنيا فخذوا من الإيمان نوراً تجوزون به كما فعل المؤمنون.
وقيل: ارجعوا وراءكم حيث قسمت الأنوار، فالتمسوا هناك نوراً تجوزون به.
ثم ضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره الذي يليهم من قبله العذاب، ينادونهم: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[الحديد: 14- 15].
فإذا جاوز المؤمنون الصراط، ولا يجوزه إلا مؤمن، أمِنوا من دخول النار، فيُحبسون هناك على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في دار الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا أُذن لهم في دخول الجنة.
فإذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار أُتي بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة! فيطّلعون وجلين، ثم يقال: يا أهل النار! فيطّلعون مستبشرين، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، وكلهم قد عرفه، فيقال: هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار.
ثم يقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت.
فهذا آخر أحوال هذه النطفة التي هي مبدأ الإنسان، وما بين هذا المبدأ، وهذه الغاية أحوال وأطباق، تقدير العزيز العليم، تنقل الإنسان فيها وركوبه لها طبقاً بعد طبق، حتى يصل إلى غايته من السعادة والشقاوة: (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ)[عبس: 17- 23].
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا من الذين سبقت لهم منه الحسنى، وأن لا يجعلنا من الذين غلبت عليهم الشقاوة فخسروا في الدنيا والآخرة، إنه سميع الدعاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا بأن أجسامكم على النار لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم.
الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
اعلموا -رحمني الله وإياكم- بأن الدنيا دار بلاء وابتلاء، وامتحان واختبار، لذلك قدّر الله فيها الموت والحياة، وهي مشحونة بالمتاعب، مملوءة بالمصائب، طافحة بالأحزان والأكدار، يزول نعيمها، ويذل عزيزها، ويشقى سعيدها، ويموت صغيرها وكبيرها.
هذه الدنيا، قد يُؤذى مؤمنوها، وقد يُسوّد منافقوها، مُزجت أفراحها بآلام، وحلاوتها بالمرارة، وراحتها بالتعب، فلا يدوم لها قرار ولا يدوم لكل شخص حال، الفقير قد يَغنى، والضعيف قد يقوى، والمطارد قد يستوطن، والمُضيّق عليه قد يأتيه سعة رب العالمين.
والمتوسع في كل شيء، ما هي إلا لحظات، إلا وضمة القبر تحتضنه.
فاتقوا الله -عباد الله- واتعظوا بماضيكم وحاضركم. فكم من ملوك وجبابرة، فتحوا البلاد، وسادوا العباد، وأظهروا السطوة والنفوذ، حتى ذعرت منهم النفوس، ووجلت منهم القلوب، ثم طوتهم الأرض بعد حين، فافترشوا التراب والتحفوا الثرى، فأصبحوا خبراً بعد عين، وأثراً بعد ذات.
وإلاّ فأين عاد وثمود؟ وفرعون ذو الأوتاد؟ أين الأكاسرة؟ وأين القياصرة؟ ثم أين الجبابرة؟
السعيد من وعظ بغيره، والسعيد من استدرك قبل أن يحل به الأجل.
قال بعضهم: دخلنا على عطاء السلمي، نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: كيف حالك؟ فقال: الموت في عنقي، والقبر في يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يفعل بي.
ودخل المزني على الإمام الشافعي -رحمه الله-في مرضه الذي مات فيه، فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال: أصبحت عن الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقيا، ولكأس المنية شاربا، وعلى ربي -سبحانه- واردا، ولا أدري أروحي صائرة إلى الجنة فأهنّيها، أو إلى النار فأعزيها
قال بعض الحكماء: مازالت المنون ترمي عن أقواس، حتى طاحت الجسوم والأنفس، وتبدلت النعم بكثرة الأبؤس، واستوى في القبور الأذناب والأرؤس، وصار الرئيس كأنه قط لم يَرؤُس.
فمن عامل الدنيا خسر، ومن حَمل في صف طلبها كُسر، وإن خلاص مُحبها منها عَسر، وكل عاشقيها قد قُيّد وأسر، قال الله -تعالى-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 23].
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير البرية، وأفضل البشرية، صاحب الحوض والشفاعة.
اللهم صل على محمد...
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
التعليقات