عناصر الخطبة
1/ خواطر حول زيارة السجن 2/ أنواع السجناء 3/ أثر أصدقاء السوء في دخول السجن 4/ عاقبة السجن 5/ أثر السجن على أسرة السجين 6/ العافية لا يعدلها شيء.اقتباس
ومن الحقائق التي تبدّت لي: رأيت أثرَ أصدقاء السوء في السجن، واستمعوا أيها الشباب! لقد رأيتُ أثر أصدقاء السوء في السجن, قابلت أُناسًا سُجنوا في قضايا المخدرات، وفي قضايا أخرى, وسألتُ الشرطي المسئول فإذا أكثر الأسباب وأعلاها تأثيرًا في حياة هؤلاء هم أصدقاء السوء, فيا أيها الشاب المؤمن! ألا يكفيك تحذير القرآن من هؤلاء الأصدقاء, ألم تسمع قول الله -عز وجل-: (الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين.. وبعد:
أيها الإخوة: ثمة حقائق ومعانٍ شرعية لا يستطيع الإنسان أن يُدركها إلا إذا عاينها وشاهدها, ورأى نماذج من أصحابها وأهلها: ومن تلكم الحقائق الشرعية: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» (صحيح مسلم ح: 2963).
ومن ذلكم أيضًا: قوله -عليه الصلاة والسلام -كما في حديث عبد الله بن أبي أوفى في الصحيح-: «وسلوا الله العافية» (صحيح البخاري ح: 2965).
لقد تبدّت لي جُملةٌ من هذه الحقائق وأنا أزور أحدَ السجون في هذه البلاد قبل يومين بالضبط، وإذا بي أتذكر وأعظَ نفسي أولًا قبل أن أعظ الإخوة المسجونين ثانيًا.
لقد تبدّت لي هذه الحقائق حينما زرت أحدَ هذه السجون التي كُتب على أحد أبوابها في زمنٍ مضى, وفي دولةٍ غَبَرَتْ: "هذه منازل البلوى, وقبور الأحياء, وتجربة الأصدقاء, وشماتة الأعداء".
أو كما قال الأول:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها *** فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجانُ يومًا لحاجةٍ *** فرحنا, وقلنا: جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا فجُلُّ حديثنا *** إذا نحن أصبحنا الحديثُ عن الرؤيا
فإن حسُنت لم تأتِ عجلى وأبطأت *** وإنْ هي ساءت بكّرتْ وأتتْ عجلى
وقد قال أحد الذين خرجوا من السجون - بعد أن أمضى فيها مدة -: لا يوجد سجونٌ جميلة.
وقال آخر: أيام السجن أيام جميلة أتمنى أن لا تعود.
أيها الأحبة! إن الإنسان إذا نظر في أحوال هؤلاء المساجين تبدت له جُملةٌ من الحقائق والمعاني، أسوق شيئًا منها –إضافة لما سبق- لنأخذ العبرة:
من المُسّلم أولًا: أن المساجين ليسوا على درجةٍ واحدة, فمنهم: من سُجن لشيءٍ يُخل بدينه وشرفه, أو تعدٍ على حقوق الخلق, أو إخلالٍ بالنظام العام, أو غير ذلك من أنواع الأخطاء.
ومنهم: من يُسجن ظلمًا وبغيًا وعدوانا، كما وقع لنبي الله يوسف -عليه الصلاة والسلام-, وكما وقع لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، الذي سُجن سبع مرات كلها في سبيل الله, كلها في سبيل إظهار الحق, والصبر على تجليته للناس.
ومن المعاني أيضًا: أن السجن الحقيقي -أيها الإخوة- إنما هو سجن القلب عن الله, كما قال شيخ الإسلام مرةً حين حُبس وسُجن وأُلقي وراء القضبان: "المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسَره هواه" (المستدرك على مجموع الفتاوى: 1/ 154).
هذه -أيها الإخوة- هي الحقيقة! فكم من حرٍ طليقٍ خارج أسوار السجون لكنه عبدٌ مُكبّلٌ بأغلال المعاصي, وملقًا خلف أسوار الهوى, فابحث عن نفسك أين أنت من هذه الحرية الحقيقية؟ إنها حرية العبودية لله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله واصفًا هذا النوع من الناس في "نونيته":
هربوا من الحق الذي خُلقوا له *** فبُلوا برِقّ النفس والشيطان
ومن المعاني التي تُستفاد من أمثال هذه الزيارات أيضًا: قوله -عليه الصلاة والسلام- كما رواه مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة: "الدنيا سجن المؤمن, وجنة الكافر" (صحيح مسلم ح: 2956).
كيف يكون ذلك؟ استمعوا إلى هذه القصة التي وقعت للحافظ الكبير ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-, المتوفى في أواسط القرن التاسع الهجري, كان هذا الحافظ الكبير قاضي القضاة في مصر في وقته وإن شئت فقل: رئيس المحاكم في وقته, فكان يسير يومًا ومعه خدمٌ وحشمٌ وأنواعٌ من الأبهة التي كانت تُوضع أو تُناسب أحوال رؤساء القضاة في ذلك الوقت, فمر بذميٍ يهودي وإذا حاله رثه، وإذا هو قد رأى من البؤس ما رأى بسبب انشغاله بلقمة العيش.
فاستوقف اليهودي الحافظ ابن حجر -رحمه الله-, وقال له: يا هذا إنكم تزعمون أن نبيكم يقول: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر, فأين أنت من سجنها؟ وأين أنا من جنتها؟"، فقال الحافظ ابن حجر مُجيبًا بجواب العالم قال: "يا هذا لقد صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, أما أنا فيما أنتظره من موعود الله -عز وجل- في الآخرة بفضل الله ورحمته من القصور والأنهار والحور وغير ذلك من أنواع النعيم أنا في هذه الدنيا بالنسبة لذاك النعيم في سجن, وأما أنت إن أصررت على كفرك ومت على ديانتك هذه التي نسخها الله بالإسلام, وببعثة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- فأنت والله في جنة؛ لأن ما ينتظر الكافر من أنواع العذاب شيءٌ لا يُطاق, فقال اليهودي الذمي: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمدًا رسول الله".
إنها الحقيقة "الدنيا سجن المؤمن" إذا قارنها بما ينتظره في الآخرة؛ فهي دارٌ لا تخلو من نكد ولا من منغصات, ولا من أمورٍ تحمل الإنسان على الهمّ والغم, لكنه في ذلك كله مأجور ومُثاب بإذن الله –تعالى-.
ومن الحقائق التي تبدّت لي: رأيت أثرَ أصدقاء السوء في السجن، واستمعوا أيها الشباب! لقد رأيتُ أثر أصدقاء السوء في السجن, قابلت أُناسًا سُجنوا في قضايا المخدرات، وفي قضايا أخرى, وسألتُ الشرطي المسئول فإذا أكثر الأسباب وأعلاها تأثيرًا في حياة هؤلاء هم أصدقاء السوء, فيا أيها الشاب المؤمن! ألا يكفيك تحذير القرآن من هؤلاء الأصدقاء, ألم تسمع قول الله -عز وجل-: (الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف:67].
ألم تسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير» (صحيح البخاري ح5534، صحيح مسلم ح: 2628).
وماذا تتوقع من نافخ الكير؟ لو لم يأتك منه إلا رائحةُ كِيره الخبيثة! هذا إذا لم يُحرق ثيابك, والأحاديث والنصوص في هذا كثيرة.
فإن كنتَ قد خفيتْ عليك هذه النصوص من كتابٍ وسُنة فكيف تخفى عليك آثارُ أصدقاء السوء التي تراها اليوم ماثلةً للعيان, صديق السوء لا يلزم أن يأتيك صراحةً ويقول: اترك الصلاة, أو لا تطع والديك! لكنه يُغريك ويفتح عليك من أبواب الذنوب والمعاصي والمغريات باسم: اللهو, وباسم: الانبساط, وباسم: التنفيس عن النفس, وباسم: المتعة واللهو, أو يُوسع لك أبواب الرجاء والرحمة حتى كأنك لم تُذنب قط, ويُخفي عنك نصوص الوعيد, أو لا يكاد يحدثك بأن الله -عز وجل- شديد العقاب.
صديق السوء يكفي في وصفه أن يُنسَب إلى السوء! إنه سوء في سوء, فانجُ بنفسك قبل أن تكون صيدًا لشَرَكه الذي يَنسجه لك ليلاً ونهارًا.
وقد يكون صديق السوء فيلمًا, وقد يكون قناةً فضائية, وقد يكون, وقد يكون, والعاقل من اعتبر بغيره.
ومن المعاني العظيمة التي تبدت لي في هذه الزيارة: أن السجن مع كونه نوعًا من العذاب إلا أن عاقبته قد تكون حميدةً لبعض الناس, وصدق الله -عز وجل-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[البقرة:216].
والله -عز وجل- لا يقضي لعبده المؤمن قضاءً إلا هو له خير كما قال عليه الصلاة والسلام -فيما رواه صحيح مسلم من حديث صهيبٍ رضي الله عنه-: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له» (صحيح مسلم ح: 2999).
ولهذا رأيت أن عددًا من هؤلاء الذين قُدّر عليهم أن يُلقَوا خلف أسوار السجون؛ أن هذه السجون كانت له خيرًا في مآل أمره, ولو استمر حُرًّا طليق البدن لربما انتهى إلى أمور لا تُحمد عقباها, خرج من السجن أناسٌ حفظوا كتاب الله -عز وجل-, وخرج من السجن أناسٌ حفظوا عددًا كبيرًا من أجزاء القرآن, وأناس قرءوا ما شاء الله أن يقرءوا من الكتب النافعة, واستمعوا ما شاء الله أن يستمعوا من المواد الصوتية النافعة.
لذا -أيها الأحبة- فالسجين حين يخرج تتفاوت نظرت الناس إليه بحسب ما آل أمرُه إليه, ولهذا من ابتُلي بمثل هذا القضاء فإن عليه أن يصبر, ولكن عليه أيضًا أن يستثمر مثل هذه المصيبة في تحسين حاله, فإن هذا قد يكون خيرًا له, وقد يكون خيرًا ساقه الله إليه.
عباد الله.. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم ليّ ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه إن ربيّ رحيمٌ ودود.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين... أما بعد:
فمن الأمور أيضًا والمعاني التي تُلاحظ وتُشاهد في أمثال هذه الزيارات:
أن السجن له أثَره على أسرة السجين، وأعظم الناس تأثرًا بذلك هم الوالدان, وخصوصًا صاحبة القلب الكبير الأم، فكم في البيوت من أمهاتٍ احترقت قلوبهن, وذابت كمدًا وهمًّا بسبب وجود فلذة كبدها خلف القضبان! وإذا كان السجن ابتلاءً محضًا، فليس لسببٍ يُخلّ بالشرف والدين؛ فإن هذا غالبًا يكون همًّا عابرًا ولا يلحقه من الأسى ما يلحق الأم حين يبلغها أن سبب سجن ولدها هو وُلوجُه في أودية المخدرات, أو في العصابات الإجرامية أو نحوها.
فمن يعتبر من الشباب أنه حينما يسلك هذه المسالك فإنه لا يسيء إلى نفسه, بل يُعذِّب معه قلوبًا كبيرة، قلوب الوالدين التي لا يعرف ما معنى الأسى، ولا ما معنى الهم، ولا ما معنى الكمد الذي يلاقونه إلا من ذاق لذة سماع كلمة: يا بابا, ويا ماما, ومن ذاق لذة الأبوة أو لذة الأمومة فسيعرف ذلك حقًّا, لكن كثيرًا من الشباب قد لا يبالي بذلك! وهذا أثرٌ سيء من آثار رفقة السوء الذين يُخفون عنه حتى هذه المعاني الإنسانية المشتركة، بل هذه المعاني تشترك فيها الحيوانات مع الآدميين.
وممن يُبتلى ويَكتوي بنار السجن أيضًا: أسرة السجين إذا كان له زوجة وأولاد, وهم في الغالب يكونون ضحية، وربما ضاعوا إن لم يتداركهم الله –تعالى- برحمةٍ منه، ويُسخِّر لهم قريبًا يحتضنهم ويرعاهم، وإلا كان الأولاد -وخاصة الذكور- فريسةً لأصحاب السوء وأصدقاء السوء.
وأشد من ذلك حال الزوجة إذا كان لها أبناء وبنيات يكابدون شدة الفقر ولوعة الجوع! يكابدون ذلك ولا يجدون أحدًا يلتفت لهم, بل ربما نظر إليهم المجتمعُ نظرةً قاسية، وما ذنب هؤلاء؟! إنهم ضحية, لذا على من يعرف من أمثال هذه الأُسر أن يتقي الله -سبحانه وتعالى- فيهم فيساعدهم، خصوصًا إذا كانوا من أقاربه، وأن يلتفت إليهم ويسعى في التخفيف عن معاناتهم ومأساتهم.
ومن ثم نشأت في هذا الواقع لجانٌ تعتني بهؤلاء -لجنة السجناء والمفرَج عنهم- وهي لجنة وطنية ترعى هذا النوع من الأُسَر, فمن علم حال أسرةٍ فليبادر مشكورًا إلى إيصال خبرها لأمثال هذه اللجان؛ لعلها ترعاهم وتُخفف عنهم، فلا يجتمع عليهم جفاف العواطف وألم الفقر، ونار البعاد عن عائلهم ووالدهم.
وبالجملة أيها المؤمنون: فإن العافية لا يعدلها شيء, ولذا أُمِرنا بأن نُكثر من سؤال الله العافية, وعلى العاقل أيضًا أن يعتبر بمن حوله وبمن سبقه, وكذلك أيضًا عليه أن يستفيد إذا ابتلي بشيءٍ من ذلك أن يستفيد من هذه التجارب، والحر حقًّا من كان لله عبدًا.
رزقني الله وإياكم صدق التعبد له, اللهم ارزقنا صدق التعبد لك يا رب العالمين, اللهم أكرمنا بعبوديتك ولا تُهِنا بالذل لغيرك يا رب العالمين.
التعليقات