عناصر الخطبة
1/ جاء الإسلام بما يحقق متانة الرابطة بين أبنائه 2/ التعصب للقبيلة والعشيرة جاهلية جهلاء 3/ الحث على الاجتماع على الحق والهدىاهداف الخطبة
اقتباس
لقد جاء هذا الدين العظيم بما يحقق متانة الصلة وقوة الرابطة وجمال اللُّحمة بلا شقاقٍ ولا تفرُّق ولا نزاعٍ ولا شتات، جاء هذا الإسلام فألَّف بين القلوب من بعد شتاتها، وجمع شملها من بعد فرقتها؛ فحقّق للمسلمين رابطةً عظيمة ثابتةً مستقرة دائمةً لأهلها في الدنيا والآخرة، وجاء الإسلام محذرًا من كل ما يوهِن هذه الرابطة ويضعِف هذه الصلة ويوقِع الأمة في الشتات والفرقة، ومن ذلكم عباد الله: ما جاء في الإسلام من تحذيراتٍ عظيمة من التعصبات العرقية والنزعات الضيِّقة والحمية الجاهلية...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، ومبلِّغ الناس شرعه، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذَّرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى وراقبوه -جل في علاه- مراقبة من يعلم أن ربه يسمعُه ويراه، واذكروا نعمة الله عليكم بهذا الدين العظيم الذي رضيه -جلَّ وعلا- لعباده ولا يرضى لهم دينًا سواه، وسلوه -جلَّ في علاه- الثبات على الحق والهدى، فإنَّ الأمور بيده -جل وعلا- يهدي من يشاء ويثبِّت من يشاء على صراطٍ مستقيم.
أيها المؤمنون عباد الله: لقد جاء هذا الدين العظيم بما يحقق متانة الصلة وقوة الرابطة وجمال اللُّحمة بلا شقاقٍ ولا تفرُّق ولا نزاعٍ ولا شتات، جاء هذا الإسلام فألَّف بين القلوب من بعد شتاتها، وجمع شملها من بعد فرقتها؛ فحقّق للمسلمين رابطةً عظيمة ثابتةً مستقرة دائمةً لأهلها في الدنيا والآخرة، وجاء الإسلام محذرًا من كل ما يوهِن هذه الرابطة ويضعِف هذه الصلة ويوقِع الأمة في الشتات والفرقة، ومن ذلكم عباد الله: ما جاء في الإسلام من تحذيراتٍ عظيمة من التعصبات العرقية والنزعات الضيِّقة والحمية الجاهلية التي تفرق الناس وتنشر بينهم الإحن والتطاحن والعداوة والبغضاء؛ قال الله -جل وعلا-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]، وقال سبحانه: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) [الحج:78]، وقال -جل وعلا-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
أيها المؤمنون عباد الله: إن التعصب القبلي والحمية الجاهلية من تعصبٍ لعرقٍ أو عشيرةٍ أو قبيلة تعصبًا أعمى كيفما كان الأمر في حقٍ أو باطل أو هدًى أو ضلال يُعدُّ في الإسلام جاهليةً جهلاء وضلالةً عمياء، حذَّر منها نبينا الكريم -عليه الصلاة والسلام- في أحاديث متكاثرة ونصوص متضافرة؛ فعن أَبِي نَضْرَةَ -رضي الله عنه- يُحَدِّث عمَّن سَمِعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يقول: "أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى". وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَإِنْ صَامَ وَإِنْ صَلَّى؟! قَالَ: "وَإِنْ صَامَ وَإِنْ صَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ"، فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ، بِمَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ.
وعن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ وَلَا تَكْنُوا".
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَعَانَ قَوْمَهُ عَلَى ظُلْمٍ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الْمُتَرَدِّي يُنزَع بِذَنَبِهِ". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، والنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ فَخْرَهُمْ بِرِجَالٍ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِدَّتِهِمْ مِنْ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ". أخرج هذه الأحاديث الإمام أحمد في مسنده، وكلها صحيحة ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد جاء في معناها أحاديث أخرى عنه -صلوات الله وسلامه عليه- يطول المقام بذكرها.
أيها المؤمنون عباد الله: إن الواجب على المسلم أن يستشعر نعمة الله عليه بالهداية، وأن يعرف فضل الله عليه بهذا الدين، وأن يعلم أن الكرامة الحقيقية والعز الحقيقي إنما هو بطاعة الله واتباع شرعه -جل في علاه-، وأن يحذر أشد الحذر من نحو هذه التعصبات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وأن يعلم أن الفضل الحقيقي والكرامة الحقيقية إنما هي في طاعة الله -عز وجل-؛ قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "إذ الفضل الحقيقي هو اتباع ما بعث الله به محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان والعلم باطنًا وظاهرًا؛ فكل من كان فيه أمكن كان أفضل، والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل: الإسلام، والإيمان، والبر، والتقوى، والعلم، والعمل الصالح، والإحسان، ونحو ذلك، لا بمجرد كون الإنسان عربيًا أو عجميًا، أو أسود أو أبيض، ولا بكونه قرويًا أو بدويًا". انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-.
أيها المؤمنون عباد الله: ولربما ذمَّ شخصٌ آخر في نحو هذه الأمور ويكون مَن ذمَّه خيرًا عند الله -عز وجل- من عشراتٍ أو مئاتٍ من مثل هذا الذام. ألا فلنتق الله -جل وعلا- ولنحقق تقواه؛ فإن الأكرم عند الله الأتقى له -جل في علاه-.
اللهم أصلح لنا شأننا كله، وألِّف بين قلوب المسلمين أينما كانوا على البر والتقوى، واجمع كلمتهم على الحق والهدى، وأعِذهم من الفتن يا رب العالمين ومن نزغات الشيطان ومن شرور النفس ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي لسميع الدعاء.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى.
عباد الله: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن جابر -رضي الله عنه- قال: كَانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ، فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا، وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ؟!"، ثُمَّ قَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "مَا شَأْنُهُمْ؟!"، فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ، فقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ". "دَعُوهَا": أي دعوى الجاهلية والحميَّةَ الباطلة والانتصار لطائفةٍ أو عرقٍ أو جماعةٍ كيفما كان، ووصف -عليه الصلاة والسلام- هذه الدعوى بأنها خبيثة لعظم شرها وكبَر خطرها وسوء عواقبها على أهلها في الدنيا والآخرة.
عباد الله: قال ذلك -عليه الصلاة والسلام- مع أن هذين الاسمين "المهاجرين" و"الأنصار" اسمان شرعيان ورد ذكرهما بالثناء والمدح في كتاب الله -جل وعلا- في مثل قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) [التوبة:100]، ولكن لما حصل هذا التداعي وكلٌّ دعا بقومه وجماعته على هذا النحو حذَّر من ذلك -عليه الصلاة والسلام- أشد التحذير وقال: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ"؛ فكيف -عباد الله- بمن كان تعصبه لأهواء باطلة وتحزباتٍ فاسدة وتجمعاتٍ وتجمهراتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، تفرق وتشتت وتوقع بين أهل الإسلام الإحن والتعادي والتباغض.
ألا فلنحذر -عباد الله- من ذلك كله ولنتق الله -جل وعلا-، ولنحرص على الاجتماع على الحق والهدى وعلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولنحذر من كل تعصباتٍ باطلة وتحزبات ضيقة ما أنزل الله بها من سلطان، تفرِّق جمع المسلمين وتشتت شملهم وتقوِّي من شوكة عدوهم عليهم، وتوقع أهل الإسلام في وهنٍ وضعفٍ لا يحمدون عقباه.
اللهم يا ربنا نتوجه إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت، أن تجمع أمة الإسلام أمة محمد -عليه الصلاة والسلام- على الحق والهدى والبر والتقوى، اللهم ألِّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم أجمعين سُبل السلام يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وأعذ المسلمين أينما كانوا من الفرقة والشتات، اللهم وحِّد صفهم واجمع كلمتهم وألِّف بينهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
واعلموا -رعاكم الله- أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهُدى هُدى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعمَّن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى والبر والتقوى، اللهم وعليك بأعداء المسلمين فإنهم لا يعجزونك، اللهم خالف بين قلوبهم وشتت شملهم واجعل عليهم دائرة السوء يا ذا الجلال والإكرام.
التعليقات