عناصر الخطبة
1/خطورة القلب ووجوب العناية به 2/إهمال الناس للقلوب 3/بعض أمراض القلوب 4/بعض آثار الكبر 5/ذم الكبر وأهلهاهداف الخطبة
اقتباس
إن مرض الكبر وصف الأنذال والأرذال والجهال، المتكبر لا ينظر إليه بعين الرضا والكبر، نشأعنه مرض الحسد، والحسد يولد الحقد الذي ربما حمل صاحبه على قتل من لا ذنب له، وليس هذا كل ما في قلوبنا من الأمراض، بل فيها مرض البخل والشح الذي وصل بنا إلى...
الخطبة الأولى:
عباد الله: لقد كانت القلوب موضع العناية التامة عند السلف الصالح؛ لأنهم يعلمون أنها كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا صلحت صلح الجسد كله".
وذلك؛ لأن مبدأ الحركات البدنية والإرادة النفسية، فإن صدرت من القلوب إرادة صالحة تحرك البدن حركة نحو الطاعة، وإن صدرت عنها إرادة فاسدة تحرك البدن حركة فاسدة، فالقلب كالملك والأعضاء كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك، وتفسد بفساده.
وعليه كان واجباً علينا: أن نكون كما كان سلفنا في العناية والإهتمام بهاتيك القلوب؛ لأن بها سعادتنا -بإذن الله-، وبها شقاءنا -عياذاً بالله-.
ولكن -ياللأسف- ماكان من ذلك الاهتمام شيء، والذي كان منا أننا أهملنا قلوبنا إهمالاً تنجرح منه القلوب، وتذوب له الأكباد، ولذلك نشأ فينا نتيجة الإهمال كثرة الأمراض في القلوب، وتشعبت وصعب شفاؤها، وانعدم أطباؤها، ومن وصل إلى هذا الحد فهو في خطر عظيم.
فمن الأمراض التي أزمنت في قلوبنا: مرض الكبر، ومرض العجب الذي لا يكاد يسلم منه إلا القليل، ولهذا يعتقد الصغير منا والكبير أنه كامل في نفسه، ومن اعتقد ذلك في نفسه هوى وضل؛ لأنه لا ينظر إلى ما به كمال الرجال.
أيها الناس: إن مرض الكبر وصف الأنذال والأرذال والجهال، المتكبر لا ينظر إليه بعين الرضا والكبر، نشأعنه مرض الحسد، والحسد يولد الحقد الذي ربما حمل صاحبه على قتل من لا ذنب له، وليس هذا كل ما في قلوبنا من الأمراض، بل فيها مرض البخل والشح الذي وصل بنا إلى منع الزكاة، وغير ذلك كثير، وكلها أمراض مهلكات، ونحن لا نهتم بقلوبنا، ولا بأمراضنا، بقدر ما نهتم بأمراض أجسامنا، ونسرع في علاجها إلى المستشفيات، وأمراضها يسيرة بسيطة بالنسبة إلى أمراض القلوب.
بل ترى الكثير ممن يهتم بجمال ظاهره، فيبالغ في تحسين ملابسه ومركبه ومسكنه ومجلسه وبدنه، فانظر إليه عند ذهابه إلى مقر عمله لتتعجب من تغفيله وإنخداعه، فلو كانت عنايتنا بالقلوب كعنايتنا بالملابس والظواهر ما كنا بهذه الحالات المحزنات.
عباد الله: إن من يتكبر على خلق الله أذله الله، ومن تواضع لله رفعه الله، والمتكبرون يحشرون يوم القيامة في صور الذر تدوسهم الناس؛ لأنهم هانوا على الله -تعالى-.
المتكبرون شرار الخلق وأهل النار.
المتكبر يشمخ بأنفه إذا تكلم ويجافي مرفقيه عن جنبيه لاوياً عنقه يقارب خطاه إذا مشى، متطاولاً على إخوانه، مترفعاً على أقرانه، ينظر إلى الناس بمؤخر العين، متقدماً عليهم اذا مشى، محتقراً للعامة، ولا فرق عنده بينهم وبين الحميوان، فالمتكبر لا يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه؛ لأنه لايقدر على ذلك ولا يقدر على التواضع الذي هو رأس أخلاق المتقين، ولا يقدر على ترك الحقد، ولا يقدر أن يداوم على الصدق، ولايقدر إلى ترك الغضب، ولا على كظم الغيظ، ولا يسلم من إحتقار الناس وإغتيابهم وتنقصهم؛ لأنه يشعر بالعظمة والعزة والكبرياء، فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر والعظمة مضطر إليه، ليحفظ به عزة وعظمة، ولذلك ورد في الحديث قوله: "لا يدخل الجنة من في قلبه ذرة من كبر".
ومما جاء في وصية لقمان لابنه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان: 18].
ومن تعاليم ربنا لنبيه ولأمته: قوله جل وعلا: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء: 37].
فيا أيها المتكبر المتعاظم في نفسه: إن شأنك حقير، وقدرك صغير، ومالك عند عاقل من حساب ولا تقدير، لا قليل ولا كثير، فهون عليك، وارفق بنفسك، فإنك مغرور يا مسكين، وتدبر كلام رب العالمين: (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) [النحل: 23].
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60].
(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر: 72].
وذم الكبر والمتكبرين في القرآن كثير، وحسب المتكبر أنه عدو الله ولنفسه وللناس، يقصر في الواجب، ويدعي ما ليس له، ثقيل في حركاته وسكناته، بغيض في أمره ونهيه، ومجالسته ومشاركته، فالويل كل الويل لمن صاهره أو شاركه أو ربطته به صلة؛ لأن داء الكبر يعدي، فتبعد السلامة من المقترب منه، قال بعض السلف: كيف يتكبر من أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو مع ذلك يحمل البول والعذرة.
هذا أكبر برهان على أنه دنس جاهل مجهول ممتلئ كبراً وإعجاباً بنفسه، فهو أشبه شيء بالدخان يملأ الفضاء، ويخرب صدور الناس، وأصله من القمامات والأوساخ المبعثرة.
نسأل الله أن يقلل من هذا النوع المنحط، وأن يكثر من أهل التواضع واللين والعطف والحنان.
قال الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83].
اللهم اجعلنا في سلك عبادك الخيار، ونجنا برحمتك من عذاب النار، وأسكنا الجنة مع أوليائك الأبرار.
واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية:
اعلم -يا عبد الله- أن للكبر آثاراً تظهر على الجوارح كلها، فترى المتكبر إن سمح أن يمشي مع الناس يكون متقدماً عليهم، حريصاً جداً أن يكونوا كلهم خلفه، كان عبد الرحمن بن عوف -وهو على غناه- لا يعرف من بين خدمه إذ كان لا يظهر في صورة ظاهرة عنهم.
ومشى قوم وراء الحسن البصري -رحمه الله- فمنعهم.
وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في بعض الأوقات يمشي مع بعض أصحابه، فيأمرهم بالتقدم، ويمشي خلفهم، حتى يعلمهم، ويدفع عن نفسه داء الكبر والإعجاب.
ومن آثار الكبر: أن يترفع المتكبر عن جلوس غيره معه بالقرب منه، وإذا جلس معه جلس بعيداً عنه، بل إن من المتكبرين من إذا قاموا إلى الصلاة، وسمعوا الإمام يأمرهم بتسوية الصفوف، وإلصاق القدم بالقدم، والكتف بالكتف، ترى المتكبرين لا يفعلون ذلك.
ومن آثار الكبر: أن يتكبر الرجل على أهله فلا يتعاطى شغلاً في بيته، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كما روت عائشة: "كان في مهنة أهله" يعني في خدمتهم ومعاونتهم.
وروي عن عمر بن العزيز -رحمه الله تعالى- أتاه ليلة ضيف وكان يكتب، فكاد المصباح أن يطفأ، فقال: الضيف أقوم إلى المصباح فأصلحه، فقال: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه، قال: أفأنبه الغلام؟ أي الخادم، فقال عمر: هي أول نومة نامها، فقام وملأ المصباح زيتاً، فقال الضيف: قمت أنت يا أمير المؤمنين؟ فقال: ذهبت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر، ما نقص مني شيء، وخير الناس من كان عند الله متواضعاً.
ومن آثار الكبر الذي يحسبه الناس شيئاً هيناً وهو عند الله عظيم: إسبال الثوب، أي إطالته أسفل من الكعبين، بل بعضهم يمس لباسه الأرض، وبعضهم يسحبه خلفه، فاسمعوا -رحمكم الله- ما قاله نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشأن، فعن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره" أي الذي يطيل ثوبه أسفل الكعبين "والمنان" أي الذي يعطي شيئاً ثم يتكلم به "والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".
وقد يقول قائل: إن إسبالي لثوبي ليس كبراً، فهو يزكي نفسه تزكية غير مقبولة، وحتى وإن لم يقصد به الكبر، فإن ذلك منهي عنه، جاء فيه وعيد آخر قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار".
فإذا أسبل الرجل ثوبه خيلاء وتكبراً صارت عقوبته أشد وأعظم.
وهذا الحكم يخص الرجال، وقد رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- للمرأة أن ترخي ثوبها شبراً أو ذراعاً لستر قدميها، خوفاً من الإنكشاف، ولكن لا يجوز للمرأة أن تجاوز هذا الحد كماهو الحال في بعض ثياب العرائس التي تمتد أشباراً وأمتاراً، وربما حمل ورائها.
ومن آثار الكبر: جعل بعض الرجال خاتم ذهب أو ساعة فيها ذهب، أو نظارات فيها ذهب، فاسمع ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك حين رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فرماه، ثم قال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده".
وقد يصل الكبر إلى درجة الكفر -والعياذ بالله- فمن ذلك؛ ما روي أن رجلاً دخل مسجد البصرة، فبسط ناس له رداءً تعظيماً له، فمشى عليها، وقال لرجل يماشيه: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ) [الصافات: 61] أداه كبره إلى أن يستهزئ بآية من آيات الله.
نعم، إلى هذا الحد يصل الكبر بأهله.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
وسل العياذ من التكبر والهوى *** فهما لكل السر جامعتان
وهما يصدان الفتى عن كل طريق *** الخير إذ في قلبه يلجان
فتراه يمنعه هواه تارة *** والكبر أخزى ثم يجتمعان
والله ما في النار إلا تابع *** هذين فاسأل ساكني النيران
فنصيب المتكبر من الله كما سمعتم من الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة التي إذا سمعها المتواضع الموفق، فتش عن نفسه وحاسبها مخافة أن يكون قد دخل عليه الكبر، وهو غافل عنه، وأما نصيب المتكبر من الناس أنه ممقوت، محتقر عندهم، فهم يدركون أنه لئيم، لا يتواضع إلا إذا أهنته، ولا يعرف نفسه إلا إذا احتقرته.
فاللهم نجنا من الكبر وأهله، وعافنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
التعليقات