عناصر الخطبة
1/ فضائل مريم عليها السلام 2/ تأملات في قصة مريم عليها السلام وحملها وإنجابها 3/ معجزة ميلاد عيسى ابن مريم عليهما السلام 4/ دروس وعبر .اهداف الخطبة
اقتباس
لقد نشأت مريمُ -رضي الله عنها- في بني إسرائيل نشأةً عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل الدءوب. فبعدما جعلت أمُ مريمَ ابنتَها مريمَ محررةً تخدم بيتَ المقدس، وكفلها زوج أختها نبي الله في ذلك الزمان زكريا -عليه السلام-، واتخذ لها محراباً وهو المكانُ الشريف من المسجد لا يدخله أحدٌ عليها سواه.. ولما بلغت اجتهدت في العبادة، فلم يكن في ذلك الزمان نظيراً لها في فنون العبادات، وظهر عليها من الأحوالِ ما غبطَها به زكريا -عليه السلام-..
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أيها الإخوة: ومن عباد الله الصالحين: الشريفةُ الطاهرة العفيفة مريمُ ابنة عمران العذراء البتول -رضي الله عنها-، التي أحصنت فرجها، وحافظت على عرضها، وأطاعت ربها؛ فكانت من القانتين..
مريمُ -رضي الله عنها- التي تبوأت مكانةً عظيمة في الإسلام فذَكَرَها الله في كتابه العزيز باسمها الصريح أربعاً وثلاثين مرة.. بل في كتاب الله –تعالى- سورةٌ باسمها.. وذكر الباري قصتها وما حوت من مواقفَ وآياتٍ باهرات دمغت أهلَ الباطل وكشفت باطلهم سواء منهم من غلى فيها فوضعها فوق مكانتها، أو من جفا فرمها بالبهتان..
أيها الإخوة: لقد نشأت مريمُ -رضي الله عنها- في بني إسرائيل نشأةً عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل الدءوب.
فبعدما جعلت أمُ مريمَ ابنتَها مريمَ محررةً تخدم بيتَ المقدس، وكفلها زوج أختها نبي الله في ذلك الزمان زكريا -عليه السلام-، واتخذ لها محراباً وهو المكانُ الشريف من المسجد لا يدخله أحدٌ عليها سواه..
ولما بلغت اجتهدت في العبادة، فلم يكن في ذلك الزمان نظيراً لها في فنون العبادات، وظهر عليها من الأحوالِ ما غبطَها به زكريا -عليه السلام-.. ورأى لها من الكرامات الهائلة ما بهره (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران:37].
واستكمالاً لقصتها الباهرة نصغي لقول الباري عنها في كتابه الكريم في سورة مريم -رضي الله عنها- حيث قال -ومن أصدقُ منه قيلاً-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [أي: تباعدت عن أهلها] مَكَانًا شَرْقِيًّا [أي: مما يلي الشرق عنهم]* فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا [أي: سترًا ومانعًا، وهذا التباعدُ منها، واتخاذُ الحجاب، لتعتزل، وتنفرد بعبادة ربها، وتقنت له في حالة الإخلاص والخضوع والذل له سبحانه] فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [وهو جبريل -عليه السلام-] فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [أي كاملاً من الرجالِ في صورةِ جميلة وهيئةٍ حسنة لا عيب فيه ولا نقص؛ لكونها لا تحتمل رؤيته على ما هو عليه فلما رأته في هذه الحال وهي معتزلةُ عن أهلها منفردةٌ عن الناس قد اتخذت الحجابَ عن أعز الناس عليها وهم أهلُها خافت أن يكون رجلاً قد تعرض لها بسوءٍ وطمعَ فيها فاعتصمت بربها واستعاذت منه] * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ [أي ألتجئُ به وأعتصم برحمته أن تنالني بسوء] إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [أي: إن كنت تخافُ الله وتعملُ بتقواه فاترك التعرض لي فجمعت بين الاعتصام بربها وبين تخويفه وترهيبه وأمره بلزوم التقوى، وهي في تلك الحالةِ الخاليةِ والشبابِ والبعدِ عن الناس، وهو في ذلك الجمالِ الباهرِ والبشرية الكاملة السوية، ولم ينطق لها بسوء أو يتعرض لها..
وإنما ذلك خوفٌ منها وهذا أبلغ ما يكون من العفةِ والبعدِ عن الشرِ وأسبابِه وهذه العفةُ خصوصاً مع اجتماعِ الدواعي وعدمِ المانعِ من أفضل الأعمال.. فلما رأى جبريلُ منها الروع والخيفة] قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [ أي: إنما وظيفتي وشغلي تنفيذُ رسالةِ ربي فيك.. وهذه بشارةٌ عظيمةٌ بالولد وزكائه؛ فإن الزكاءَ يستلزمُ تطهيرَه من الخصالِ الذميمةِ واتصافَه بالخصالِ الحميدة فتعجبت من وجود الولد من غير أب فليس لها زوج، ولا يتصورُ منها الفجور] * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* [والولد لا يوجد إلا بذلك!
فأجابها الملكُ عما سألت] قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [أي: دلالةً وعلامة للناس على قدرة بارئِهم وخالقهم، الذي نوع في خلقهم، فخلق أباهم آدمَ من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر، فتمت القسمةُ الرباعيةُ الدالةُ على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه] وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [أي أن وجودَ عيسى -عليه السلام- على هذه الحالةِ أَمْرٌ مَقْضِيٌّ قضاءً سابقا فلا بد من نفوذ هذا التقديرِ والقضاءِ فنفخ جبريلُ -عليه السلام- في جيبها]*.
فَحَمَلَتْهُ [والمشهور الظاهر والله على كل شيء قدير أنها حملت به كما تحمل النساءُ بأولادهن تسعةَ أشهرٍ، ولما استشعرت من قومها اتهامَها بالريبة] فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا [أي بعيداً عن الناس لئلا تراهم ولا يَرَوُها]* [مريم: 18- 22].
أيها الإخوة: وها هي في موقف أشدُ هولاً من موقف الحمل. فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق، بينها وبين نفسها، فهي هنا وشيكةٌ أن تواجه المجتمع بالفضيحة.. ثم تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية. تواجه المخاض الذي أجاءها فألجأها إلى جذع النخلة، واضطرها اضطراراً إلى الاستناد عليها. وهي وحيدةٌ فريدة، تعاني حيرةَ العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء..
نعم] فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [تمنت أنها ماتت ونُسيت لهولِ الموقف وفظاعتِه؛ فإنها عرفت أنها ستُبتلى وتُمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناسُ أمرَها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، فبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة، ستصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية..
هنا يأتي الفرج والوعد الصادق من الملك ليسكن روعها ويثبت جأشها* ] فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي [وذلك من مكان أنزل من مكانها، وقال لها: لا تحزني، أي: لا تجزعي ولا تهتمي، فـ] قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [ أي: نهرا تشربين منه.]* وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [ أي: طريًّا لذيذًا نافعًا] * فَكُلِي [من التمر] وَاشْرَبِي [من النهر] وَقَرِّي عَيْنًا [بعيسى، فهذا طمأنينتُها من جهة السلامة من ألم الولادة، وحصول المأكل والمشرب والهني.
وأما من جهة قالة الناس، فأمَرها أنها إذا رأت أحدًا من البشر، أن تقول على وجه الإشارة:] فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * [أي: لا تخاطبيهم بكلام، لتستريحي من قولهم وكلامهم.
وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة، وإنما لم تؤمر بخطابهم في نفي ذلك عن نفسها لأن الناس لا يصدقونها، ولا فيه فائدة، وليكون تبرئتَها بكلامِ عيسى في المهد، أعظمَ شاهد على براءتها؛ فإن إتيان المرأة بولد من دون زوج، ودعواها أنه من غير أحد، من أكبر الدعاوى، التي لو أقامت عليه عددًا من الشهود، لم تُصدق بذلك، فجعلت بينةَ هذا الخارق للعادة، أمراً من جنسه، وهو كلام عيسى في حال صغره جداً]*.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: تعالوا لنشهد هذا المشهد المثير مشهد لقاء مريم بقومها: وتصوروا الدهشة التي تعلو وجوهَهم، وهم أهلُ بيتها الأقربون، وهم يرون ابنتهم الطاهرة العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة.. يرونها تحمل طفلاً! فقالوا لها على سبيل التقريع والتأنيب]: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [ فظيعاً مستنكراً ثم يتحول السخط إلى تهكم مرير] * يَا أُخْتَ هَارُونَ [الظاهر، أنه أخ لها حقيقي، فنسبوها إليه، وكانوا يسمون بأسماء الأنبياء وليس هو هارون بن عمران أخا موسى؛ لأن بينهما قرونا كثيرة] مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [حتى تأتي بهذه الفعلِة التي لا يأتيها إلا بناتُ آباءِ السوء والأمهاتِ البغايا..!.] [مريم: 23- 28].
هنا تُنَفْذُ مريمُ وصيةَ المَلَك -عليه السلام- التي لقنها إياها.. ولقد ساورهم العجبُ والغيظ وهم يرون عذراءَ تواجههم بطفلٍ..! ثم تتبجحُ فتسخر ُممن يستنكرون فِعْلَتها كما يرون فتصمت وتشير لهم إلى الطفل ليسألوه عن سرها..!] فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم: 29- 33].
[وهكذا يعلن عيسى -عليه السلام- عبوديته لله. فليس ابناً لله كما تدعي فرقة. وليس إلهاً كما تدعي فرقة أخرى. وليس ثالث ثلاثة الذين هم إله واحد وهم ثلاثة كما تدعي فرقة.. ويعلنُ للناسِ أن الله جعله نبياً، لا ولداً ولا شريكاً، وأنه -سبحانه- بارَك فيه وأوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته، كما أوصاه بالبرِ بوالدته والتواضعِ مع عشيرته. فله إذن حياةٌ محدودة ذاتُ أمد. وهو يموت ويبعث. وقد قدر الله له السلام والأمان والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً..
ولم يزد القرآن شيئاً على هذا، فلم يذكر كيف استقبل القوم هذه الآية. ولا ما كان بعدها من أمر مريم وابنها العجيب. ولا متى كانت نبوته التي أشار إليها]، ثم قال سبحانه (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم: 34-35]
هذه قصة مريم -رضي الله عنها- وأرضاها وفي الاطلاع عليها عظة وعبرة، أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه؛ إنه جواد كريم ... وصلوا سلموا على نبيكم يعظم الله أجركم..
التعليقات