عناصر الخطبة
1/منزلة الرؤيا ومكانتها في الإسلام 2/أنواع ما يراه المرء في منامه وآداب كل نوع 3/تأويل الرُّؤيا بمنزلة الفتوى وما يجب على مَنْ تصدّروا لتعبير الرؤىاقتباس
الرؤيا لها مكانة عظيمة، ومنزلة شريفة؛ فهي مبدأ الوحي، وحفل القرآن الكريم بموضوع الرؤى والأحلام، وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ما يراه المرء في منامه ثلاثة أقسام: رؤيا صالحة، وحديث نفس، وتحزين شيطان، وهناك...
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمدًا دائمًا مُتصلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلقَ العبادَ ليبلُوهم أيُّهم أحسنُ عملاً، شهادةً تُبلِّغُ من رِضوان ربِّنا الأمَلا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه هدانا سُبُل الهُدى والخير ذُلُلاً، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آلهِ البالغين ذُرَى الحق لا يبغُون عنها حِولاً، وصحبِه الأُلَى كانوا في التُّقَى مثلاً، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها المسلمون: النوم آية من آيات الله -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ ۚإِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)[الروم: 23]، وفي النوم يحصل ما يعرف بالمنامات وهي الرؤى والأحلام، وهي من آيات الله -تعالى-، ومن بشرى الله -تعالى- لعباده وأوليائه في الحياة الدنيا، والرؤيا لها مكانة عظيمة، ومنزلة شريفة؛ فهي مبدأ الوحي؛ كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: "أَوَّلُ مَا بُدِئ بِهِ رَسُولُ اللهِ -ﷺ- مِنَ الْوَحْيِ الرؤيَا الصَّادقة فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ"(رواه البخاري)، وقال ﷺ: "الرُّؤيا الصالحة جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جُزءًا من النبوَّة"(خرَّجه الشيخان)، وقال: "لم يبقَ من النبوَّة إلا المُبشِّرات" قالوا: وما المُبشِرات؟ قال: "الرُّؤيا الصالحة"(رواه البخاري ومسلم).
ولقد كان من اهتمامه ﷺ بالرؤيا أنه كان يقول لأصحابه -رضوان الله عليهم- إذا انصرف من صلاة الصبح: "هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟"(رواه مسلم).
وقد حفل القرآن الكريم بموضوع الرؤى والأحلام، فورد ذكرها في سور: يوسف، والأنفال، والفتح، وفي سورة الصافات رؤيا خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام-: (قَال يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى في المنامِ أَنِّي أذْبَحُكَ فانْظُرْ ماذَا ترى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إنْ شَاءَ اللهُ مِن الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102]، فعزم على ذبح ابنه، وانقاد إسماعيل -عليه السلام- طائعاً لأمر الله ففداه الله بذبح عظيم، فرؤيا الأنبياء وحي إلهي؛ فإنها معصومة من الشيطان وهذا باتفاق الأمة، وأما رؤيا غير الأنبياء فتُعرض على الوحي الصريح فإن وافقته وإلا لم يعمل بها، وهذا مسألة ضلّ فيها كثير من المُبتدعة من الصوفية وغيرهم من الجهال.
وفي سورة يوسف حديث عن الرؤيا الصالحة العجيبة، فقد بدأت السورة برؤيا، وتوسطت برؤيا، وانتهت بتحقيق تلك الرؤيا الصالحة.
وهذا رسول الله -ﷺ- رأي ليلةَ غزوةِ بدرٍ الكفار وهم قلّة، تشجيعاً للمؤمنين على القتال كما في سورة الأنفال، وكذلك رؤيا دخوله مع المسلمين المسجد الحرام، وفتح مكة المبين: (لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح: 27].
واعلموا -رعاكم الله- أن ما يراه المرء في منامه ثلاثة أقسام: رؤيا صالحة، وحديث نفس، وتحزين شيطان، ففي الصحيحين أن النبي -ﷺ- قال: "الرؤيا ثلاثة: الرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزينٌ من الشيطان، ورؤيا مما يحدّث المرء نفسه"، ومن أهاويل الشيطان تلاعبُهُ بالإنسان في منامه، جاء أعرابي إلى النبي -ﷺ- فقال: يا رسول الله رأيتُ في المنام وأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددتُ على أثره؟ فقال ﷺ للأعرابي: "لا تحدّث الناسَ بتلاعّب الشيطان بك في منامك"، وقال: "الرؤيا من الله، والحُلْم من الشيطان"(أخرجهما مسلم)، قال ابن الأثير: "الرؤيا والحُلْم عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء؛ لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وغلبَ الحلمُ على ما يراه من الشر والقبيح".
وهناك آداب شرعية وردت في السنة النبوية ينبغي أن يفعلها من رأى في منامه شيئاً؛ فإن رأى خيراً يُفرح به فيستحب له ثلاثةُ آداب: أن يحمد الله عليها، وأن يستبشر بها، وأن يحدث بها من يحب دون من يكره.
أما الرؤيا المكروهة لها آداب؛ منها: الاستعاذةُ بالله من شرها، والاستعاذة من الشيطان ثلاثاً مع التفل عن يساره ثلاثا، والنفث: نفخ لطيف لا ريق معه.
ومن الآداب: أن يتحول النائم عن الجنب الذي كان عليه، ومنها: أن يصلي ما كتب له، ومن ذلك: أن لا يحدّث بها أحداً أبداً، فإنها إن شاء الله لا تضره.
وصدق الرؤيا بحسب صدق الرائي، قال ﷺ: "إذا اقتربَ الزمانُ لم تكَد رُؤيا المؤمنِ تكذِب، وأصدقُهم رُؤيا أصدقُهم حديثًا"(متفق عليه)، قال ابن القيم -رحمه الله- في المدارج: "ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحرّ الصدق، وأكل الحلال، والمحافظة على الأوامر والنواهي، ولينم على طهارة كاملة، مستقبلا القبلة، ويذكر الله حتى تغلبه عينه، فإن رؤياه لا تكذب البتة، وأصدق الرؤيا ما كان بالأسحار، فإنه وقت النزول الإلهي، واقتراب الرحمة والمغفرة، وسكون الشياطين".
وتأويلُ الرُّؤيا بمنزلة الفتوى، ففي التنزيل: (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)[يوسف: 43]، فسمَّى تعبيرَ الرُّؤى فتوى، فلا يخاض غِمارُ الرُّؤَى إلا بفهمٍ وعلمٍ وبصيرةٍ نافِذةٍ وحلمٍ، وروي في الحديث: "لا تقُصُّوا الرُّؤيا إلا على عالِمٍ أو ناصحٍ"(خرجه الترمذي)، وسُئِل الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-: أيعبُرُ الرُّؤيا كلُّ أحد؟ فقال: "أبالنبوة يُلعَب؟!"، فلا يعبُرُ الرُّؤيا إلا من يُحسِنُها؛ فإن رأى خيرًا أخبرَ به، وإن رأى مكروهًا فليقُل خيرًا أو ليصمُت، ويقول نِحريرُ المعبرين محمد بن سيرين -رحمه الله-: "اتَّقِ الله وأحسِن في اليَقَظة فإنه لا يضُرُّك ما رأيتَ في المنام"، فما كلُ ما يرى في المنام يكون حقاً، فإن من الرؤى أضغاث أحلام وتلاعب شيطان، وقد قرر أهل العلم بأن الرؤيا لا تصلح بأن تشرِّع حكماً أو تحل حراماً، أو توجب شيئاً، أو يسيء أحد الظنَ بمسلم ظاهره العدالة، قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله -: "الرؤيا تسرُّ المؤمنَ ولا تغرُّه"، وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "لا يعتمد على المنامات في خلاف ما ثبت به الشرع".
وواجبٌ على مَنْ تصدّروا لتعبير الرؤى: أن يتقوا الله -تعالى-، وأن ينصحوا لعباده، وأن يستروا عورات الناس، وأن لا يقولوا ما لا يحسنون، يقول ابن القيم: "المفتي والمعبِّر والطبيب يطلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم، فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره".
وحذارِ -عباد الله- من بعض الأدعياء الغششة الذين استغلوا تعلق بعض الناس بالأحلام، فأصبح تفسير الأحلام شغل من لا شغل له، متصدرين القنوات ومعرفات مواقع التواصل، وهدفهم الشهرة والربح المادي، وحصل بسببهم استِغفال العوام، وتلاعُب بقاصِرات العقول والأفهام، واستِنزافِ الجُيوبِ بتجارة الأوهام فلا تسلموا عقولكم لهم.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المُسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستِغفروه، وتوبوا إليه، واشكُروه، إن ربَّنا لغفورٌ شكورٌ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد: فاتقوا الله -عباد الله -حق التقوى، واعتصِموا بحبله المتين، واحذَروا التشبُّث بأضغاث الأحلام، وتوكَّلوا على الله حق توكله في عزمِكم، وجميع الأمور، فالأمور كلها بيده، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، واتقوا الله في كل ما تقولون وما تعبرون، والزموا الأوراد والأذكار والرقية الشرعية، وأحسنوا يكفكم الله شر كل ذي شرٍ في يقظة أو منام.
ثم اعلموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون؛ أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن بقية العشرة، وأصحاب الشجرة، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك، يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده لما تحب وترضى، وانصر جنودنا المرابطين، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
التعليقات