خطر الكهان

سليمان بن خالد الحربي

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/الغيب لا يعلمه إلا الله 2/من صور ادعاء علم الغيب 3/الحكمة من استراق الجن للسمع 4/شبهات والرد عليها

اقتباس

الَّذِي يُشَاهِدُهَا وَلَا يُنْكِرُهَا وَإِنَّمَا لِلتَّسْلِيةِ يَدْخُلُ فِي الإِثْمِ، وَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الإِثْمِ، وَيَكُونُ فِي حُكْمِ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إنَّ الحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينَهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ محمَدًا عبدُه ورسولُه، صَلَّى اللهُ علَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ, وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ واقْتَفَى أَثَرَهُ إلى يَوْمِ الدِّينِ، وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

 

أمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلا-؛ (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران:30].

 

مَعْشَرَ الإِخْوَةِ: إِنَّ مِنْ الـمَسَائِلِ الكُبْرَى الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ أَتَمَّ بَيَانٍ وَأَوْضَحَهُ أَتَمَّ إِيضَاحٍ: أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هُوَ العَالِـمُ بِالغَيْبِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الـمُتَفَرِّدُ بِذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, قَالَ -تَعَالَى-: (لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ)[النمل:65]، وقال -تعالى-: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الأنعام:59]، وقال -سبحانه-: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[هود: 123].

 

وَلَقَدْ نَفَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مَهْمَا عَلَا قَدْرُهُ مَعْرِفَتَهُ بِالغَيْبِ, إِلَّا بِـمَا أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيْهِ, حَتَّى الـمَلائِكَةَ وَالرُّسُلَ؛ (قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[البقرة:32]، وَحَتَّى الجِنَّ بَيَّنَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ، فَقَالَ -تَعَالَى- فِي قِصَّةِ مَوْتِ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ)[سبأ:14].

 

وَقَدْ كَانَتِ الجِنُّ تَعْمَلُ بَيْنَ يَدَي سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَهُوَ وَاقِفٌ وُقُوفَ الـمُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى مِنْسَأَتِهِ -وَهِيَ عَصَاهُ-, وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ حَيٌّ وَهُوَ مَيِّتٌ قَدْ فَارَقَتْ رُوُحُهُ جَسَدَهُ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَبْصُرُونَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ مُنْذَ زَمَانٍ بَعِيدٍ، وَهُمْ يَكْدَحُونَ وَيَتْعَبُونَ خَائِفِينَ مِنْهُ، يُحَاوِلُونَ أَنْ يَجِدُوا الـمَخْرَجَ وَالـمَلْجَأَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ العَذَابِ الـمُهِينِ!.

 

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِنْفَارِ كُلِّ قُوَاهُمْ وَأَعْوَانِهِمْ؛ حَتَّى يَظْفَرُوا بِخَبَرٍ مِثْلَ خَبَرِ وَفَاةِ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَمَعَ هَذَا فَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي يَنْتَظِرُونَ وَفَاتَهُ قَدْ مَاتَ وَفَاتَ؛ (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ)[سبأ:14], فَحَتَّى الجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ.

 

وَإِذَا كَانَتِ الـمَلَائِكَةُ -وُهُمُ الصَّالِحُونَ الـمُنَزَّهُونَ لَا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ- فَكَيْفَ بِالجِنِّ وَفِيهِمُ الـمَرَدَةُ وَالشَّيَاطِينُ وَالفُسَّاقُ وَالضُّلَّالُ؟! فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يُحْجَبُوا عَنْ مَعْرِفَةِ عِلْمِ الغَيْبِ.

 

فَالأَنْبِيَاءُ وَالـمَلَائِكَةُ وَالجِنُّ وَالإِنْسُ لَا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ, قَالَ -تَعَالَى-: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[المائدة:109], وَقَالَ أَوَّلُ الرُّسُلِ نُوحٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ)[هود: 31].

 

وَهَذَا آخِرُ الرُّسُلِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأعراف:188], وَقَالَ أَيْضًا: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)[الأحقاف: 9].

 

فَهَذَا حَالُ الرُّسُلِ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ, يَنْفُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَعْرِفَتَهُمْ بِعِلْمِ الغَيْبِ, وَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ: (لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[المائدة:109].

 

وَمَعَ هَذَا الوُضُوحِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الآيَاتُ القُرْآنِيَّةُ فِي نَفْيِ عِلْمِ الغَيْبِ عَنِ الـمَخْلُوقِينَ, حَتَّى وَلَوْ كَانُوا مَلَائِكَةً أَوْ رُسُلًا، إِلَّا أَنَّهُ يُوجَدُ مَنِ ادَّعَى عِلْمَ الغَيْبِ، وَمَنِ ادَّعَاهُ فَقَدْ كَفَرَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

 

وَلِادِّعَاءِ عِلْمِ الغَيْبِ صُوَرٌ وَأَشْكَالٌ مُخْتَلِفَةٌ؛ فَالكُهَّانُ، وَالعَرَّافُونَ، وَالـمُنَجِّمُونَ، وَالـمُشَعْوِذُونَ، وَأَصْحَابُ الكُشُوفَاتِ بِزَعْمِهِمْ، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَدَّعِي عِلْمَ الغَيْبَ.

 

وَمِنْ أَبْوَابِ ادِّعَاءِ عِلْمَ الغَيْبِ: مَا يُسَمَّى بالأَبْرَاجِ, يَزْعُمُ فِيهِ الـمُنَجِّمُونَ أَنَّ مَنْ وُلِدَ فِي بُرْجِ كَذَا فَإِنَّهُ هَذَا الأُسْبُوعَ سَوْفَ يَخْسِرُ، أَوْ مَنْ وُلِدَ فِي بُرْجِ كَذَا فَسَوْفَ يَرْبحُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الافْتِرَاءَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ؛ لِـمَا فِيهِ مِنَ ادِّعَاءِ عِلْمِ الغَيْبِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ وَالكَهَانَةِ.

 

فَالوَاجِبُ عَلَى الـمُسْلِمِ أَن لَا يَقْرَأهَا وَلَوْ مِنْ بَابِ التَّسْلِيَةِ، وَأَنْ يُقَاطِعَ هَذِهِ الـمَجَلَّاتِ الهَدَّامَةِ لِلْعَقِيدَةِ، وَأَنْ يُنَاصِحَ القَائِمِينَ عَلَى هَذِهِ الـمَجَلَّاتِ؛ إِنْكَارًا لِلشِّرْكِ وَنُصْرَةً لِلتَّوْحِيدِ.

 

أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ)[الشعراء: 221 - 223].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِـمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخُطْبَةُ الثانيةُ:

 

الحَمْدُ للهِ علَى إِحْسَانِهْ، والشُّكْرُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهْ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ تَعْظِيمًا لِشَأنِهْ، وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى جَنَّتِهِ ورِضْوَانِهْ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وأعوانِهْ, أمَّا بَعْدُ:

 

مَعْشَرَ الإِخْوَةِ: وَمِنَ الـمُحَرَّمَاتِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ مُشَاهَدَةِ بَرَامِجِ الأَبْرَاجِ, وَمَنْ يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الغَيْبِ وَلَوْ مِنْ بَابِ التَّسْلِيَةِ, أَوْ مَعْرِفَةِ مَا يَتَوَقَّعُونَهُ مِنْ دُونِ تَصْدِيقِهِمْ, قَالَ الشَّيْخُ صَالِحُ الفَوْزَانُ: "الَّذِي يُشَاهِدُهَا وَلَا يُنْكِرُهَا وَإِنَّمَا لِلتَّسْلِيةِ يَدْخُلُ فِي الإِثْمِ، وَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الإِثْمِ، وَيَكُونُ فِي حُكْمِ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ), وَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ"(رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ).

 

فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ أَتَى إِلَيْهِمْ إَذْا فَتَحَ الـمِذْيَاعَ أَوِ الآلَةَ الَّتِي مَعَهُ, أَوِ الإِنْتَرْنِتَ أَوِ التِّلْفَازَ عَلَى هَذِهِ الـمَحَطَّاتِ؛ لِيَتَفَرَّجَ وَلَا يُنْكِرَ, فَإِنَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الإِثْمِ، هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِمْ وَفَتَحَ الـمَجَالَ لَهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ، فَيَكُونُ كَمَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ, وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي القُرْآنِ: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام:68]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)[النساء:140]، فَأَنْتَ مِثْلَ الجَالِسَ مَعَهُمْ" انْتَهَى.

 

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُمْ قَدْ يُخْبِرُونَ فَيَصِحُّ قَوْلُهُمْ؟!.

وَالجَوَابُ: أَنَّ رَسُولَنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَ بِهَذَا وَسُئِلَ عَنْهُ, كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَاسٌ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: "لَيْسَوا بِشَيْءٍ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهُمْ يُحَدِّثُوننَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا مِنَ الْجِنِّيِّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِئَةَ كَذْبَةٍ", وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ": "أَنَّ اللهَ إِذَا أَوْحَى الأَمْرَ يَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَوَاتِ بَعْضًا عَنْ قَوْلِ رَبِّهِمْ, حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ، فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيُرْمَوْنَ بِهِ، فَمَا جَاؤوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ".

 

فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الحِكْمَة مِنْ تَمْكِينِهِمْ؛ لِيَسْمَعُوا هَذَا الخَبَرَ وَلِمَ لَا يُمْنَعُونَ؟.

فَالجَوَابُ: هُوَ الاِبْتَلَاءُ وَالاِمْتِحَانُ وَصِدْقُ الاِسْتِسْلَامِ، وَمَنْ يُقَدِّمُ طَاعَةَ اللهِ عَلَى طَاعَةِ هَوَاهُ, وَحُبِّهِ لِاسْتِشْرَافِ الـمَغِيبِ الَّذِي نُهِيَ عَنْ مُحَاوَلَةِ مَعْرِفَتِهِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَـمْتَحِنُ القُلُوبَ وَيَرَى الـمُسْتَسْلِمَ لِأَمْرِهِ, الصَّادِقَ فِي إِيـمَانِهِ, مَمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَركَبَ عَقْلَهُ؛ لأَنَّهُمْ لَوْ جَاؤوا بِالبَاطِلِ الخَالِصِ الـمَحْضِ مَا صَدَّقَهُمْ أَحَد، لَكِنْ إِذَا خَلَطُوهُ بِشَيْءٍ مِنَ الحَقِّ صَدَّقَهُمُ النَّاسُ؛ فَيَكُونُ فِيهِ فِتْنَةٌ لِضُعَفَاءِ الإِيـمَانِ وَضُعَفَاءِ العُقُولِ، يَأْخُذُونَ البَاطِلَ الكَثِيرَ بِسَبَبِ حَقٍّ يَسِيرٍ خَالَطَهُ.

 

وَمِثْلُ هَذَا مَا يَرَاهُ النَّاسُ مَعَ السَّحَرَةِ وَقَارِئِي الأَبْرَاجِ، فَإِذَا كُنْتَ مِمَّنْ تَأَثَّرَ بِصِدْقٍ وَاحِدٍ مَعَ وُجُودِ مِائَةِ كَذِبَةٍ, فَكَيْفَ سَيَكُونُ حَالُكَ مَعَ الدَّجَّالِ؟! فَإِنَّ الدَّجَالَ الأَكْبَرَ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ: أَمْطِرِي؛ فَتُمْطِرُ، وَلِلأَرْضِ: أَنْبِتِي؛ فَتُنْبِتُ، وَلِلْخَرِبَةِ: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ؛ فَتُخْرِجُ كُنُوزَهَا تَتْبَعَهُ، وَيَقْتِلُ رَجُلًا ثُمَّ يَمْشِي بَيْنَ شِقَّيهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُمْ؛ فَيَقُومُ, وَمَعَ هَذَا فَهُوَ دَجَّالٌ!.

 

فَيَا عِبَادَ اللهِ: اسْتَسْلِمُوا لِأَمْرِ رَبِّكُمْ، فَمَا تَفَاضَلَ النَّاسُ فِي إِيـمَانِهِمْ بِـمِثْلِ اسْتِسْلَامِهِمْ وَإِذْعَانِهِمْ لِأَمْرِ رَبِّهِمْ، فَاحْفَظُوا عَقِيدَتَكُمْ وَتَوْحِيدَكُمْ وَاحْذَرُوا مِنْ تَنَاقُلِ الـمَقَاطِعِ عَبْرَ شَبَكَاتِ التَّوَاصُلِ, أَوْ نَقْلِ أَحَادِيثِهِمْ وَكَذِبِهِمْ، وَالتَّلْبِيسِ عَلَى النَّاسِ، فَلَا تُشَارِكُوهُمُ الكُفْرَ وَالشِّرْكَ، وَتُرَوِّجُوا لَهُ؛ فَالـمَسْأَلَةُ تَوْحِيدٌ وَشِرْكٌ، وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ، وَنَحْنُ فِي زَمَنِ الفِتَنِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا تَوْحِيدَنَا وَإِيمَانَنَا.

 

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ الهُدَى وَإِمَامِ الوَرَى؛ فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِينَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ الـمَهْدِيينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ, وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ, وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وكَرَمِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالـمُسْلِمِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الـمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِكَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِاليَهُودِ الـمُعْتَدِينَ وَالنَّصَارَى الـمُحَارِبِينَ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَكَ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِـمَا يُرْضِيكَ، وَجَنِّبْهُمْ مَعَاصِيكَ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَى التَّائِبينَ، وَاهْدِ ضَالَّ الـمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ رُدَّهُمْ إِلَيْكَ رَدُّا جَمِيلًا.

 

عِبَادَ اللهِ: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90]، فَاذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ العَظِيمَ يَذْكُركُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

 

المرفقات
ofMJVA7V5sN1Ey3LfiBddsYFNIajcD3n6uHXNvwh.doc
0RRXxi9juCwkiJDCdZdbGt5adCzJ7mtEYAvCQ0hN.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life