عناصر الخطبة
1/وسطية الأمة المسلمة 2/معالم وسطية الأمة في عقائدها وعباداتها 3/معنى الوسطية وحقيقتها 4/انحرافات ومفاهيم باطلة تحت ستار الوسطية.اقتباس
الْوَسَطِيَّةُ مُصْطَلَحٌ شَرْعِيٌّ يُسْتَقَى مِنْ مَعِينِهِ الصَّافِي، وَلَا يُخْضَعُ لِلْأَهْوَاءِ أَوْ الْآرَاءِ الذَّاتِيَّةِ، وَلَا يُطَوَّعُ لِيَتَلَاقَى مَعَ أَوْهَامِ الْحَضَارَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَلَا يُتَّبَعُ فِي فَهْمِهِ كُلُّ نَاعِقٍ، وَإِنَّمَا يُلْتَزَمُ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ. وَالْوَسَطِيَّةُ تَعْنِي أَنْ يَكُونَ المُسْلِمُ مُتَمَسِّكًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، وَأَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ بِالنِّسْبَةِ لَهُ عَقِيدَةً وَشَرِيعَةً وَمَنْهَجًا مُكْتَمِلاً لِلْحَيَاةِ....
الخُطْبَة الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْد لِلَّهِ; نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ الثَّابِتَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- امْتَنَّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنْ جَعَلَهَا أُمَّةً وَسَطًا فِي عَقَائِدِهَا وَشَعَائِرِهَا وَعِبَادَاتِهَا وَمُعَامَلَاتِهَا، فَلَا غُلُوَّ وَإِفْرَاطًا، وَلَا جَفَاءً وَتَفْرِيطًا، وَإِنَّمَا تَسْلُكُ الأُمَّةُ المُؤْمِنَةُ الْمَسْلَكَ الْوَسَطَ الرَّشِيدَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا. قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[الْبَقَرَة:143]; وَمَعْنَى (وَسَطًا); أَيْ عَدْلاً أَوْ عُدُولاً، فَفِي سُورَةِ الْقَلَمِ: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ)[الْقَلَم:28]; أَيْ: أَعْدَلُهُمْ.
وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْوَسَطَ بِالْعَدْلِ; فَقَالَ: "يَجِيءُ نُوحٌ وأُمَّتُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: هلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ"(صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ: 3339).
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "الْوَسَطُ الْعَدْلُ، وَذَلِكَ مَعْنَى الْخِيَارِ; لِأَنَّ الْخِيَارَ مِنَ النَّاسِ عُدُولُهُمْ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ وَسَطٌ لِتَوَسُّطِهِمْ فِي الدِّينِ; فَلَا هُمْ أَهْلُ غُلُوٍّ فِيهِ غُلُوَّ النَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا بِالتَّرَهُّبِ وَقِيلِهِمْ فِي عِيسَى مَا قَالُوا فِيهِ، وَلَا هُمْ أَهْلُ تَقْصِيرٍ فِيهِ تَقْصِيرَ الْيَهُودِ الَّذِينَ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ، وَكَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ وَكَفَرُوا بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ تَوَسُّطٍ وَاعْتِدَالٍ فِيهِ، فَوَصَفَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ; إِذْ كَانَ أَحَبُّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ أَوْسَطَهَا"(تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ: 2/627).
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ وَسَطٌ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالْجَفَاءِ، وَوَسَطِيَّةُ الْأُمَّةِ تُحَدِّدُ وَظِيفَتَهَا وَدَوْرَهَا فِي حَيَاةِ النَّاسِ; فَهِيَ تَنْشُرُ قِيَمَهَا الْأَخْلَاقِيَّةَ وَتُطَبِّقُ شَعَائِرَ دِينِهَا، وَتَحْرِصُ عَلَى إِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ أَنْهَكَ النَّاسَ الصِّرَاعَاتُ، وَتَحَكَّمَتْ فِيهِمْ الْأَهْوَاءُ الْبَشَرِيَّةُ، وَأَصَابَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مَنْ قَبْلِنَا الضَّيَاعُ وَالْحَيْرَةُ وَالِاضْطِرَابُ بِسَبَبِ طُغْيَانِ الْكَنِيسَةِ وَتَحَكُّمِهَا فِي مَصَائِرِ أَتْبَاعِهَا وَاحْتِكَارِهَا لِلْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَلِذَلِكَ شَقِيَتْ الْبَشَرِيَّةُ بِمَا عَرَفَتْهُ أُورُوبَّا مِنْ تَكَالُبٍ اسْتِعْمَارِيٍّ وَأَطْمَاعٍ مَادِّيَّةٍ، وَبِمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ مِنْ سُقُوطٍ أَخْلَاقِيٍّ وانْتِشَارِ الفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ وَالْجَرَائِمِ وَالْمُوبِقَاتِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْوَسَطِيَّةَ فِي الدِّينِ تَعْنِي التَّمَسُّكَ بِكُلِّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا، والتَّمَسُّكُ بِالْوَسَطِيَّةِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ التَّامَّ لِلشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ وَالرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، وَالْعَمَلَ بِمَا وَرَدَ فِي الْوَحْيَيْنِ؛ فَمَنْ قَامَ بِذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَسَطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ وَحَكَّمَ رَأْيَهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَتَعَدَّى حُدُودَ الشَّرْعِ; فَقَدْ خَرَجَ عَنْ دَائِرَةِ الْوَسَطِيَّةِ بِحَسْبِ تَقْصِيرِهِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "دِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَخَيْرُ النَّاسِ النَّمَطُ الْأَوْسَطُ الَّذِينَ ارْتَفَعُوا عَنْ تَقْصِيرِ الْمُفَرِّطِينَ، وَلَمْ يَلْحَقُوا بِغُلُوِّ الْمُعْتَدِينَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا، وَهِيَ الْخِيَارُ الْعَدْلُ؛ لِتَوَسُّطِهَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْمَذْمُومَيْنِ، وَالْعَدْلُ هُوَ الْوَسَطُ بَيْن طَرَفَيْ الْجَوْرِ وَالتَّفْرِيطِ، وَالْآفَاتُ إِنَّمَا تَتَطَرَّقُ إِلَى الْأَطْرَافِ، وَالْأَوْسَاطُ مَحْمِيَّةٌ بِأَطْرَافِهَا; فَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا" (إِغَاثَة اللَّهْفَان: 1/182).
وَقَالَ أَيْضًا: "وَدِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ.. وَمَا أَمَرَّ اللَّه بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزْغَتَانِ: فَإِمَّا إِلَى غُلُوٍّ وَمُجَاوَزَةٍ، وَإِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَتَقْصِيرٍ; وَهُمَا آفَتَانِ لَا يَخْلُصُ مِنْهُمَا فِي الِاعْتِقَادِ وَالْقَصْدِ وَالْعَمَلِ إِلَّا مَنْ مَشَى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَرَكَ أَقْوَالَ النَّاسِ وَآرَاءَهُمْ لِمَا جَاءَ بِهِ، لَا مَنْ تَرَكَ مَا جَاءَ بِهِ لِأَقْوَالِهِمْ وَآرَائِهِمْ"(الرُّوح 2 / 752).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ أَهَمِّ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ، وَتَظْهَرُ هَذِهِ الْوَسَطِيَّةُ فِي سَائِرِ مَعَالِمِ الدِّينِ وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ; فَإِنَّ الْأُمَّةَ الْمُسْلِمَةَ وَسَطٌ فِي الْعَقِيدَةِ، وَوَسَطٌ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ; فَالْمُسْلِمُونَ لَمْ يَغْلُوا فِيهِمْ غُلُوَّ النَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَا جَفَوْا عَنْهُمْ كَمَا جَفَتِ الْيَهُودُ فَكَانُوا يَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، بَلْ آمَنَ الْمُسْلِمُونَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّوهُمْ وَأَطَاعُوهُمْ، وَلَمْ يَعْبُدُوهُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوهُمْ أَرْبَابًا، وَآمَنُوا بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ وَسَطِيَّةً وَتَوَازُنًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مَذْمُومَيْنِ.
وَفِي مَجَالِ الْعِبَادَةِ: جَاءَ الْإِسْلَامُ وَسَطًا بَيْنَ الرَّهْبَانِيَّةِ الَّتِي قَطَعَتْ كُلَّ صِلَةٍ بِالْحَيَاةِ، وَانْقَطَعَتْ لِلْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ الْإِغْرَاقِ فِي الْمَجَالِ الْمَادِّيِّ وَالِاهْتِمَامِ بِالنَّوَاحِي الْحِسِّيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ وَالطُّغْيَانِ الْمَالِيِّ وَالِانْصِرَافِ عَنِ الْعِبَادَةِ وَتَرْقِيَةِ النَّفْسِ.
وَفِي مَجَالِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَسَطًا بَيْنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ.. وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا الْخَبَائِثَ وَجَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَبَاشَرُوا النَّجَاسَاتِ، أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَدْ أَحَلَّ اللَّهَ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ.
وَفِي التَّشْرِيعِ: جَاءَ الْإِسْلَام وَسَطًا بَيْنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ رَفَضُوا أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الأَحْكَامِ، وَبَيْنَ النَّصَارَى الَّذِينَ أَجَازُوا لِأَكَابِرَ عُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ أَنْ يُشَرِّعُوا بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مَنْ دُونِ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ تَوَسَّطَتْ الْأُمَّةُ الْمُسْلِمَةُ فِي عَقِيدَتِهَا بَيْنَ الِاهْتِمَامِ بِالْمَجَالَاتِ الْمَادِّيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَابْتَعَدَتْ عَنْ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي كِلَيْهِمَا; فَوَازَنَتْ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، وَضَبَطَتْ الْعَلَاقَةَ بَيْنَهُمَا، وَبِذَلِكَ يَلْتَقِي الْعَمَلُ لِلدُّنْيَا وَالْعَمَلُ لِلْآخِرَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ لِلَّهِ -تَعَالَى-، وَتَحْقِيقٌ لِغَايَةِ الْوُجُودِ الْإِنْسَانِيِّ بِضَوَابِطَ مُعَيَّنَةٍ.
وَفِي مَجَالِ السُّلُوكِ وَالْأَخْلَاقِ: جَاءَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ وَسَطًا بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْإِلْزَامِ الْأَخْلَاقِيِّ، بَيْنَ الْجُنُوحِ إِلَى الْمِثَالِيَّةِ الْخَيَالِيَّةِ وَالْوَاقِعِيَّةِ الْمُتَزَمِّتَةِ; فَهِيَ لَا تَتْرُكُ الْحَيَاةَ كُلَّهَا لِلْمَشَاعِرِ وَالضَّمَائِرِ، وَلَا التَّرَفَ وَالْمُيُوعَةَ وَالْهَوَى الَّذِي يَعْصِفُ بِهَا فِي تَيَّارَاتِ الْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ، وَلَكِنَّهَا تَرْفَعُ الضَّمَائِرَ بِالتَّهْذِيبِ وَالتَّوْجِيهِ، تُعَمِّرُهَا بِتَقْوَى اللَّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ، وَسُلُوكِ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ فِي سَائِرِ الْعَلَاقَاتِ الْفَرْدِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالْمَصْلَحَةِ الذَّاتِيَّةِ وَالْجَمَاعِيَّةِ. (الْوَصِيَّةُ الْكُبْرَى، لِابْنِ تيميَّةِ، ص 47، مَدَارِجِ السَّالِكِينَ لِابْنِ الْقَيِّمِ، 2/496، عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فِي التَّصَوُّرِ الْإِسْلَامِيِّ، د. عُثْمَان ضَمِيرِيَّة، ص 21).
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْأُمَّةِ الْوَسَطِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْد: عِبَادَ اللَّهِ: الْوَسَطِيَّةُ مُصْطَلَحٌ شَرْعِيٌّ يُسْتَقَى مِنْ مَعِينِهِ الصَّافِي، وَلَا يُخْضَعُ لِلْأَهْوَاءِ أَوْ الْآرَاءِ الذَّاتِيَّةِ، وَلَا يُطَوَّعُ لِيَتَلَاقَى مَعَ أَوْهَامِ الْحَضَارَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَلَا يُتَّبَعُ فِي فَهْمِهِ كُلُّ نَاعِقٍ، وَإِنَّمَا يُلْتَزَمُ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ. وَالْوَسَطِيَّةُ تَعْنِي أَنْ يَكُونَ المُسْلِمُ مُتَمَسِّكًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، وَأَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ بِالنِّسْبَةِ لَهُ عَقِيدَةً وَشَرِيعَةً وَمَنْهَجًا مُكْتَمِلاً لِلْحَيَاةِ، فَإِذَا لَمْ يَلْتَزِمِ الْمُسْلِمُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كَانَ مُقَصِّرًا مُفَرِّطًا، وَإِذَا تَجَاوَزَهَا فِي الْغُلُوِّ وَالِابْتِدَاعِ كَانَ مُفْرِطًا مُغَالِيًا.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: لَقَدْ شَاعَ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ مَفَاهِيمُ خَاطِئَةٌ تَمِيلُ إِلَى التَّفَلُّتِ مِنْ رِبْقَةِ الشَّرِيعَةِ وَتَمْيِيعِ أَحْكَامِ الدِّينِ بِدَعْوَى وَسَطِيَّةِ الْأُمَّةِ، وَبَرَزَتْ فِي حَيَاتِنَا بَعْضُ ظَوَاهِرِ الِانْحِرَافِ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْفِكْرِ وَالسُّلُوكِ. وَكَثِيرًا مَا يَتِمُّ وَصْمُ مَنْ يَلْتَزِمُ بِدِينِهِ، وَخَاصَّةً بِالْهَدْيِ الظَّاهِرِ بِالتَّطَرُّفِ; وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَتَّهِمُ مَنْ يُحَافِظُ عَلَى السُّنَنِ وَالْآدَابِ فِي عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ بِأَنَّهُ مُتَشَدِّدٌ، وَالَّذِي يَبْتَعِدُ عَنِ الْفُجُورِ بِأَنَّهُ مُتَزَمِّتٌ مُتَحَجِّرٌ، وَالَّذِي يَجْتَهِدُ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ بِأَنَّهُ مُتَنَطِّعٌ.. إِلَخْ هَذِهِ الِاتِّهَامَاتِ الْبَاطِلَةِ.
وَفِي الْمُقَابِلِ مَالَ بَعْضُهُمْ تَحْتَ ادِّعَاءِ الْوَسَطِيَّةِ إِلَى التَّفْرِيطِ فِي الدِّينِ; بِحَيْثُ لَا يَتَعَرَّفُ عَلَى دِينِهِ وَلَا يَفْهَمُهُ مِنْ مَصَادِرِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَا يَحْرِصُ عَلَى الِالْتِزَامِ بِآدَابِهِ وَقِيَمِهِ، وَلَا يَأْطُرُ نَفْسَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَلَا يُبَالِي بِمَا يَرْتَكِبُ مِنْ ذُنُوبٍ وَمُوبِقَاتٍ; فَأَطْلَقَ الْعِنَانَ لِشَهَوَاتِهِ وَأَهْوَائِهِ; وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْوَسَطِيَّةِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هَذَا تَنَكُّبٌ عَنِ الْحَقِّ، وَمَيْلٌ إِلَى إِشْبَاعِ الشَّهَوَاتِ.
وَتَحْتَ ظِلَالِ الْوَسَطِيَّةِ الْمَزْعُومَةِ انْتَشَرَتْ بَعْضُ الْكِتَابَاتِ الْعَصْرِيَّةِ وَالْفَتَاوَى الشَّاذَّةِ الَّتِي تَتَّخِذُ مِنَ الْوَسَطِيَّةِ تُكَأَةً لِلتَّقْرِيبِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ، كَمَا فِي دَعَوَاتِ التَّقْرِيبِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ، وَالْحِوَارِ بَيْنَ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِبْرَاهِيمِيَّةِ الْجَدِيدَةِ، وَجَمْعِ أَتْبَاعِ الرِّسَالَاتِ السَّمَاوِيَّةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لِلْعِبَادَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَحْتَ سِتَارِ الْوَسَطِيَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْوَسَطِيَّةِ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَإِنَّمَا هَذَا مُوَالَاةٌ لِلْبَاطِلِ وَأَهْلِهِ، وَتَمْيِيعٌ لِلدِّينِ، وَتَبْدِيلٌ لِأَحْكَامِهِ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.
عِبَادُ اللَّهِ: وَمِنَ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ الَّتِي قَدْ تَنْطَلِي عَلَى بَعْضِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، خَاصَّةً مَعَ إِلْبَاسِهَا لِبَاسَ الْوَسَطِيَّةِ: الْبَحْثُ عَنْ رُخَصِ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَخْذُ بِزَلَّةِ كُلِّ عَالِمٍ، وَتَتَبُّعُ الْأَقْوَالِ الشَّاذَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِلدَّلِيلِ، وَهَذَا اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى وَابْتِعَادٌ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، فَمَنْ تَتَبَّعِ الْأَقْوَالَ الشَّاذَّةَ الْمُخَالِفَةَ لِلدَّلِيلِ الصَّحِيح تَزَنْدَقْ وَابْتَعَدَ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ.
وَهُنَاكَ صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ آتَاهُمْ اللَّهُ مَنَابِرَ لِلْوُصُولِ إِلَى النَّاسِ، فَاتَّخَذُوا الْوَسَطِيَّةَ سِتَارًا لِهَدْمِ مَعَالِمِ الدِّينِ، مِثْلُ بَعْضِ الْإِعْلَامِيِّينَ وَالْكُتَّابِ وَالصَّحَفِيِّينَ وَأَصْحَابِ الْأَقْلَامِ الْمَسْمُومَةِ الَّذِينَ يَبُثُّونَ الْأَفْكَارَ الْمَشْبُوهَةَ لِيَنْفُثُوا سُمُومَهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُتَذَرِّعِينَ فِي مَسَالِكِمُ الْخَبِيثَةِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الوَسَطِيَّةِ.
وَحَرِيُّ بِالْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ فِي مُوَاجَهَةِ هَذَا الطُّوفَانِ أَنْ تُقَاوِمَ دَعَوَاتِ الْهَدْمِ وَالتَّغْرِيبِ، وَتَغْرِسَ فِي نُفُوسِ أَبْنَائِهَا مَحَبَّةَ الْحَقِّ وَالتَّمَسُّكَ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَالِالْتِزَامَ بِثَوَابِتِ الدِّينِ وَمُحْكَمَاتِهِ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِالْوَسَطِيَّةِ الْحَقَّةِ، وَابْتَعِدُوا عَنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا....
التعليقات