عناصر الخطبة
1/واقع كثير من الناس حيال حقوق يتامى المسلمين 2/الحقوق المرعية لليتيم في الشريعة الإسلامية 3/خيرية الأرض المقدسة بفلسطين وواجب المسلمين نحوها 4/بشرى وأمل بقرب فك الحصار عن الديار المقدسةاقتباس
فإذا كان الله ينهانا عن زَجْر اليتيم، ويَعُدُّه من الإخلال بالدِّين، فما بالُكم بمن يهضِم حقوقَه، ويبدِّد أموالَه، إذا كانت الكلمةُ السيئةُ في حق اليتيم محرَّمةً علينا، فمالُه أولى بالتحريم، وحقوقُه أجدرُ بالرعاية...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المجزِل في عطائه، اللطيف في بلائه، العدل في قضائه، الرؤوف بأوليائه، المنتقِم من أعدائه، الناصِر لدينه؛ بإيضاح الحق وتبيينه، المبِيد للإفك وأهله، المجتثِّ للباطل من أصله.
نحمده على ما عرَّفنا من توحيده، ونستوثقه على أداء ما كلَّفنا من رعاية حدوده، ونستعصمه من الخطأ والخطل، والزيغ والزَّلل، في القول والعمل، ونشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جلَّت قدرتُه، وعلَتْ حكمتُه، وعمَّت رحمتُه، وسمَتْ نعمتُه، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، الشهيد على أمة الشهداء، المبعوث بالبينات والهدى وتَرْك المراء، ونسأله أن يصلي على نبينا المصطفى، وحبيبنا المجتبى، وآله مصابيح الدجى، وأصحابه أئمة الورى.
أما بعدُ: أيها المؤمنُ: توَّجَك اللهُ تاج رضائه، وحلَّاك حليةَ أهل ولائه، وأودَعَكَ ودائعَ أحبائه، وجعَلَك من أخلصِ خُلصائِه.
عبادَ اللهِ: حديثُنا اليومَ وإيَّاكم حول قوله -تعالى-: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)[النِّسَاءِ: 2].
عبادَ اللهِ: نعيش اليوم في زمن الظلم والفساد، فلا كثَّر اللهُ من الظالمين والمفسدين، (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 152]، قطَع اللهُ أثرَهم من على وجه الأرض، لا بالحلال يقنعون، ولا من الحرام يشبعون، دار الظالم خراب ولو بعد حين، قال المولى -تبارك وتعالى-: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا)[النَّمْلِ: 52]، ليسمع هؤلاء قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْمٌ مِنْ قُبُورِهِمْ تَأَجَّجُ أَفْوَاهُهُمْ نَارًا" فَقِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَلَمْ تَرَ اللَّهَ يَقُولُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) الْآيَةَ [النساء: ١٠].
عبادَ اللهِ: لقد ذكَّر المولى -تبارك وتعالى- رسولنا الأكرم -صلى الله عليه وسلم- بأنه كان يتيمًا فخاطَبَه بقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)[الضُّحَى: 6]، وأمَرَه بقوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)[الضُّحَى: 9]؛ أي: لا تُحَقِّرْهُ، وبيَّن صلى الله عليه وسلم أنه وكافلُ اليتيم في الجنة هكذا؛ وأشار بأصبعيه، السبابة والوسطى.
عبادَ اللهِ: فإذا كان الله ينهانا عن زجر اليتيم، ويَعُدُّه من الإخلال بالدّين، فما بالكم بمن يهضم حقوقه، ويبدِّد أموالَه، إذا كانت الكلمة السيئة في حق اليتيم محرمةً علينا، فماله أولى بالتحريم، وحقوقه أجدر بالرعاية، لقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- أهلَ بر وعطف وحنان، وشفقة ومروءة باليتيم، ويتَّخذون من تهذيبه سندًا للتقرب إلى الله -تبارك وتعالى-، ويتسابقون لخدمته ابتغاءَ الأجر والثواب، يتعفَّفون عن ماله، ولكن لا يغفلون عن أحواله، فأصبحنا اليوم وقد خربت الذمم، وانحطت القيم والهمم، وغلظت الأكباد، وطارت الرحمة من القلوب، فقست كالحجارة، وصارت الوصاية صنعة للُّصوص الطامعين، وحرفة يسعى لها كلُّ عاطل، ويجري وراءها كلُّ مجرم آثم، فضاع بيننا اليتيمُ، وذهَب مالُه، وساءت أحوالُه.
عبادَ اللهِ: لقد حذرنا المولى -تبارك وتعالى- من قربان أموال اليتامى إلا بالتي هي أحسن، فقال الحق -جل وعلا-: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[الْأَنْعَامِ: 152]؛ أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال، وأنفعها لليتيم، وذلك بالمحافظة عليه وتنميته وتثميره بالتجارة في مواقع السداد، كما قالت أمنا عائشة -رضي الله عنها-: "اتَّجِرُوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة"؛ فليتَّقِ اللهَ أولئك الأوصياءُ الذين ينتهزون صغر اليتيم، وغفلة الحكام، فيبددون أموال اليتامى، ويأكلونها ظلمًا؛ ليعلم هؤلاء أن نهب مال اليتيم خسة ودناءة، وهو دم وناهبه يمتص دماء الضعفاء، وهو سحت حرام، وتراث أيتام، يمحق الخير والبركة، مال اليتيم نار في جوف الأوصياء، تُلهِب أمعاءهم وتكوي بطونهم، وتحرق أرزاقهم وأموالهم، وقد حدَّثنا النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به قال: "رأيت أقوامًا لهم مشافرُ كمشافر الإبل، وقد وُكِّلَ بهم مَنْ يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرًا من نار، يَخرج من أسافلهم، فقلتُ: يا جبريلُ، مَنْ هؤلاء؟ قال: هم الذين يأكلون أموالَ اليتامى ظلمًا".
أربع -أيها الأحباب- حقٌّ على الله ألَّا يُدخِلَهم الجنةُ، ولا يذوقون نعيمها: "مدمن خمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاقّ لوالديه"، فاتقوا الله -يا عباد الله- وكونوا لليتيم كالأب الرحيم، تدارَكُوا وأصلِحُوا ما فات، وإيَّاكم والتسويفَ، وأصلحوا العطبَ، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ)[الشُّورَى: 25]، أعيدوا الأمور إلى نصابها، وزنوا الأشياء بالقسطاس المستقيم؛ (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)[الْأَعْرَافِ: 85]، (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[هُودٍ: 85].
عبادَ اللهِ: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، توجَّهوا إلى المولى الكريم، وادْعُوا اللهَ بقلوب واجفة سليمة، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على ما أنعم من آلائه، وأجزل من عطائه، وصرَف من لأوائه، ودفع من بلائه، حمد عاجز عن الوفاء بحقه وشكره، بعد استنفاد جهده في استقصائه، ونشهد ألا إله إلا الله، شهادة مخلِص في مكافَحة أعدائه، معترِف بصدق كتبه وأنبيائه، وناصحٍ في موالاة أوليائه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، سيد أصفيائه، وأكرم أحبائه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأقربائه.
أما بعدُ فيا عبادَ اللهِ: وتبقى مدينة القدس مهوى أفئدة المؤمنين في الأرض، والحمد لله، لقد أنعَم المولى عليكم وأسكنكم أرضه المباركة، وجعَل مسجدها قِبلةَ المسلمين الأولى، فالأجر والبركة فيها، قسم الله الخير عشرة أعشار، فجعل تسعة في أرضكم، وبقيته في سائر الأراضين، كيف ببيت المقدس، الذي تتنزل فيه الرحمات والبركات وتستجاب فيه الدعوات.
فيا أهلنا في الأرض الطيبة: حافِظُوا عليها، واهتموا بها، وإياكم والتفريط بشيء منها، وصلُّوا في مسجدها، فقد ورَد في بعض الآثار: "يا قدسُ، أنتِ الأندرُ ومنك المنشرُ، وإليك المحشرُ، فيك ناري ونوري، مَنْ دخَلَكِ رغبةً فيكِ فبرحمتي، ومَنْ خرَج عنكِ رغبةً عنك فبسخطي، تتسع لأهلها كما تتسع الرحم للولد".
لا يطيب العيش إلا لمن وطئ بساط الأُنْس على سرير القدس، اجلِسُوا بالبيت المقدس الأنيس، اطووا الليالي بمسامَرة الأذكار، وانشروا الأيام بمصاحبة الأخيار، اجلسوا بذلة وخضوع، واذرفوا فيه الدموع، وارفعوا أيدكم بالطلب، وارجوا من الله -تبارك وتعالى- بلوغ الأرب، انظروا إلى معالمه، في غاية الحسن والإتقان، لا يدرك أسراري إلا مَنْ شاهد العيان، فهي من الأماكن المأنوسة اللطيفة، والمحلات المنيفة، فيها يجلس الأولياء والعلماء، ويرفعون أيديهم إلى رب السماء، ويقولون: اللهم بنورك اهتدينا وبفضلك استغنينا، وبك أصبحنا وبك أمسينا، ذنوبنا بين يديك، نستغفرك ونتوب إليك يا حنان يا منان يا ذا الجلال والإكرام، فلعمري لو شاهدت تلك المشاهد، ورأيت أنوار تلك المعاهد لبكيت حسرة وتأسفا، حيث كنت عنها في سالف الزمن متخلفًا، ولَقرعتَ سنَّ الندم حيث فاتك ذلك المغتَنَم.
قال الإمام بشرٌ الحافي -رضي الله عنه ورحمه الله-: "لم يبقَ عندي من لذات الدنيا إلا أن أكون في المسجد الأقصى والسلام".
فيا أيها المسلمُ: لا تجفُ أرضًا بها قَوابِلُكَ، ولا تنسَ بلدًا فيها مَراضِعُكَ، فاللبيبُ يحنُّ إلى وطنه، والحبيب إلى رحابه، والأسد إلى غابه، ومن علامات العاقل أن يأنس لإخوانه، وأن يحنَّ إلى أوطانه، وأن يداني أهل زمانه، الغريب هو البعيد عن وطنه، وهو مقيم فيه.
عبادَ اللهِ: الجميع يعلم أن الحياة صعبة، ومهما اشتد الظلام قرب طلوع الفجر، مهما اشتد الخناق على المسجد الأقصى فإن الفرج قريب وعاجل -بإذن الله تبارك وتعالى-، سوف يفك هذا الحصار، وينعم أسرارنا بالحرية والسعادة والحياة الطيبة، فالصبر الصبر، الصبر الصبر أيها المسلم، إياك واليأس؛ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[يُوسُفَ: 110]، وتذكروا قول الله -تعالى-: (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الْأَعْرَافِ: 99]، فمكره لأعدائه، ومحبته لأوليائه.
أيها المسلم: لا تجزعنَّ إذا بُلِيتَ بشدةٍ *** إن الشدائد لا يدوم مقامها
كم شدة نام الفتى لورودها *** ما هبَّ حتى أدبرَتْ أيامُها
فاصبر على نُوَبِ الزمان فإنها *** تمضي ويبقى بردُها وسلامُها
اصبروا مهما اشتدَّ الكربُ، مهما اشتدَّ الحصارُ الخانقُ، مهما هدَمُوا من البيوت، أنتُم في أرضكم ومسجدكم وموطنكم، والله -تبارك وتعالى- في عونكم ورعايتكم وحفظكم.
الصبرَ يا أيها المؤمنون، أتدرون ما هو الصبر؟ أن تشهدوا ا لبلاء.
أيها المصلي في المسجد الأقصى: اشكر عند الرخاء، واصبر عند البلاء، واصدق عند اللقاء، وأحسن إلى من أساء تكن من الأولياء، ومن الأوفياء، من عرف الله -تعالى- لا يكون له غم أبدًا، من صدق مع الله كفاه الله مضرة الأعداء، وحمل عنه مؤنة الأدواء، من كان للحق تلفه، كان على الحق خلفه، قيل لمالك بن دينار -رحمه الله-: " فيك سياسة وهيبة ولست بملك ولا أمير فمن أين لك هذا؟ قال : بأكل الحلال، والأمن بالرزق، والرضا بالقضاء، والإخلاص في العمل، والصبر على الشدة، والشكر عند النعمة، والتقى عند الشبهة، والاستغفار عند الخطيئة".
وكما ورَد في بعض الآثار: "يا بن آدمَ، عليكَ الإملاء وعليَّ الكتابة، عليك الدعاء، وعليَّ الإجابة، عليك السؤال وعلي العطايا، عليك الصبر وعليَّ الجزاء، عليكَ الشكر وعليَّ الزيادة، عليكَ العهدُ وعليَّ الوفاءُ، عليكَ الإمامةُ وعليَّ القَبولُ".
إذا رأيتُم أهلَ البلاء فاسألوا ربَّكم العافيةَ، أهل البلاء هم أهل الغفلة عن الله، أعانَكم الله على طاعته، ورَزَقَكم السرورَ بنعمته، وحبَّبكم إلى خلقه، وأرسل عليكم من فضله ورزقه، وغمركم في رحمته، وحفظكم من عدوكم وأنفسكم، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يُوسُفَ: 21].
اللهم إنَّا نعوذ بك من المرض في السفر، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر عند الكِبَر، اللهم إنا نعوذ بك من سوء الخاتمة، اللهم إنا نعوذ بك من الفضيحة في الموقف، اللهم إنا نعوذ بك من ألسنة السوء عند قضاء الحاجة، اللهم إنا نعوذ بك من بدن لا ينتصب بين يديك، ومن قلب لا يشتاق إليكَ، ومن دعاء لا يصل إليكَ، ومن عين لا تبكي من خشيتك.
إلهنا ومولانا، هذا ذُلُّنا ظاهرٌ بين يديكَ، وهذا حالُنا لا يخفى عليكَ، منكَ نطلُب الوصولَ إليكَ، وبكَ نستدلُّ عليكَ، فاهدِنا بنورِكَ إليكَ، وأَقِمْنا بصدقِ العبوديةِ بينَ يديكَ.
اللهم أَحْسِنْ خاتمتَنا، وعاقبتنا في الأمور كلها، توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، وارزقنا شفاعة سيد المرسلين، وشربة من يده لا نظمأ بعدها يا أكرم الأكرمين، نحن ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين، والحمد لله رب العالمين، وأنت يا مقيمَ الصلاة: أقم الصلاة؛ (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
التعليقات