عناصر الخطبة
1/فضائل حُسن الخلق 2/حقيقة حسن الخلق 3/أهمية الاتصاف بمكارم الأخلاق 4/من أوسع الأبواب إلى محاسن الأخلاق 5/ تحسين الخلق من تمام الدين 6/سوء الخُلق باب من أبواب الإثم.اقتباس
وحقيقة حسن الخلق؛ بذل المعروف وكفّ الأذى وطلاقة الوجه؛ وأن يحتمل ما يكون من الناس؛ وأن يأخذ النفس نحو الأحمد من الأفعال بين الناس؛ ويكون سمحًا بحقوقه؛ لا يطالب غيره بها، ويوفّي ما يجب لغيره عليه منها....
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله والشكر له على توفيقه العام؛ وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بالجلال والتمام؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه هداة الأنام ومصابيح الظلام.
أما بعد: فإن حسن الخلق جامع لأبواب الخير؛ ومفتاح لسبل البر؛ من وفَّقه الله إليه فقد حاز فضلاً عظيمًا؛ وسبق سبقًا كبيرًا؛ وقد أعظم الله -تعالى- منزلته حتى قال بعض السلف: "لكل شيء أساس؛ وأساس الإسلام الخلق الحسن".
ومن أجل ذلك فقد أثنى الله على خير خلقه محمد -صلى الله عليه وسلم- بما فضَّله به من حُسْن الخلق؛ فقال -تعالى-: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4]؛ فما بالُك بأمرٍ عظّمه الله -تعالى-؟
ولما سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خُلقِ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان خلقه القرآن"؛ أي كان متمسكًا بآدابه وأوامره ونواهيه؛ وما يشتمل عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الأمور -صلى الله عليه وسلم-.
وحقيقة حسن الخلق؛ بذل المعروف وكفّ الأذى وطلاقة الوجه؛ وأن يحتمل ما يكون من الناس؛ وأن يأخذ النفس نحو الأحمد من الأفعال بين الناس؛ ويكون سمحًا بحقوقه؛ لا يطالب غيره بها، ويوفّي ما يجب لغيره عليه منها.
فمن أراد الله به خيرًا وفَّقه لمحاسن الأخلاق؛ فإن ذلك هو الفضل العظيم؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "البر حُسْن الخلق"؛ والبر هو الخير الكثير.
ومن رأى عظيم منزلة حسن الخلق في الشريعة؛ سعى سعيًا حثيثًا ليكون له النصيب الأعظم من ذلك.
فإن حُسْن الخلق مثقّل لميزان العبد يوم القيامة؛ فقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلق حسن".
كما أنه أكثر ما يَدخُل به الناس الجنة؛ فقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: "تقوى الله وحسن الخلق".
وهو دليل على كمال إيمان العبد؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقًا".
وكفى به قدرًا أنه وسيلة إلى محبة الله للعبد؛ وأن صاحبه قريب المنزلة يوم القيامة من خير الورى محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة؛ سئل رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: من أحب عباد الله إلى الله؟ قال: "أحسنهم خُلقًا"؛ وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا".
فهذه الأحاديث النبوية الكريمة مما يشحذ الهمم لبلوغ تلك المنازل بالعمل الدؤوب على تحصيلها؛ على أن همم الناس تختلف في هذا المضمار؛ والله هو الهادي إلى أقوم سبيل.
ومما يدل على عظيم منزلة الأخلاق؛ ملازمة النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعاء بأن يحسن الله خلقه؛ وهذا تشريع لأمته لتحذوَ حذوه؛ فكان يقول في دعائه: "اللهم كما حسنت خَلْقي فحسن خُلُقي".
وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت؛ واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت".
كما أن حسن الخلق عون على الدِّين والاستقامة؛ قال الإمام محمد بن سيرين: "كانوا يرون حسن الخلق عونًا على الدين".
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "ليتق الرجل دناءة الأخلاق كما يتقي الحرام".
وحسن الخلق من شيم أهل المروءات؛ قال الشافعي: "للمروءة أركان أربعة: حسن الخلق، والسخاء، والتواضع، والنسك".
وقال علي -رضي الله عنه-: "أكرم الحسب حُسْن الخلق".
هذا وإن من أوسع الأبواب إلى محاسن الأخلاق؛ طلاقة الوجه والبشرُ عند اللقاء؛ فإن الابتسامة دليل على حسن الخلق؛ وتوطِّنُ النفس على الأخذ بمحاسن الأخلاق؛ كيف لا؛ والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تبسمك في وجه أخيك صدقة"؛ وقال جرير بن عبد الله البجلي: "ما حَجَبَني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي".
فكم هو جميل أن نجعل الابتسامة عنوانًا لنا حين مخاطبة الناس ومحادثتهم؛ وما ذلك إلا لأن الابتسامة مفتاح للقلوب؛ وسبيل إلى التآلف والتواصل.
ومن الخطأ الفاحش عند بعض الناس؛ ظنه بأن التبسم في وجوه الناس يجرئهم عليه؛ أو أنه لا يليق بالسمت والرزانة؛ فتجد أحدَهم إذا سلَّم على الناس أو خاطبهم أقبل عليهم بوجه عبوس وكأنه مغضبٌ من أمر ما؛ وهذا خطأ بالغ جسيم؛ وهو من تلبيس الشيطان؛ فالسمت وقوة الشخصية ليست بترك التبسم ومحاسن الأخلاق؛ بل إن التعامل بهذا المنطق دليل الجفاء والغلظة؛ قال الحارث بن جزء -رضي الله عنه-: "يعجبني من القراء كل طليق مضحاك؛ فأما الذي تلقاه ببِشْر؛ ويلقاك بوجه عبوس كأنه يمنّ عليك؛ فلا أكثر الله في المسلمين مثله".
والهيبة لا يُنقصها حسن الخُلق في التعامل مع الناس؛ والتبسم في وجوه الخلق؛ فقد كان سلف الأمة أحسن الناس أخلاقًا؛ وأعظمهم هيبة في قلوب الناس؛ قال ضرار بن حمزة يصف عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "كان واللهِ يجيبنا إذا سألناه؛ ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبِه لنا وقربِه منّا؛ لا نكلمه هيبةً له، يعظِّمُ أهل الدين؛ ويحب المساكين؛ لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله".
ومن محاسن الأخلاق؛ أن يكون هينًا لينًا مع الناس؛ متواضعًا لهم؛ قريبًا منهم؛ يصغي إلى حاجاتهم؛ فإن بعض الناس تكون له الحاجة عندك فلا يستطيع أن يفصح بها إليك بسبب خجله؛ فإن لم تجعل له بابًا على نفسك بأن تجرِّأَه على نفسك بعض الجرأة؛ كأن تخلو به وتسأله عن حاجته؛ فلن يبلغ إليك بحاجته.
وقد بيّن لنا ذلك معلمُ الناس الخير-صلى الله عليه وسلم- أتم بيان؛ بقوله وفعله؛ فقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: إن أبا بكر-رضي الله عنه- استأذن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع على فراشه؛ فأذن له وهو كذلك؛ فقضى إليه حاجته ثم انصرف؛ ثم استأذن عمر-رضي الله عنه-؛ فأذن له وهو على تلك الحال؛ فقضى إليه حاجته ثم انصرف؛ ثم استأذن عليه عثمان-رضي الله عنه-؛ فجلس-صلى الله عليه وسلم- وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك؛ فقضى إليه حاجته ثم انصرف؛ فقالت عائشة: يا رسول الله: مالي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته".
فصلى الله وسلم وبارك وأنعم على معلم الناس الخير؛ الذي أتم الله به الدين؛ وهداه إلى أحسن الأخلاق وأعظمها.
فمن الخطأ الذي يصنعه البعض؛ أنه قد يدخل عليه بعض الناس في حاجة لا يريد أن يطلع عليها أحد؛ وهو قد جلس في جماعة من الناس؛ فيسأل هذا الداخل عن حاجته؛ فإذا قال له: إنّ حاجتي خاصة أريدها بيني وبينك؛ قال: لا؛ فالأمر عادي؛ وليس عندي إلا فلانًا وفلانًا أصحابي؛ فيعود المرء منه دون إبلاغه حاجته.
وهذا من سوء التصرف؛ فإن طباع الناس تختلف؛ وقد يكون هذا المرء حييًا؛ أو لا يريد أن يُظهر حاجته أمام الناس لأنها تتعلق بأمر خاص؛ أو حفاظًا على كرامته؛ أو خوفًا من ردّ حاجته؛ فإذا بهذا يحرجه ويجرحه في آنٍ واحدٍ.
وكأن من يفعل هذا الفعل لا يريد بتصرفه ذلك إلا إيجاد العذر لنفسه لردّ حاجة من جاءه؛ فيعتذر بعد ذلك بأنه سأله في محضر الناس؛ فلا هو بالذي أمضى حاجته وأعانه على إتمامها؛ ولا بالذي جعل لنفسه عذرًا مقبولاً عند العقلاء.
فملاحظة حاجات الناس ومعرفة سبل التعامل معها؛ من أعظم الدلائل على حسن أخلاق صاحبها.
عباد الله: هذا وإن أولى الناس بالمعاملة الحسنة وحسن الخلق هم أهل البيت؛ الزوجة والأبناء؛ فالعجب أن بعض الناس يقصر ابتسامته وتخلقَه بالأخلاق الحسنة المصطنعة على الناس؛ فإذا عاد إلى بيته صار وكأنه وحش كاسر؛ لا يبتسم ولا يهذب ألفاظه؛ بل يعود فظًا غليظًا؛ كأنه يمتن على أهل بيته بما ينفقه عليهم؛ ويهيؤه لهم من سبل المعيشة؛ ونسي أن أولى الناس بكل حسنى هم أهل البيت؛ وأنهم مقدمون على كل أحد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين؛ والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الخلق الحسن قد يكون غريزة في المرء، وقد يكون مكتسبًا يكتسبه المرء من خلال البحث عنه في مظانّه، ومن المعلوم أن الحكيم يزداد بمجالسته أولي الأحلام والنهى رأيًا؛ والعالم بمخالطة العلماء علمًا، فلا يُنكَر أن يكون ذو الخلق الجميل يزداد حسْنَ خلق بمجالسة أولي الأخلاق الحسنة.
قال الأشعث بن قيس يومًا لقومه: "إنما أنا رجل منكم، ليس فيّ فضل عليكم، ولكني أبسط لكم وجهي، وأبذل لكم مالي، وأقضي حقوقكم، وأحوط حريمكم، فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي، ومن زاد علي فهو خير مني؛ ومن زدت عليه فأنا خير منه". قيل له يا أبا محمد، ما يدعوك إلى هذا الكلام؟ قال: "أحضّهم على مكارم الأخلاق".
ومما لا بد أن يعلمه المسلم أنه مأمور بتحسين خلقه؛ وإن غلبته نفسه على بعض الطباع الدنيئة فلا يستسلم ويقول: هذه سجيتي ولا أستطيع تغيير طبعي؛ فإن سوء الخلق أمرٌ مذموم؛ يجب على المسلم أن يتجنبه؛ وقد جاء من الأخبار والآثار ما يدل على أن العبد يمكنه تحسين خلقه، وأعظم ما يدل على ذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- به كما في قوله: "وخَالِق الناس بخُلق حسن".
فهذا بيان على أن تحسين الخلق من تمام الدين؛ وأنه لا تتم التقوى إلا به، وإنما أفرده النبي -صلى الله عليه وسلم- بالذكر؛ للحاجة إلى بيانه، فإن كثيرًا من الناس؛ يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده، فنص-صلى الله عليه وسلم- على الأمر بإحسان العشرة للناس؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان قد بعث معاذًا -رضي الله عنه- الذي وصاه بهذه الوصية إلى اليمن معلمًا لهم، ومفقهًا وقاضيًا؛ ومَن كان كذلك فإنه يحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن؛ ما لا يحتاج إليه غيره ممن لا حاجة للناس به ولا يخالطهم.
وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والاعتكاف على محبته وخشيته وطاعته؛ إهمالُ حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها؛ والجمعُ بين حقوق الله وحقوق عباده عزيز جدًا لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصديقين.
فينبغي على العاقل الحرص على التزود من الأخلاق؛ وأن يجني ثمارها اليانعة كلما تيسر له سبيل إلى ذلك؛ ويجعل الطريق إلى ذلك قيامه بحقوق المسلمين؛ في أن يحب لهم ما يحب لنفسه، وأن يتواضع لهم ولا يفخر عليهم ولا يختال، ولا يتكبر ولا يعجب؛ وأن يوقر الشيخ الكبير، ويرحم الطفل الصغير، ويعرف لكل ذي حق حقه، مع طلاقة الوجه وحسن التلقي ودوام البِشر، كما قيل:
وما اكتسبَ المحامدَ طالبوها *** بمثل البشر والوجه الطليقِ
وعليه بلين الجانب، وحسن المصاحبة، وسهولة الكلمة، مع إصلاح ذاتِ بين إخوانه، وتفقد أقرانه وأخدانه وجيرانه، وأن لا يسمع كلامَ الناس بعضهم في بعض، وأن يبذل معروفه لهم لوجه الله؛ لا لأجل غرض؛ مع ستر عوراتهم؛ وإقالة عثراتهم، وإجابة دعواتهم؛ وأن لا يقف مواقف التهم؛ وأن يحلم عنْ مَنْ جهل عليه، ويعفو عن من ظلم.
قال الحسن: "معالي الأخلاق للمؤمن: قوة في لين، وحزم في دين، وإيمان في يقين، وحرص على العلم، واقتصاد في النفقة، وبذل في السعة، وقناعة في الفاقة، ورحمة للمجهود، وإعطاء في كرم، وبر في استقامة".
عباد الله: وكما أن تحسين الأخلاق أمر واجب ومحمود؛ فتجنب أخلاق السوء أمر لازم مؤكد؛ لأن سوء الخلق باب من أبواب الإثم؛ وينفر الناس ممن اتصف به؛ ولذلك قيل: "من ساء خلقه قلّ صديقه"؛ وقال الحسن: "من ساء خلقه عذّب نفسه".
وعلى المسلم أن يصاحب من يدلّه على محاسن الأخلاق؛ وينهاه عن مساوئها؛ فإن الصاحب الناصح من خير ما يستفيده المسلم في حياته؛ قال الفضيل بن عياض: "إذا خالطْتَ فخالِط حَسَن الخلق، فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة؛ ولا تخالط سيّئ الُخلق؛ فإنه لا يدعو إلا إلى شر؛ وصاحبه منه في عناء، ولأنْ يصحبَني فاجرٌ حَسَن الُخلُق؛ أحبّ إليَّ مِن أن يصحَبَني قارئ سيئ الخلق، إن الفاسق إذا كان حَسن الخلق عاش بعقله وخفّ على الناس وأحبّوه، وإن العابد إذا كان سيئ الخلق ثقل على الناس ومَقَتوه".
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت؛ واصرف عنّا سيئها؛ لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت.
التعليقات