عناصر الخطبة
1/ تحذيره -صلى الله عليه وسلم- من المسيح الدجال 2/ نهيه -صلى الله عليه وسلم- من الغلو في الدين 3/ فضل أيام العشر من ذي الحجة وما يشرع فيهااهداف الخطبة
اقتباس
وفي حجته العظيمة التي ودَّع الناس فيها؛ حثَّهم على ما ينفعهم، وحذرهم مما يضرهم، وكرر النصح لهم، وأعاد الكلام عليهم، في أيام متتابعة، وأماكن عدة، وأحوال متنوعة؛ حذرهم من عظيمات الفتن، وكبائر الإثم، وبيَّن لهم أسبابها وما يعصم منها، وكان في خاتمة كل خطبة يلقيها، أو نصيحة يؤديها؛ يشهدهم على بلاغه، فيشهدون، فَيُشهد الله تعالى على شهادتهم.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: فضل النبي –صلى الله عليه وسلم- على أمته كبير، وحقه عليهم عظيم؛ امتن الله تعالى ببعثته إلى البشر هاديًا مهديًا، ومزكيًا ومعلمًا؛ فكان رحمة للعالمين، دالاًّ على صراط ربه المستقيم: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164].
بشَّر وأنذر، وحذّر وأعذر، اجتهد -عليه الصلاة والسلام- في بيان الحق لأمته، وما ترك النصح لهم إلى يوم موته.
وفي حجته العظيمة التي ودَّع الناس فيها؛ حثَّهم على ما ينفعهم، وحذرهم مما يضرهم، وكرر النصح لهم، وأعاد الكلام عليهم، في أيام متتابعة، وأماكن عدة، وأحوال متنوعة.
حذرهم من عظيمات الفتن، وكبائر الإثم، وبيَّن لهم أسبابها وما يعصم منها، وكان في خاتمة كل خطبة يلقيها، أو نصيحة يؤديها؛ يشهدهم على بلاغه، فيشهدون، فَيُشهد الله تعالى على شهادتهم.
وقع ذلك منه -عليه الصلاة والسلام- يوم عرفة بعرفة، ويوم النحر بمنى، وأيام التشريق عند الجمرات.
كرّر في خطبه المتوالية تقرير أصول الشريعة، والتأكيد على المعاني العظيمة؛ لأنه علم أنه مفارق أصحابه، مودع أمته.
حذرهم -عليه الصلاة والسلام- من أكبر فتنة في البشر وهي فتنة المسيح الدجال، كما حذرهم من صغيرات الفتن التي تقود إلى كبرياتها، وبين أسباب الفتن ليجتنبوها، كما دلهم على ما يعصمهم من ذلك كله.
قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي –صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال وأطنب في ذكره، وقال: "ما بعث الله من نبي إلا أنذره أمته، أنذره نوح والنبيون من بعده، وإنه يخرج فيكم، فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس على ما يخفى عليكم ثلاثًا، إن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور العين اليمني كأن عينه عنبة طافية...". رواه البخاري.
وحذَّرهم -عليه الصلاة والسلام- من فتن الاعتداء والظلم، وأكد في غير موطن على حرمة المسلم على أخيه المسلم؛ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟!"، قالوا: نعم، قال: "اللهم اشهد". ثلاثًا. "ويلكم أو ويحكم، انظروا، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض".
ولما كانت العصبية الجاهلية لعرق أو لون أو تراب من أهم أسباب الفرقة والاختلاف والاقتتال بين المسلمين؛ نهاهم -عليه الصلاة والسلام- عنها، وبيّن أن أصل الناس واحد؛ فخطبهم في وسط أيام التشريق فقال: "يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى". رواه أحمد.
واجتماع المسلمين خير من تفرقهم، والنصيحة لولاتهم سببٌ لاجتناب الفتنة، واجتماع الكلمة، كما أن طاعة الوالي المسلم سبب لجمع القلوب عليه؛ ولأجل ذلك أكد على هذه المعاني في حجته، قالت أم حصين -رضي الله عنها-: "حججت مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، فرأيته حين رمى جمرة العقبة، وانصرف وهو على راحلته، ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الشمس، قالت: فقال رسول –صلى الله عليه وسلم- قولاً كثيرًا، ثم سمعته يقول: إنْ أُمِّرَ عليكم عبد مجدع -حسبتها قالت- أسود، يقودكم بكتاب الله تعالى، فاسمعوا له وأطيعوا". رواه مسلم.
وقال جبير بن مطعم -رضي الله عنه-: قام رسول الله بالخيف من منى فقال: "... ثلاث لا يَغْلُّ عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل، ومن أعظم النصيحة لهم: أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الحق".
ولما كان الظلم سببًا للفتن، والغيبة سبيلاً للوقيعة بين المؤمنين؛ حذر -عليه الصلاة والسلام- في حجته من ذلك كله، فقال في خطبته التي بمنى أوسط أيام التشريق: "... اسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه... ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينكم". رواه أحمد.
وكان الناس يأتونه -عليه الصلاة والسلام- فمن قائل: يا رسول الله: سعيت قبل أن أطوف، أو قدمت شيئًا أو أخَّرت شيئًا، فكان يقول: "لا حرج، لا حرج، إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي حرج وهلك". رواه أبو داود. والمعنى: أنه عابه ونال منه، وقطعه بالغيبة.
حذَّر -عليه الصلاة والسلام- من غلو أمته في العبادة؛ لما في الغلو من تبديل الدين، والانحراف عن الهدي المستقيم، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- غداة العقبة وهو على ناقته: "القط لي حصى"، فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخَذْفِ، فجعل ينفضُهن في كفه ويقول: "أمثال هؤلاء فارموا"، ثم قال: "يا أيها الناس: إياكم والغلو في الدين؛ فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين". رواه النسائي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "قوله: "إياكم والغلو في الدين" عام في جمع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو مجازوة الحد بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك، والنصارى أكثر غلوًا في الاعتقادات من الأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله تعالى عن الغلو في القرآن بقوله تعالى: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) [النساء:171]. وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخل فيه، والغلو فيه مثل رمي الحجارة الكبار ونحو ذلك على أنه أبلغ من الصغار، ثم علل ذلك بما يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقًا -يعني النصارى- أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه الهلاك".
ويقابل الغلو في الدين، والتشدد بلا دليل: التفلت من الدين، وتحريف الشريعة، وتبديل كلام الله تعالى ليوافق أهواء البشر، بل والكذب على الله تعالى وعلى رسوله –صلى الله عليه وسلم-؛ إرضاءً للأهواء، ومسايرة للواقع، وقد علم النبي –صلى الله عليه وسلم- أن ذلك واقع في أمته، فحذرهم منه في حجته.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو على ناقته المخضرمة بعرفات: "أتدرون أي يوم هذا؟!..."، إلى أن قال: "ألا وإني فرطكم على الحوض، وأكاثر بكم الأمم، فلا تُسوِّدوا وجهي، ألا وإني مستنقِذ أناسًا، ومستنقذٌَ مني أناسٌ"، فأقول: "يا رب: أصيحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". رواه ابن ماجه.
وفي رواية للإمام أحمد: "ألا وإني فَرَطُكم على الحوض أنظركم، وإني مكاثر بكم الأمم فلا تُسَوِّدوا وجهي، ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني، وستسألون عني؛ فمن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار، ألا وإني مستنقذ رجلاً أو إناثًا، ومستنقذٌ مني آخرون، فأقول: يا رب: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك".
إنها معانٍ عظيمة، وأصول كبيرة، أكد عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجته، وكررها على أصحابه؛ نصحًا لهم، ورأفة بأمته -عليه الصلاة والسلام-.
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يَعْجَبُون من تأكيده هذه المعاني في تلك المواطن وتكرارها، ويتكلمون عن حجة الوداع ولا يدرون ما هي: أهي وداع النبي –صلى الله عليه وسلم- أم غيره؟! حتى توفي النبي –صلى الله عليه وسلم- فعلموا عند ذلك أنه -عليه الصلاة والسلام- وادع الناس بالوصايا التي أوصاهم بها قرب أيام موته.
فهنيئًا لمن فهم تلك الوصايا؛ فأخذ بها، ويا شقاء من أغفلها أو أعرض عنها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.
أيها المسلمون: هذه العشر المباركة هي خير أيام السنة، والعمل فيها أفضل من العمل في غيرها، بنص قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام". يعني: أيام العشر. قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".
ومن الأعمال الصالحة في هذه العشر: ذكر الله تعالى، وهو فيها أفضل منه في غيرها؛ لقول الله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج:27]، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء.
وروى ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". رواه أحمد.
وذكر البخاري في صحيحه أن ابن عمر وأبا هريرة -رضي الله عنهما- كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
فمن شعائر الله تعالى في هذه العشر: كثرة الذكر، وآكده التكبير، فينبغي للمسلم الإكثار من التكبير المطلق في هذه الأيام العظيمة، والجهر به، ابتداءً من دخول هذه العشر في الصباح والمساء وفي كل وقت؛ لقول الله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) [الحج:34]
فإذا صلى غير الحجاج فجر يوم عرفة شرع التكبير المقيد مع المطلق إلى آخر يوم من أيام التشريق؛ لفضل تلك الأيام، ولمزية التكبير فيها على غيرها، كما قال الله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 203]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هي أيام التشريق".
وجاء في حديث نبيشة -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل-". رواه مسلم.
ومن أعظم القرب إلى الله تعالى في يوم النحر: الأضحية، وهي فعل أبينا إبراهيم، وفداء أبينا إسماعيل، وسنة نبينا محمد -عليهم الصلاة والسلام-؛ فقد قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "ضحى النبي –صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما". رواه الشيخان.
ومن أراد أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره منذ إهلال ذي الحجة حتى يذبح أضحيته؛ كما أمر بذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في حديث أم سلمه -رضي الله عنها-.
ومن لم يحج فيشرع له صيام يوم عرفة، وصيامه سنة مؤكدة، رتب الشارع الحكيم عليها تكفير ذنوب سنتين كاملتين، السنة الباقية والسنة الماضية، كما ثبت ذلك عن النبي –صلى الله عليه وسلم-.
فلا يفرط في ذلك إلا من حرم نفسه خيرًا كثيرًا، فأروا الله -عباد الله- من أنفسكم خيرًا، وأكثروا من العمل الصالح في هذه العشر المباركة.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله، محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم...
التعليقات