عناصر الخطبة
1/كثرة نعم الله على الناس 2/نعمة التقنية والتكنولوجيا الحديثة 3/آداب التعامل مع وسائل التقنية الحديثة 4/خطورة سوء استخدام التكنولوجيا المعاصرة 5/ضوابط مهمة في استخدام التقنيات الحديثة.اقتباس
التكنولوجيا حين يسلمُ نوعُها من التخريبِ والتدمير نافعَةٌ للإنسانِ تُسهّلُ العسير وتُقرِّبُ البعيد وتُلينُ الصلبَ الحديد، وإنّما الخطَرُ كلّ الخطَر في سيطَرَتِها على الإنسَان، في فراغِه من قِيَمِ الاستعمالِ ومبادِئِ الاستغلالِ وأخلاقِ التعامُلِ والتطويع، في تسليمِ نفسِهِ وعقلِهِ وحياتِهِ إلى درجَة العبودِيّة والاعتمادِ التام....
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو بكل لسان محمود، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الإله المعبود.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد: أيها الإخوةُ في الله: نِعَمُ اللهِ -تعالى- على عبادِهِ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، قال ربُّ العِزّةِ -جلّ في عُلاه-: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النحل: 18].
نقفُ اليوم مع نعمة عظيمة من النعم في حياة الإنسان اعترافًا بفضل المنعم –سبحانه-، وشكرًا له على تلك النعمة، وتعلُّمًا لكيفية استعمالها في الخير والحق والمعروف.. إنَّها نعمةُ " التقنية- التكنولوجيا" وما أدراكَ ما التقنية؟!.. سهّلت بفضلِ اللهِ العسير، وقرّبت البعيد، وألانَت بإذنِ اللهِ الحديد، وجعلت أفكارَ الإنسانِ وطموحاتِهِ وأمانِيهِ ورغباتِهِ واقعًا حقيقيًّا يعيشُهُ ويستمتِعُ به في شكلِ وسائِلَ وأدوات..!
التقنية -معشر المؤمنين- تسخيرٌ وفتحٌ ربّانِي على العقل الإنسَاني، وهي منذُ قديمِ الزّمانِ موجودَةٌ ولو كانت بدائيّة كالمطرَقَة والفأس؛ لأنّ الإنسَانَ مجبُولٌ على التطوير والبحث عن حلٍّ للمشكلات، ولكنّها بصورتها اليوم وخاصّة بعد اكتشاف الطّاقَة بأنواعها.. هي بالنّسبَة للأوّلين معجزةٌ لا تُصدَّق!، وجزءٌ من الخيال، بل لا يخطُرُ لهم حتّى في الخيال، ولذلكَ قال اللهُ -تعالى- وهو يعدّدُ نعمَهُ على العباد، قال: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[الواقعة: 61].
نقفُ اليومَ -معشر المؤمنين- مع العبوديّة الواجِبَةِ للهِ في حقّ هذه النّعمَة، ولسنَا نتكلّمُ عن الشّقّ الإيجابي في التقنية فلا يختلفُ فيه اثنان، إنّمَا نركّزُ على التحذيرِ من زاوية الانحراف والانجراف في أنفسِنا وأبنائِنا وأهلينَا وإخوانِنَا والحضارة على وجهِ العموم. فنسأل الله التوفيقَ إلى ما يحب ويرضَى.
فأمَّا الأدبُ الأعظَمُ الذي هو قُطبُ الرّحَى: فهو إسنادُها للمُنعِمِ -جلّ في عُلاه-: قال اللهُ -تعالى- آمرًا أمّةَ محمّدٍ -صلى الله عليه وسلم- ومن بلَغْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)[الأحزاب: 9].
قال أهل العلم: أوّلُ مراتِبِ ذِكرِ النّعمَة: "إسنادُها للمُنعِمِ -سبحانه جلّ في علاه-!". فاللهُ -تعالى- هو الخالِقُ الرّازِقُ المُنعِمُ المتفضّل، وما سِواهُ عبدٌ مخلوقٌ لا يخرُجُ عن سلطَانِ اللهِ أبدًا شرعًا ولا قدَرًا، والإنسانُ والعقلُ والمادّةُ والوسائلُ والتكنُولوجيا وغيرُها جزءٌ من هذا القانُونِ "قانُونِ التعبِيدِ للهِ الواحِد"، فينبغي أن يرتبطَ الكُلُّ باللهِ إيمانًا واعترافًا ويرجِعَ إليهِ انكِسارًا وطاعَةً وتعبُّدًا، وإلاّ حصَلَ بالخُروجِ عن هذه القاعِدَةِ ما لا يُحمَدُ عُقباهُ كما نُشاهِدُ في ثورة التقنيّة اليوم واهتزازِ علاقَةِ الإنسانِ بها وبالله -تعالى-. نسألُ اللهَ السلامَةَ والعافية.
معشر المؤمنين: أشارَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الحقيقَةِ ببلاغَتِهِ الفريدَة التي لا تنطِقُ عن الهوَى، وهو يذكُرُ حالَ الإنسانِ حينَ ينحرفُ عن هذا القانونِ الإسلامِيّ الأصيل "قانُونِ تعبِيدِ كُلّ شيءٍ للهِ الواحِد"، حينَ ينحرفُ بدافِعِ الشهوة والهوى أو الغفلة أو الانبِهارِ أو التمجيدِ الزّائِد، فيَجعلُ نفسَهُ عبدًا لغيرِ اللهِ، كائِنًا ما كانَ هذا الغير، ولو كانَ قطعَةَ حديدٍ أو زجاج أو مجموعَة أسلاكٍ وخيوط وأزرار...
انظُروا إلى النّهايَةِ مُصوّرَةً بتعبيرٍ نبويٍّ دقيق؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعِسَ عبد الدّينار! تعِس عبدُ الدرهم! تعِس عبد القَطِيفة! تعس عبد الخمِيصة! تعِس وانتَكَس وإذا شِيك فلا انتَقَش".
لا إله إلاّ الله، ولا حولَ ولا قُوّةَ إلاّ بالله.. إنّها نهايَةُ جعلِ النّفسِ الإنسانيّةِ المكرّمَة عبدًا ذليلاً لغيرِ اللهِ كائنًا ما كانَ هذا الغير.. إنّها نهايَةُ وسمِ النّفسِ الإنسانيّة بالعبوديّة التي هي تمامُ الحُبّ والذّل، ولكن لشيءٍ لم يجعَلهُ اللهُ مستحِقًّا لذلك بل هو في الأصلِ مُسَخّرٌ لكَ أيّها الإنسَان وإلى حِينٍ فقط!
أيها الإخوةُ في الله: إنّهَا التّعاسَةُ والعياذُ بالله، هي ما نشكُوهُ اليومَ نتيجَةَ جعلِ أنفُسِنا وأولادِنَا وجيلِنَا "عبيدًا للتقنية" بما تحمِلُهُ كلمَةُ العبودِيّة من معنى تمامِ الحُبّ وتمامِ الذّل، نتيجَةَ تجاوُزِ درجَةِ حُسن الاستعمال إلى سوءِ الإدارَة والاستغلال، نتيجَة تجاوُزِ درجَةِ التسخيرِ إلى درجَة التدمير، نتيجَة الوُقوعِ في الغفلةِ والإهمال، إنّهَا "التّعاسَةُ النفسيّةُ والحياتِيّةُ " في أجلَى صُورِها يعيشُها من اغتَرّ وانبَهَر وعبّدَ نفسَهُ لغيرِ اللهِ كائنًا ما كان هذا الغير.
نسأل الله العافية. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة في الله: التكنولوجيا حين يسلمُ نوعُها من التخريبِ والتدمير نافعَةٌ للإنسانِ تُسهّلُ العسير وتُقرِّبُ البعيد وتُلينُ الصلبَ الحديد، وإنّما الخطَرُ كلّ الخطَر في سيطَرَتِها على الإنسَان، في فراغِه من قِيَمِ الاستعمالِ ومبادِئِ الاستغلالِ وأخلاقِ التعامُلِ والتطويع، في تسليمِ نفسِهِ وعقلِهِ وحياتِهِ إلى درجَة العبودِيّة والاعتمادِ التام، هنا يكمُنُ الإشكالُ لا في التقنية!
وخاصّةً حينَمَا تُجعلُ بينَ يدي عُقولٍ لم تنضُج، وأرواحٍ لم تُبنَ ولا زالت تهتزُّ وتُبتَزّ، وأيدٍ ألِفَتِ العَبَثَ والفراغ فلا يؤتمنُ عليها الانجرارُ وراءَ الشهوةِ والتأثُّرِ بالمُغريات..!
نعم هو هذا؛ حينَ لا يحصُلُ التناغُمُ في حياتِنَا بين امتلاك وسائلِ التقنية والاستمتاعِ بها، وبين امتلاكِ القِيَمِ والمبادئ والتربية الإيمانيّة الخلقيّة التي تهدِي وتُرشِد..!
والله معشر المؤمنين لسنَا ضِدّ الشّاشَةِ ولا الزّر.. ولا ينبغي لنَا هذا، وإنّمَا نحن ضدّ تمكينِ النفسِ من الوسائل والأزرارِ مع تركِها خاويَةً من القِيَمِ الأصيلَة والمبادئ الرّاسِخَة والتربية الإيمانيّة الخُلقيّة العاصِمَة..!
كيفَ لا ينطَبِقُ فينا قولُهُ -صلى الله عليه وسلم-: "تَعِسَ"، وقولُهُ -صلى الله عليه وسلم-: "وإذَا شيكَ فلا انتقَش"، أي "شلل تام"، لا يبقَى معه إحساس بالشّوكة ولا قُدرة على نزعِها!. نعَم: إنّها نتيجَةُ مخالفة قاعِدَة تعبيدِ كلّ شيء في الحياة لله الواحد القهّار!
انظُر -أخي في الله- في حالنا مع التكنولوجيا عندَ فراغِ النفسِ من القيَم وبرامِجِ الحمايَة:
لن أتحدّث عن الإيجابيّات كما قُلت، ولكن انظُر كيفَ أدخلنَا التقاطُ الإشارَة والبث في اللاّوَعي والانعزالِ والوَحدة وتشتّت الذّهن واختلال التركيز مع القابليّة للاختراقِ والتطويعِ والتشكِيل، وفساد الروابط والانغماسِ في الافتراض وضياع لذّة الحقيقة، مع التعوّد على الكسَل، وفقدنَا بأكذوبَةِ القرية الصغيرة جمالَ التعامُل مع القريَةِ الكبيرة وانخفضَت سلوكيّاتُنا الاجتماعيّة الطبيعيّة أو كادت تزول لأنّنا جميعًا على بُعدِ ضغطَة زِرٍّ واحِدَة!
انظُر كيفَ ضاعت بالتأكيدِ الأوقات والصلوات، وشاعَت الفواحِشُ والمنكَرات، وانتشرت الرذائل بنفسِ سُرعة انتشارِ الإشارَة والبثّ، والسببُ فراغُ النفسِ من القيَم وبرامِجِ الحمايَة.
أيها الإخوةُ في الله: إحصاءُ الموضوعِ في خطبة جمعة أمرٌ مُستحِيل، وإنّما حسبُنا تحريكُ الإحساسِ الميّت، فإنّ كَثرَةَ المِسَاس تُذهِبُ الإحسَاس، وحياتُنا اليوم تكادُ تقومُ على التقنية، فأحسِنُوا تعبيدَ أنفُسِكُم وإيّاهَا للهِ، واجعلوها مَطيّةً للدّار الآخرة مع الاستمتاعِ بما لذّ منها وطاب شرعًا، وركّزوا خاصّةً في أبنائكم وبناتِكم على بِناءِ القِيَمِ والمبادئ والتربية الإيمانيّة الخُلُقيّة، فإنّها الأساس.
هذا ونسألُ اللهَ العظيمَ التوفيق إلى ما يحبّ ويرضَى.
اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
وصلّ اللهم وسلّم وبارك على نبيّك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
التعليقات