عناصر الخطبة
1/مكانة العلماء وعظيم قدرهم 2/من حقوق العلماء على الناس 3/من إجلال السلف للعلماء 4/موت العلماء من أعظم المصائباقتباس
ولمّا ماتَ زيدٌ -رضيَ اللهُ عنه- قامَ ابنُ عبّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهما- على قبرِه وقال: "يا هؤلاءِ! من سّرَّه أنْ يعلمَ كيفَ ذهابُ العلمِ فهكذا ذهابُ العلم، وأيْمُ اللهِ لقد ذهبَ اليومَ علمٌ كثير", وقالَ يحيى بنُ جعفر: "لو قَدِرْتُ أنْ أزيدَ في عُمُرِ محمّدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنّ الحمدَ للهِ, نحمدُه ونستعينُه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا, من يهده اللهُ فلا مضلَّ له, ومن يضللْ فلا هاديَ له, وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له, وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه, صلّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه, وسلّمَ تسليمًا كثيرًا, أمّا بعدُ:
عبادَ الله: للعلماءِ الربّانيّينَ الرّاسخينَ منزلةٌ عظيمةٌ في الإسلام؛ فهم أئمّةُ الهُدى، ومصابيحُ الدُّجى، رُبّانُ السّفينِ، وحُماةُ الدِّين، يَنفونَ عنه تحريفَ الغالينَ، وانتحالَ المبطلينَ، وتأويلَ الجاهلين، قالَ الإمامُ أحمدُ -رحمه اللهُ- في وصفِهم: "يَدْعُونَ مَن ضلَّ إلى الهُدى، ويَصْبرونَ منهم على الأذى، يُحيونَ بكتابِ اللهِ الموتى، ويُبَصِّرونَ بنورِ اللهِ أهلَ العَمى، فكم مِن قتيلٍ لإبليسَ قد أَحْيَوْه، وكم مِن ضالٍّ تائهٍ قد هَدَوْه!", وقالَ ابنُ القيّمِ -رحمه الله-: "هم في الأرضِ بمنزلةِ النّجومِ في السّماء؛ بهم يَهتدِي الحيرانُ في الظَّلْماء، وحاجَةُ النّاسِ إليهم أعظمُ من حاجتِهم إلى الطّعامِ والشّراب، وطاعتُهم أفرضُ من طاعةِ الآباءِ والأمّهاتِ بنصِّ الكتاب".
فحُقَّ لهم تلك المكانة؛ فهم ورثةُ الأنبياء، قالَ -عليه الصلاةُ والسّلام-: "إنّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإنّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ وإنّما ورّثوا العلم، فمن أخذَه أخذَ بحظٍّ وافر", بل حسبُهم ثناءُ اللهِ لهم في مُحكمِ الآيات: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11]؛ ولذا كانَ حبُّهم وتوقيرُهم وإجلالُهم دِينًا وطاعةً وقُربة، قالَ السَّعديُّ -رحمه الله-: "مِنْ عقيدةِ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ أنهم يَدينونَ اللهَ باحترامِ العلماءِ الهُداة".
صلّى زيدُ بنُ ثابتٍ -رضيَ اللهُ عنه- على جَنازةٍ وهو مِنْ علماءِ الصّحابةِ وكانَ من الموالي، فلمّا انتهى من الصّلاةِ قُرِّبَتْ له بغلةٌ ليركبَها، فجاءَ ابنُ عبّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهما- فأخذَ بركابِه فقالَ له زيد: "خَلِّ عنها يا ابنَ عمِّ رسولِ الله!"، فقالَ ابنُ عبّاسٍ: "هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا وَكُبَرَائِنَا".
ولمّا ماتَ زيدٌ -رضيَ اللهُ عنه- قامَ ابنُ عبّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهما- على قبرِه وقال: "يا هؤلاءِ! من سّرَّه أنْ يعلمَ كيفَ ذهابُ العلمِ فهكذا ذهابُ العلم، وأيْمُ اللهِ لقد ذهبَ اليومَ علمٌ كثير", وقالَ يحيى بنُ جعفر: "لو قَدِرْتُ أنْ أزيدَ في عُمُرِ محمّدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ من عُمُرِي لفعلت؛ فإنّ موتي يكونُ موتَ رجلٍ واحد، وموتُه ذهابُ العلم".
فالعلماءُ وجودُهم رحمةٌ وأَمَنَةٌ ونورٌ وهداية، وذهابُهم مصيبةٌ وثُلمةٌ ورزيّة، قالَ -عليه الصلاةُ والسّلام-: "إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا", قالَ -تعالى-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)[الرعد: 41]؛ قالَ ابنُ عبّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-: "نقصانُ الأرضِ بموتِ العلماء، فخرابُها بموتِ فقهائِها وعلمائِها وأهلِ الخيرِ منها".
لعَمْرُكَ ما الرَّزِيَّةُ فَقْدَ مالٍ *** ولا شاةٌ تَمُوتُ ولا بَعِيرُ
ولكنّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ شَهْمٍ *** يمُوتُ لِمَوْتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُ
قالَ ابنُ القيّمِ -رحمَه الله-: "لمّا كانَ صلاحُ الوجودِ بالعلماء، ولولاهم كانَ النّاسُ كالبهائم، بل أسوأُ حالًا؛ كانَ موتُ العالمِ مصيبةً لا يَجبرُها إلا خَلَفُ غيرِه له", فالحمدُ للهِ فالخيرُ في هذه الأمّةِ لا يَنفَد، ومَعينُه لا يَنْضَب، إذا ماتَ منّا سيّدٌ قامَ سيّدٌ، وإذا ذهبَ عالمٌ قيّضَ اللهُ علماء، فالدِّينُ وحُماتُه باقونَ ما بَقِيَت الأرضُ والسّماء؛ (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 144].
ولا يزالُ اللهُ يَغرسُ في هذه الأمّةِ مَنْ يَدُلّها إلى طريقِ الرّشاد، ويُجاهدُ في اللهِ حقَّ الجهاد، قالَ أيُّوبُ السِّخْتيانيُّ -رحمه اللهُ- وهو يُغَسِّلُ أحدَ أصحابِه: "إنّ الذينَ يَتمنَّوْنَ موتَ أهلِ السُّنّة (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[التوبة: 32]".
فاتقوا اللهَ -رحمكم الله-، واعرفوا لعلمائِكم قدرَهم وأجِلّوهم، وانهلوا من علمِهم قبلَ أنْ تفقدوهم، فاللهمّ احفظْ علماءَنا وانفعْ بهم الإسلامَ والمسلمين، واجزهم عنّا خيرَ ما جزيتَ عبادَك الصّالحين، وارحمْ المُستقدمينَ منهم والمُستأخرين، برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين.
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه؛ إنّه هو الغفورُ الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانِه، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه وإخوانِه، أبدًا إلى يومِ الدّين, أمّا بعد:
عبادَ الله: اتّقوا اللهَ حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلامِ بالعروةِ الوُثقى، واحذروا المعاصي؛ فإنّ أجسادَكم على النّارِ لا تقوى، واعلموا أنّ ملَكَ الموتِ قد تخطّاكم إلى غيرِكم، وسيتخطّى غيرَكم إليكم فخذوا حذرَكم، الكيّسُ مَنْ دانَ نفسَه، وعملَ لمَا بعدَ الموت، والعاجزُ من أتبعَ نفسَه هواها وتمنّى على اللهِ الأمانيّ.
إنّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ رسولِ الله، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمينَ؛ فإنّ يدَ اللهِ مع الجماعة، ومن شذَّ عنهم شذَّ في النّار.
اللهمّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، ودمّرْ أعداءَ الدّين، وانصرْ عبادَك المجاهدينَ وجنودَنا المرابطين، وأنجِ إخوانَنا المستضعفينَ في كلِّ مكانٍ يا ربَّ العالمين، اللهمّ آمِنّا في أوطانِنا ودورِنا، وأصلحْ أئمّتَنا وولاةَ أمورِنا، وهيّءْ لهم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ربَّ العالمين، اللهمَّ أبرمْ لأمّةِ الإسلامِ أمرًا رشدًا يُعزُّ فيه أولياؤُك ويُذلُّ فيه أعداؤُك ويُعملُ فيه بطاعتِك ويُنهى فيه عن معصيتِك يا سميعَ الدعاء. اللهمّ ادفعْ عنّا الغَلا والوَبا والرّبا والزّنا والزلازلَ والمحنَ وسوءَ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطن، اللهمّ فرّجْ همَّ المهمومينَ ونفّسْ كرْبَ المكروبينَ واقضِ الدّينَ عن المدينينَ واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهمّ اغفرْ لنا ولوالدِينا وأزواجِنا وذريّاتِنا ولجميعِ المسلمينَ، اللهمّ أغثْ قلوبَنا بالإيمانِ واليقين، وبلادَنا بالأمطارِ والبركاتِ والغيثِ العميم، واجعلْ ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتِك وبلاغًا إلى حين، برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين.
عبادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، ويقولُ -عليه الصلاةُ والسلام-: "من صلّى عليّ صلاةً؛ صلى اللهُ عليه بها عشْرًا", اللهمّ صلِّ وسلمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه أبدًا إلى يومِ الدّين.
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].
التعليقات