عناصر الخطبة
1/ من أعظم نعم الله الرحمة الخاصة، ولمن تكون؟ 2/ ضرورة الرحمة في أوقات الابتلاءات والأزمات 3/ فضائل التراحم بين المسلمين وثواب ذلك 4/ الرحمة تحمل الإنسان على أخلاق عدة 5/ قصص في التراحم بين المسلميناهداف الخطبة
اقتباس
1/ من أعظم نعم الله الرحمة الخاصة، ولمن تكون؟ 2/ ضرورة الرحمة في أوقات الابتلاءات والأزمات 3/ فضائل التراحم بين المسلمين وثواب ذلك 4/ الرحمة تحمل الإنسان على أخلاق عدة 5/ قصص في التراحم بين المسلمين
الخطبة الأولى:
الحمد لله أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، وأمرنا بالعدل والإحسان، ونهانا عن الظلم والطغيان، وجعل طاعته -جل وعلا- سبباً لنزول رحمته، وتحقق نصرته، وجعل معصيته سبباً لحصول النقم، ورفع النعم، نحمده -سبحانه وتعالى- حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وأكمل به الشريعة والدين، وبصَّر به من العمى، وأرشد به من الغواية، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أما بعد:
عباد الله: من رحمة الله بعباده يوم القيامة أنه يُدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويحاوره ويكلمه، ويقرره بذنوبه؛ كما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال: "إن الله يُدني المؤمن فيضع عليه كَنَفَه ويستُره فيقول: أتعرفُ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربِّ حتى إذا قرّره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافق فيقول (الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود:18]، (متفق عليه).
يا لها من رحمة عظيمة .. بها تكون النجاة والفوز والفلاح في يوم لا ينفع فيه إلا رحمة الله وعملك الصالح، وقد سمى الله نفسه بالرحمن الرحيم، ودعا عباده إلى عدم القنوط واليأس من رحمته تحت أي ظروف .. قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].. وقال -سبحانه-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف:156]
ورحمة الله في الدنيا والآخرة لا ينالها إلا أهل الإيمان والتقوى الذين يتبعون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويقتدون به ويلتزمون سنته قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) [الأعراف:156-157]..
وينال رحمة الله أصحاب الأخلاق الحسنة والتائبون إلى الله والمتراحمون فيما بينهم، الذين امتلأت قلوبهم بالحب والتراحم ولين الجانب.. قال -صلى الله عليه وسلم- "أهلُ الجنّة ثلاثة: إِمام عادِل، ورجلٌ رحيمُ القلب بالمساكين وبكلِّ ذِي قربى، ورجلٌ فقير ذو عِيال متعفِّف" (مسلم:2865)..
وقال تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام:54].
وقد وصف الله محمدًا وأصحابه ومن يتبعه بالرحمة فقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29].. ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (رواه أبو داود والترمذي).
وفي الحديث: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (البخاري:6011).
والرحمة لا تُنزع إلا من شقي، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُنزع الرحمة إلا من شقي"، (الترمذي وقال: حديث حسن) ..
وإنَّ من أجلِّ نعم الله أن يجعلك من المرحومين، قال تعالى: (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [آل عمران:157].
أيها المؤمنون: عباد الله: لقد تمثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلق الرحمة واقعاً وسلوكاً في الحياة امتثالاً لأمر ربه فأحبته القلوب، واطمأنت له النفوس، ولهجت بذكره الألسن، وسعد بخُلقه المسلم والكافر، والبر والفاجر، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]..
فشملت رحمته بأمته جميع جوانب الحياة، في العسر واليسر، والسلم والحرب، ومع المسلم وغير المسلم، وشملت الأرض والإنسان والجماد والحيوان، وتربى أصحابه على ذلك، وتأست به الأمة في كل زمان، فاستحقت رحمة الله، وفي وقت الفتن والمصائب والكوارث والحروب كان التراحم والتكافل بين أبناء الأمة سببًا للنصر والفرج وتغير الأحوال.
ولذلك لا بد للمسلم في كل وقت، وبالذات في الأوقات العصيبة في حياة أمته ومجتمعه ووطنه؛ أن يتنازل عن حظوظ نفسه ومصالحه الشخصية من أجل مصلحة العامة، فالطمع والجشع وحب الذات يظهر في النفوس؛ لأنه لا يثبت على الأخلاق العظيمة في مختلف الظروف إلا العظماء.. قال -صلى الله عليه وسلم-: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات.. وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة" (صححه الألباني في صحيح الجامع)..
والمسلم لا يعيش لنفسه وحسب بل لا بد أن يتعدى نفعه وخيره للآخرين، وفي وقت الشدائد والمحن والنكبات يكون الأمر أعظم، وفيه تظهر صورة المجتمع المسلم المتماسك والمتراحم والمتعاون؛ كما أمر الشرع بذلك.. قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73]، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77]..
وما أشد افتقار الناس إلى التخلق بالرحمة التي تضمّد جراح المنكوبين، والتي تواسي المستضعفين المغلوبين، ولاسيما في هذا العصر، الذي فُقدت فيه الرحمة من أكثر الخلق، فلا يُسمع في هذا العصر لصرخات الأطفال، ولا لأنين الثكلى، ولا لحنين الشيوخ، ولا لكلمة الضعفاء، لا يُسمع فيه إلا للغة القوة، ومنطق القدرة، فإذا استحكم الظلام في النفوس، وطغى طوفان المادة الجافة آذنت الرحمة بالرحيل من قلوب كثير من الخلق، حتى قال قائلهم: "إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب"، و"إن لم تجهل يُجهل عليك"..
وقد أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عظم جزاء المسلم عندما يخفف عن إخوانه، وييسر عليهم، ويكون عونًا لهم على مصائب الحياة .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: عملت من الخير شيئا؟، قال: لا، قالوا: تذكر، قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن يُنظِروا المعسر، ويتجوزوا عن الموسر، قال: قال الله: تجاوزوا عنه" (متفق عليه)..
إن علينا المساهمة في مشروعات الإغاثة الإنسانية، والتكافل والبذل والعطاء؛ كل بما يستطيع، ولاسيما في حالات المصائب والكوارث والزلازل، والفتن والحروب، وقد ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم-:"إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جعلوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم" (البخاري ومسلم)..
أفلا يجدر بنا أن نتعاون ونتراحم ونبذل المعروف لبعضنا البعض دون تمييز أو انتقاء؛ فالمسلم أخو المسلم من أيّ قبيلة أو جماعة أو حزب أو بلاد، وليست رحمة نرحم بها الصاحب والقريب وحسب، بل رحمة الجميع من حولك، ولا يكتمل الإيمان إلا بذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لن تؤمنوا حتى تراحموا" قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة" (حسنه الألباني في صحيح الترغيب 2253)..
اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة.. قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن التراحم بين الخلق فطرة ربانية، تحمل صاحبها على الإحسان للآخرين، والتلطف معهم، والترفق بهم، والتألم لمصابهم، والسعي في رفع الضر عنهم؛ فالتراحم دليل على رقة القلب، وسمو النفس، وله ثمرات عظيمة في العاجل والآجل، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي" (رواه مسلم).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن ينجِّيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفِّس عن معسر، أو يضع عنه" (مسلم:1563).
في عام الرمادة وقد اشتد بالمسلمين الفقر والجوع جاءت لعثمان بن عفان -رضي الله عنه- قافلة تجارية من الشام قوامها ألف بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب فجاءه تجار المدينة، وقالوا له: تبيعنا ونزيدك الدرهم درهمين؟ فقال عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لهم: لقد بعتها بأكثر من هذا. فقالوا نزيدك الدرهم بخمسة؟ فقال لهم عثمان -رضي الله عنه-: لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة: فقالوا له فمن الذي زادك؟ وليس في المدينة تجار غيرنا؟ فقال لهم عثمان -رضي الله عنه-: "لقد بعتها لله ولرسوله فهي لفقراء المسلمين".
لقد كان يستطيع أن يربح في هذه الصفقة أموالاً طائلة في وقت يعم الفقر والجوع كل بيت في المدينة، لكنه أراد أن يربح أكثر عندما يتاجر مع الله، وتطلع للأجر والثواب، واستشعر مسئوليته وواجبه تجاه مجتمعه ووطنه والناس من حوله، وهكذا ينبغي لكل فرد يستطيع أن يقدم معروفًا لأمته ومجتمعه حسب استطاعته وقدرته.. بالمال وبالكلمة الطيبة، وببذل المعروف، وتقديم النفع، وبالعفو والمسامحة، وبقضاء الحاجات وإطعام الطعام، وبالنصيحة والدعاء، وغير ذلك، ولن يضيع الله عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى..
كان علي بن الحسين -رحمه الله- يحمل الخبز إلى بيوت المساكين في الظلام، فلما مات فقدوا ذلك، كان ناس من أهل المدينة يعيشون، ولا يعلمون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كان يأتيهم بالليل. قال الحطيئة الشاعر:
من يفعل الخيرَ لا يعدم جوازيه *** لا يذهبُ العرفُ بين الله والناسِ
عباد الله: لنتعاون مع بعضنا، ونبذل المعروف من حولنا، فهناك المشردون والمنكوبون والنازحون، وهناك من فقد وظيفته بسبب الحرب والأوضاع، وهناك من فقد تجارته، وهناك من تهدم بيته ومسكنه، وهناك من فقد أهله، وهناك من تقطعت به السبل، وهناك المريض والجريح وصاحب الحاجة.
ولا بد أن نتعاون ونتراحم فيما بيننا لنستحق رحمة الله، ويتنزل علينا نصره وفرجه ورحمته، وليس ذلك على الله ببعيد، وثقوا بالله وأحسنوا الظن به، وتوكلوا عليه فهو حسبنا ونعم الوكيل.
اللهم غيِّر حالنا من الضعف إلى القوة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الذلة إلى العزة، ومن الضلالة إلى الهدى، اللهم كن معنا ولاتكن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، واهدنا ويسر الهدى لنا.
اللهم أصلح أحوالنا، واحقن دماءنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا يا أرحم الراحمين.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات