عناصر الخطبة
1/ تعريف العفة وبيان فضائلها 2/ أنواع العفة وأفضلها 3/ عفة أهل العلم عن الدنايا 4/ العزة في أجمل صورها 5/ تعلق القلوب بالهع الغني الحميد 6/ أهمية الاستغناء عن الناس 7/ مسألة الناس مذلة 8/ الاستغناء بالله هو الغنى الحقيقي.اهداف الخطبة
اقتباس
ربك قريب منك لست بحاجة للسفر لتقترب منه، ولا لرفع صوتك، فقط اسجد واقترب، تذلل لربك الذي خلقك، الذي يسترك، الذي يتجاوز عنك الذي يسمح ويعفو. لا تمل عن جناب ربك فتسأل عبدًا مثلك، تسأل عبدًا يمتن عليك ويفضحك يشهّر بك، وإذا رأى منك شيئًا ردّد على مسامعك ومسامع غيرك أنا فعلت معك، أنا أعطيتك، كثيرًا من الناس اليوم إذا أعطوا أحدًا، فإنهم يريدون أن يجعلوا منه عبدًا لهم وخادمًا لا يحق له الاعتراض، فلا تضع رقبتك بين يدي أحد سوى الذي خلقك.. العفة وعاء جامع لعدد من صفات الخير والفضل، من رُزقها عاش سيدًا، ومات كريمًا، وبعث سعيدا، وحياة بلا عفة وتعفف واستعفاف حياة خالية من سر التزكية منقطعة عن عالم الكرامة..
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: العفة هي البضاعة التي لا يخسر استبضاعها، والمادة التي لا يخاف انقطاعها والعدة التي لا وصول للنوائب إليها، والذخيرة التي لا يد للحوادث عليها، تخدم الناس صاحبها بالآراء الطائعة والأهواء الراغبة، ويرونه أهلاً لكل سبق وإن تنازعوا، وشأو يدركه وإن تدافعوا، وحظًّا يبلغه وإن تحاسدوا، ولا شيء أحسن بذي الرأي الثاقب والاختيار الصائب من التصون وترك التبذل؛ فإن في الصيانة مهابة، وفي البذلة مهانة، وفي القناعة رفعة، وفي الحرص ضعة، والإنسان موضوع بحيث يضع نفسه، فإن وفاها حقها من الكرامة نزلت هذه المنزلة أو بخسها إياه كان من سواه أعذر في سلوك هذه الطريقة به، ولله در القائل:
وما المرء إلا حيثُ يجعلُ نفسه ** ففي صالح الأعمالِ نفسك فاجعلِ
العفة -عباد الله- وما أدراكم ما العفة؟! وعاء جامع لعدد من صفات الخير والفضل، من رزقها عاش سيدا، ومات كريما، وبعث سعيدا، العفة ما العفة خلق عظيم تندرج تحته مجموعة من الأخلاق العظيمة والخلال الكريمة، وحياة بلا عفة وتعفف واستعفاف حياة خالية من سر التزكية منقطعة عن عالم الكرامة.
العفة ما العفة هي في اللغة كما يقول ابن منظور: الكف عما لا يحل ويجمل، إذا فهي امتناع واستمتاع، امتناع عما لا يحل من الأعمال، واستمتاع بجميل الخصال والخلال.
قال أهل العلم: "لا يكون الإنسان تام العفة حتى يكون عفيف اليد واللسان والسمع والبصر، فمن عدمها في اللسان السخرية، والتجسس والغيبة والهمز والنميمة والتنابز بالألقاب، ومن عدمها في البصر مد العين إلى المحارم وزينة الحياة الدنيا المولدة للشهوات الرديئة، ومن عدمها في السمع الإصغاء إلى المسموعات القبيحة، وعماد عفة الجوارح كلها ألا يستعملها صاحبها ولا يطلقها في شيء مما يختص بكل واحد منها إلا فيما يصوغه العقل والشرع أي: لا يستعمل جوارحه كلها إلا فيما يجزيه العقل والشرع دون الشهوة والهوى.
إذًا فهناك عفة القلب وعفة العين وعفة السمع، وعفة اليد وعفة الرجل، وعفة الفرج وعفة الاستشراق والتعلق ولمكانتها واشتمالها على هذه الخصال والخلال كانت من دعاء سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى" (رواه مسلم).
بل إن العفيف المتعفف هو من أول ثلاثة يدخلون الجنة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "عرض عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد، وعفيف متعفف، وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه" (رواه الترمذي وغيره).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الغنى عن كثرة العرض.." أي الأراضي والأموال والعقارات ليس هذا هو الغنى "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" (رواه البخاري ومسلم) صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فكم رأينا في زماننا من يملك الأموال والأراضي والعقارات، ولكنه متلهف يلهف بلا توقف، يود لو ملك الدنيا بأجمعها لا شيء يكفيه، ولا حد يغنيه كالشارب من البحر لا يزداد إلا عطشا؛ حرصًا وبخلاً، وتطلعًا إلى الناس وغصبًا لحقوقهم، لا منظره يسر الناظرين، ولا خُلقه يعجب المخالطين، حِرْص وجَشَع وطَمَع والنتيجة تعاسة ملازمة، وكيف لا تلازمه التعاسة، وقد دعا بها عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه: "تعس عبد الدرهم والدينار"، وهذا دعاء من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
"تعس عبد الدرهم والدينار، تعس عبد القطيفة –أي: الثياب- تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش"، يعني إذا ضربته شوكة لن تخرج منه.
وما أجمل ما قال المتنبي:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله *** مخافة فقر فالذي فعل الفقر
أي: حرصه هو الفقر بعينيه.
أيها الحريص المضحي بنفسه وراحته من أجل جمع الأموال من حرام وحلال، ليس الحرص زائدًا في قدر الرزق، ولا السعي المجهود موصلاً إلى الحظ المحروم، كما أن ليس الاقتصار في الدأب بدافع عن الغرض ولا الاقتصاد في الطلب بحاجز عن الظفر، فللأمور مقادير، وللمقدور تصاريف، وللأفعال حدود وللالتماس شروط، والموهوب موهوب، والممنوع ممنوع، وإنما يبقى فرق ما بين التعب والراحة والنصب والرفاهة، وإلا فكلا يجري إلى غايته ويأخذ ما قُسم له من بغيته.
بعض الناس يحرصون على الجاه والمال من أجل الحصول عل مدح الناس وثنائهم وتملقهم وتزلفهم، ونسي هؤلاء أن المال لا يشتري حبًّا ولا يخلق ودًّا، ولله در القائل:
لا تراعي المقال من ألسن الناس *** وراعي القلوب ماذا تقول
والأسوأ من هذا الحريص حالاً، والأقبح منه مآلاً من يتملق له ويحابيه، ويثني عليه ويمدحه من أجل لقمة أو فتات ويزداد القبح قبحًا، والسوء سوءًا عندما يصدر هذا الفعل من أهل العلم وأهل القرآن عندما يتملقون لهم من أجل درهيمات أو من أجل لقيمات يغيرون مبادئهم تبعًا للعطاء، ما أقبحها من صورة وما أحطها من صفة! أنت أكرمك الله بالقرآن وبالعلم وبالمعرفة، وتذل نفسك للوجهاء وتجاملهم على خطأهم بل وتبرر أفعالهم!! ألا ساء ما يزرون.
وما أجمل ما قال القاضي الجرجاني -رحمه الله- وهو يطارد هذه الفئة من المتزلفة والمتصنعة الذين تعددت وجوههم حتى ضاع وجههم الأصلي، يقول الجرجاني وتأملوا رعاكم الله هذا الشعر، فإن من الشعر لحكمة كما قال -صلى الله عليه وسلم-:
"يقولون فيك انقباض وإنما.." بعض الناس اليوم إذا رءوا أحدًا يعتزل الناس أو عنده شيء من عزة النفس يقولون: هذا متكبر أو منقبض أو مريض أو معقد..
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما *** رأوا رجلاً عن موقفِ الذلِّ أحجما
أرى الناسَ من داناهُمُ هان عندهم *** ومن أكرَمته عزةُ النفسِ أكرِما
وما كلُّ برقٍ لاحَ لي يستفزُّني *** ولا كلُّ من في الأرضِ أرضاه مُنَعَّما
وإني إذا ما فاتني الأمرُ لم أبت *** أقلِّبُ فكري إثره مُتَنَدِّما
ولم أقضِ حَقَّ العلمِ إن كان كُلَّمَا *** بدا طَمَعٌ صَيَّرتُه لي سُلَّما
إذا قيلَ هذا مَنهلٌ قلتُ قد أرى *** ولكنَّ نفسَ الحرِّ تَحتَملَ الظَّمَا
ولم أبتذل في خدمة العلمِ مُهجَتي *** لأَخدمَ من لاقيتُ لكن لأُخدما
أأشقى به غَرساً وأجنيه ذِلةً *** إذن فاتباعُ الجهلِ قد كان أَحزَما
ولو أن أهل العلمِ صانوه صانَهُم *** ولو عَظَّمُوه في النفوسِ لَعُظِّما
ولكن أهانوه فهانو ودَنَّسُوا *** مُحَيَّاه بالأطماعِ حتى تَجهَّما
ما أروعه من كلام! وما أجملها من حِكم! هكذا يكون أهل العلم الصادقون عفةً وتعففًا واستغناءً عن الناس، وعدم تطلع إلى ما في أيديهم.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "سيأتي ناس من أمتي يوم القيامة نورهم كضوء الشمس"، قلنا: من أولئك يا رسول الله؟ فقال: "فقراء المهاجرين الذين تُتَّقَى بهم المكاره يموت أحدهم، وحاجته في صدره يحشرون من أقطار الأرض" (رواه الطبراني وغيره وصححه الألباني).
ما أجمله من تعبير يموت أحدهم وحاجاته في صدره لم يظهرها للناس لم تطاوع نفسه أن يريق ماء وجهه، عزة نفسه منعته من التذلل لغير الله، إنها العزة في أجمل صورها.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "استغنوا عن الناس وما قل من السؤال فهو خير"، قالوا "ومنك يا رسول الله؟" قال "ومني" (رواه الطبراني وقال الحافظ العراقي: إسناده صحيح).
استغنِ عن الناس؛ فإن الناس فقراء أبناء فقراء أبناء أبناء فقراء، قال الله معرّفًا الناس بحقيقتهم وهو خطاب للناس كلهم ملكهم ومملوكهم وغنيهم وفقيرهم ووجيههم وحقيرهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15]، فمن العجب أن يذل فقير لفقير.
وتزداد الغرابة عندما يزداد التملق والتزلف من كبار السن المفروض فيهم النضج ومعرفة الحقائق، ولله در ابن الرومي يوم يقول:
لَهْفي على الدنيا وهل لهفة ٌ *** تُنْصِفُ منها إن تلهَّفْتُهَا
فكَّرتُ في خمسين عاماً خَلَتْ *** كانتْ أمامي ثم خلَّفْتُهَا
لا عُذر لي في أسفي بعدها *** على العطايا عفتها عفتها
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أصابتْه فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى، إما بموت عاجل أو غنى عاجل" (رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني).
يا من نزلت بك نازلة أين أنت من الثلث الأخير من الليل، عندما ينزل ربنا إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بكماله، ويقول: "هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟" فأين أنت ساعتها؟!
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سرا وجهرا آمين آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله واصل الحبل وناظم الشمل، وجامع الكلمة ومنزل الرحمة الآمر بالتعفف المانع من التزلف أحمده على ما أوضح من الطريق وقيض من التوفيق وأصلي وأسلم على سيد أنبيائه بالتحقيق سيدنا محمد الرءوف الشفيق صلى الله عليه صلاة بقدره تليق وعلى أهله وصحبه وتبعه ومن سار على الطريق.
معاشر الأحباب: كان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلق الناس بالخالق ويزهدهم في المخلوق، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد ذات يوم فرأى فيه رجلاً من الأنصار يقال له أبا أمامة فقال: "يا أبا أمامة ما لي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة؟ "فقال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله فقال: "ألا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك؟" قال: قلت: بلى يا رسول الله قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين، وقهر الرجال" قال: ففعلت ذلك فأذهب الله -عز وجل- همي وقضى عني ديني. (رواه أبو داود).
أرأيت كيف ربطه مباشرة بالله لم يقل له: اقصد فلانًا أو علانًا، ولكن دلّه على الباب الذي لا يُغلق، والذي لا يرد من قصده باب الله -عز وجل-.
وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال عظني وأوجز, فقال "إذا قمت في صلاتك فصلّ صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غدًا، واجمع الإياس مما في أيدي الناس" (رواه الإمام أحمد).
قال السعدي -رحمه الله- في بهجة قلوب الأبرار قال: "هذه الوصية توطين للنفس على التعلق بالله وحده في أمور معاشه ومعاده، فلا يسأل إلا الله ولا يطمع إلا في فضله ويوطن نفسه على اليأس مما في أيدي الناس، فإن اليأس عصمة –أي: من الناس- ومن أَيس من شيء استغنى عنه، فكما أنه لا يَسأل بلسانه إلا الله، فلا يعلّق قلبه إلا بالله. فيبقى عبداً لله حقيقة، سالماً من عبودية الخلق. قد تحرّر من رقِّهم، واكتسب بذلك العز والشرف؛ فإن المتعلق بالخلق يكتسب الذل والسقوط بحسب تعلقه بهم".
وفي سنن ابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس".
ومن تأمل في القرآن وآجال النظر فيه وجد أن الله -سبحانه وتعالى- يحثنا على التعلق به والتوجه إليه، فمن تأمل مواطن الدعاء في القرآن وجد أنه لم يرد فيها أبداً نداء الله تعالى بحرف المناداة (يا)، لا توجد "يا ربي" يعني "يا" قبل "ربي"، وإنما حذفت في القرآن من أمثلة ذلك قول موسى: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ) (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا) (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) .. إلى غير ذلك من الأمثلة.
والسر البلاغي في ذلك أن "يا" النداء تُستعمل لنداء البعيد، والله تعالى أقرب لعبده من حبل الوريد، فكان مقتضى البلاغة حذفها.
ربك قريب منك لست بحاجة للسفر لتقترب منه، ولا لرفع صوتك، فقط اسجد واقترب، تذلل لربك الذي خلقك، الذي يسترك، الذي يتجاوز عنك الذي يسمح ويعفو. لا تمل عن جناب ربك فتسأل عبدا مثلك، تسأل عبدا يمتن عليك ويفضحك يشهّر بك، وإذا رأى منك شيئًا ردّد على مسامعك ومسامع غيرك أنا فعلت معك، أنا أعطيتك، كثيرًا من الناس اليوم إذا أعطوا أحد فإنهم يريدون أن يجعلوا منه عبدًا لهم وخادمًا لا يحق له الاعتراض، فلا تضع رقبتك بين يدي أحد سوى الذي خلقك.
نعم الناس يتعاونون يحتاج بعضهم إلى بعض لا بأس بهذا، لكن إذا كان في وسط راقي في الفهم والفكر متشبعًا بالوحي والوعي، أما عالمنا اليوم وهذه حقيقة لا نستطيع إنكارها فإنه يشكو من انحدار في الأخلاق واضمحلال في المبادئ إلا من رحم الله.
أخلاقنا تشكو وتعاني! ما أحلى العزة! ما أجمل العزة! ما أجملها من صورة أن تخرج من بيتك ورأسك مرفوعًا لا أحد يسترقك ولا يستعبدك ولا يشهر بك.
إن مسألة الناس مذلة، وإن الذي يحترف هذه المسألة ويكثر منها متوعد عياذًا بالله بصورة من العذاب بشعة ومذلة عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزال المسألة بأحدكم –يعني الذين يسألون الناس يطلبون منهم الأموال وغير ذلك- لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى، وليس في وجهه مزعة لحم" (رواه البخاري)، المزعة قطعة لحم.
قال بعض شراح الحديث قيل معناه: "يأتي يوم القيامة ذليلاً ساقطًا لا وجه له عند الله"، وقيل: وهذا هو الراجح "هو على ظاهره فيُحشر ووجهه عظم، يُحشر وجهه عظم لا لحم عليه عقوبةً له وعلامة له بذنبه؛ حيث طلب وسأل بوجهه" نعوذ بالله من سوء الحال.
أراق ماء وجهه هنا فأسقط الله لحم وجهه هناك، فالاستغناء عن الناس هو الغنى الحقيقي وما أحسن ما قال ابن الوردي حيث يقول:
مُلكُ كسرى عنهُ تُغني كِسرةٌ *** وعـنِ البحرِ اجتزاءٌ بالوَشلْ
يعني ملك كسرى الواسع تغني عنه كسرة خبز يأكلها الشخص ويكتفي بها، والبحر الكثير الماء يغني عنه اجتزاء أي اكتفاء بالوشل، والوشل ما يرشح من الماء من الماء القليل.
أيها الأحباب: التعفف والاستغناء عن الناس عز ورفعة، ولباس وستر، وجاه وغنى، ولله در القائل:
وجدتُ القناعةَ ثوبَ الغنى *** فصرتُ بأذيالها أتمسكْ
فألبسني جاهُها حلةً *** يمرُّ الزمانُ ولم تُنتهَكْ
فصرتُ غنيًّا بلا درهمٍ *** أمرُّ عزيزًا كأنِّي مَلِكْ
يقول أحد الحكماء: "لا يستطيع أحد ركوب ظهرك إلا إذا كنت منحنيًا"، ويقول آخر: "إذا كان رأسك من شمع فلا تمشِ في الشمس".
وما أجمل ما قال الحريري:
لعمرك من أوليته منك نعمة *** أسيرك في الدنيا وأنت أميره
ومن كنت محتاجًا إليه بماله *** أميرك في الدنيا وأنت أسيره
ومن كنت عنه ذا غنى وهو مالك *** أزمة كل الأرض أنت نظيره
فعش قانع إن القناعة للفتى *** كنز وهو منتهى ما أشيره
أيها الأحباب: ليس التعفف مطلوبًا من الفقراء فقط، ولكنه مطلوب من الناس كلهم بجميع مستوياتهم فتعفف في صوتك ولا ترفعه على الناس، ولو ناصحا، بعض الناس يرفعون أصواتهم على الناس وكأنهم خدم عندهم أو عبيد حتى في مقام النصح؛ لأن رفع الصوت شأن من استنكر الله صوته (واغضض من صوتك)، وهذه عفة وتعفف.
تعفف في مشيتك: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا)[الإسراء: 37]، (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63] حتى الأرض سلمت من أذاهم ومن مشيتهم.
تعفف في نظرتك (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) لا تمد عينيك إلى ما في جيوب الناس أو ما سوى ذلك.
بعض الناس لهم أعين تتكلم إذا رأيته ورأيت نظرته عرفت ماذا يقول في خاطره، والبعض يتبعك بنظره حتى تختفي عن نظره، ودَّ لو لم تختفِ، وهذا من فضول النظر.
تعفف في سمعك (وَلَا تَجَسَّسُوا).
تعفف في طعامك (وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
تعفف في ألفاظك (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
تعفف حتى في ضميرك (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ).
تعفف مع السائل (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) والسائل عنا ليس مقتصرًا على الذي يسأل المال، ولكنه يشمل السائل عن العلم والطريق والاستشارة وكل ما يمشي في سياق هذه المعاني.
أيها المؤمن! يا من شرفك الله بأن جعلك من عباده، وشرفك بأن جعلك من أمة سيد أحبابه -صلى الله عليه وسلم- وشرفك بأن أنزل لك أشرف كتبه لا تتذلل لغير الله، وإذا رأيت أمراً فيه شبهة مذلة أو رائحتها فاتركه؛ توقيا وعفة تكرهًا، وفارقه تكرما، وانأى عنه تنزها، واهجره تصونا، وارفضه ترفعا، واصدده تعففا، وغادره تورعا، وتأباه أنفة واصدد عنها استنكافا، واجعل نصب عيناك قول الله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 56- 58].
اجعل هذا شعارك إذا نزلت بك نائبة تذلل للرزاق (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، اللهم وفقنا لطاعتك، واشملنا بمحبتك، واجعلنا من أهل معرفتك..
التعليقات