عناصر الخطبة
1/ مشاعِر المُسلمين تِجاه البيت الحرام 2/ فضائل الحج 3/ الحث على اغتنام عشر ذي الحجة 4/ أهمية تعظيم شعائر الله تعالى 5/ وجوب تعلُّم مناسِكِ الحجِّ لمَن أرادَه 6/ مكة مأرز التوحيد ومُلتقَى المُسلمين ومُجتمع كلمتِهم.اقتباس
يمُرُّ بالأمة موسِمٌ عظيمٌ مِن خير أيامِ الله –تعالى-، ورُكنٌ مِن أركان الإسلام العِظام، يتجاوَزُ الله فيه عن الخطايا ويغفِرُ الذُّنوبَ، ويُقِيلُ فيه العثَرَات، ويَقبَلُ الدعوات. إنه الحجُّ، وإنها أيامُ عشر ذي الحجَّة. إنها الأيامُ المعلُومات، والأيامُ المعدُودات. الحجُّ إلى بيتِ الله العَتيق شِعارُ الوحدة والتوحيد، وموسِمُ إعلان العُهُود والمواثِيق، وحِفظِ الحُقُوق والكرامات، وحَقن الدماء، وعِصمة النُّفوسِ والأموال.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله طهَّرَ بيتَه مِن الوثنيَّة واصطَفاه، وأحاطَه مِن العُهُود الأولى بالقُدسية وكفَاه، وجعلَ ترانِيمَ التلبِيَة فيه ومِن حولِه تعلُو بها الحناجِرُ وتشدُو بها الشِّفاه، أشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه ومُصطفَاه، السعدُ لمَن أطاعَه والوَيلُ كلُّ الوَيل لمَن جفَاه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه، ومَن ثبَّتَه الله مِن الخلق على الحقِّ حتى الوفاة.
أما بعد.. أيها المُسلمون: اتَّقُوا اللهَ تعالى حقَّ تقوَاه؛ فإن ثمَرَةَ أعمالِ الجوارِحِ والقلوبِ هي التقوَى، فاستَجلِبُوها بحُسن القَصد وحُسن العمل، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
حُجَّاج بيت الله الحرام.. وزُوَّار مسجِد نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-! هذا بيتُ الله المُعظَّم، وهذا حَرَمُه، هذه العَرَصَاتُ التي قضَّيتُم أعمارَكم وأنتُم لزيارتِها تتلهَّفُون، ومضَت أيامُكم وأنتُم إليها تركَعُون وتسجُدُون.
هنا معاهِدُ النبيِّ، ومِن هنا طافَ جبريل.. هذه الفِجاجُ شهِدَت نُزولَ الوحيِ، وصاخَت لأول التراتِيل.. هذه البِاقعُ التي ارتضَاها الله للإسلام مُنطلَقًا ومأرِزًا، وللمُسلمين قِبلةً ومركَزًا، وليس في أركانِ الإسلام الخمسة رُكنٌ يختصُّ بأرضٍ إلا هذا الفرضُ في هذه الأرضِ.
فاحمَدُوا اللهَ على الوصولِ للمأمُول، وهنِيئًا لكُم هذا المشهَد، وطُوبَى لكم هذا المورِد.
أيها المسلمون: يمُرُّ بالأمة موسِمٌ عظيمٌ مِن خير أيامِ الله –تعالى-، ورُكنٌ مِن أركان الإسلام العِظام، يتجاوَزُ الله فيه عن الخطايا ويغفِرُ الذُّنوبَ، ويُقِيلُ فيه العثَرَات، ويَقبَلُ الدعوات. إنه الحجُّ، وإنها أيامُ عشر ذي الحجَّة. إنها الأيامُ المعلُومات، والأيامُ المعدُودات.
الحجُّ إلى بيتِ الله العَتيق شِعارُ الوحدة والتوحيد، وموسِمُ إعلان العُهُود والمواثِيق، وحِفظِ الحُقُوق والكرامات، وحَقن الدماء، وعِصمة النُّفوسِ والأموال.
الجَلالُ والجَمالُ والبهاءُ هو إيحاءُ منظَرِ الحَجِيج في حرَمِ الله، وفي دُرُوب المشاعِر، وفي اتِّحاد وصفِهم وبياضِ لُبسِهم، وفي تلبِيَتهم الخالِدَة: "لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك، لا شريكَ لك".
لبَّيكَ يا بُشرَى لمَن لبَّاهُ *** ربٌّ عظيمٌ في أجَلِّ عُلاهُ
ما خَابَ مَن لبَّى ونادَى ربَّهُ *** يا حُسنَ ما نطَقَت به الأفوَاهُ
فِي الحَجِّ آيَةُ خالِقٍ فِي خَلقِهِ *** نادَوا معًا: لبَّيكَ يا اللهُ!
جاشَت الصُّدُورُ عند بُلُوغ مهوَى الأفئِدَة، وفاضَت العُيُون برُؤية الأمانِي، وانقطَعَت القلوبُ إلا مِن رحمةِ الله، وخلَت النُّفوسُ إلا مِن الشَّوقِ له. ترَكُوا الدنيا بضَجِيجِها وزُخرُفها وخلافاتِها وراءَ ظُهُورِهم، وتكامَلَ وفدُ الله؛ (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ) [الحج: 28].
وله يشكُرُون يبتَغُون فضلًا مِن ربِّهم ورِضوانًا، يزدلِفُون لأقدَسِ مكانٍ، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96، 97].
ويتحرَّون فضيلَةَ الزمان، مُلبِّينَ النداءَ القديمَ المُتجدِّد، (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج: 27، 28].
ويُؤدُّونَ رُكنَ الإسلام الخامِس، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران: 97].
يُلبُّون ويدعُون، يأمَلُون مِن الله القَبُول، ويرجُون رحمتَه، ويختفُون عذابَه. فعلى هذه الصُّعُدات تتنزَّلُ الرَّحمات، وتُغسَلُ الخطايا، ويعُودُ الحاجُّ نقِيًّا كما ولَدَتْه أمُّه، وليس مكانٌ في الدنيا له ميزةٌ كهذا المكان.
فاقدُرُوا - أيها المُسلمون - للبيتِ حُرمتَه، وتلمَّسُوا مِن الزمانِ والمكانِ بركَتَه، فنبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "مَن حَجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق، رجَعَ كيوم ولَدَتْه أمُّه" (متفق عليه).
وفي "الصحيحين" أيضًا: أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "العُمرةُ إلى العُمرة كفَّارةٌ لما بينَهما، والحجُّ المبرُورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة".
تقبَّل الله مِنكم الطاعات، وغفَرَ الذُّنوبَ والخطيئَات، وأتَمَّ لكُم النُّسُك، وبلَّغَكم جَميلَ الأمانِي.
أيها المُسلمون في مشارِقِ الأرضِ ومغارِبِها.. حُجَّاج بيت الله الحرام! أيامُكم هذه موسِمٌ للطاعات والقُرُبات، ومِضمارٌ للسابِقِين إلى الخيرات، أقسَمَ الله بها في كتابِهِ العزيز، فقال - جلَّ شأنُه -: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر: 1، 2].
الاجتِهادُ فيها أعظمُ أجرًا، وأيامُها أرفعُ قَدرًا، قال عنها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن أيامٍ العملُ الصالِحُ فيها أحبُّ إلى الله مِن هذه الأيام"، قالوا: ولا الجِهادُ في سبيلِ الله؟ قال: "ولا الجِهادُ في سبيلِ الله، إلا خرَجَ بنفسِهِ ومالِهِ ثم لم يرجِع مِن ذلك بشيء" (أخرجه البخاري).
وعند الإمام أحمد: "فأكثِرُوا فيهنَّ مِن التهليلِ والتكبيرِ والتحميدِ".
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمدُ.
إنها أيامٌ تُربِّي المُسلمَ على إحياء السُّنن، وتنويعِ العبادات، والعودة إلى الله، وتزكِيَةِ النُّفُوس.
وقولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن أيامٍ العملُ الصالِحُ فيهنَّ"؛ يعني: كلَّ أنواع العمل الصالِح، والذي ينهَضُ بالرُّوح، ويُربِّي النَّفسَ لتبلُغَ الكمالات، وتظهرُ في تجرُّد المُسلمُ مِن أهوائِه ودوافِعِه الماديَّة، وتخلُّصِه مِن المظاهر الدنيويَّة.
حُجَّاج بيت الله الحرام: اقترَبَ أوانُ شُرُوعِكم في أعمال الحجِّ، فتعلَّمُوا أحكامَ مناسِكِكم، وتحرَّوا صِحَّةَ أعمالِكم قبل إتيانِها. تفرَّغُوا لِما جِئتُم لأجلِه، واشتَغِلُوا بالعبادة والطاعات؛ فإن ما عند الله لا يُنالُ بالتفريطِ.
أكثِرُوا مِن الدعاء والتضرُّع، والهَجُوا بذِكرِ الله في كلِّ أحوالِكم؛ فنبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما جُعِلَ الطوافُ بالبيتِ وبين الصفا والمروة ورميُ الجِمار لإقامة ذِكرِ الله" (رواه أبو داود والترمذي).
فإذا وقَفتُم بعرفات فأكثِرُوا مِن ذكرِ الله تعالى ودُعائِه، وتذلَّلُوا بين يدَيه، واسأَلُوه خيرَي الدنيا والآخرة، وألِحُّوا في الدُّعاء، وأعظِمُوا الرَّجاء في ذل الموقِفِ العظيم؛ فإن الحجَّ عرفة، كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-.
وقال أيضًا: "خَيرُ الدُّعاء دُعاءُ يوم عرفة، وخَيرُ ما قُلتُ أنا والنبيُّون مِن قَبلِي: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له المُلك وله الحمدُ، وهو على كل شيء قدير" (رواه الترمذي).
ومَن لم يكُن حاجًّا قيُستحبُّ له صِيامُ يوم عرفة، مُحتَسِبًا أن يُكفِّرَ الله عنه السنةَ الماضِيةَ والباقِيةَ، كما قال ذلك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم.
وعن عائشة -رضي الله عنها-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما مِن يومٍ أكثرُ مِن أن يُعتِقَ الله فيه عبدًا مِن النَّار مِن يوم عرفة، وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائِكةَ فيقول: ما أرادَ هؤلاء؟!" (رواه مسلم).
(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة: 198- 200].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمدُ.
حُجَّاج بيت الله الرحام: لترتَجَّ هذه المشاعِرُ بالتكبير والتلبِيَة، ولتُرِيقُوا على ثراها دماءَ الهَدْيِ والأُضحِيَة، وتضرَّعُوا لله في مَلَكُوتِه بأبلَغِ الثناء وأصدَقِ الأدعِيَة، وسِيرُوا كما سارَ أسلافُكُم في هذه الفِجاجِ وتلك الأودِيَة، واستشعِرُوا أنكم في حرَمٍ هو لكل المُسلمين غايةٌ وأُمنِيَة.
باشِرُوا نُسُكَكم مُباشرةَ مَن لا أملَ له بالعَودِ وهو مُوادِع، وقُومُوا بأعمالِكم قِيامَ مَن هو مُوقِنٌ بأنه إلى ربِّه راجِع؛ فإنما هي تصرُّمُ ساعات، وفَوَاتُ لحَظات، ثم هو في زمنٍ غيرِ الزمنِ، وأرضٍ ليسَت كهذِي الأرضِ، وقد فرَطَ الموسِمُ، وتقضَّت الأيام، وعادَت به الرِّكابُ إلى حيث كان.
أيها المُسلمون: في هذا المكان، وبهذا المشهَد تطُوفُ على النَّفس معانِي الأخُوَّة والوحدة، وهي المعانِي التي امتَنَّ الله بها على المُسلمين في العصر الأول، (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].
فكلُّ فُرقةٍ بين المُسلمين هي مَدَدٌ مِن عُصُور الجاهِليَّة، وكلُّ نِزاعٍ بينهم هي بعضُ أنفاسِ عُصُور الظلام، وفَيحٌ مِن هَجِيرِه، وبالتوافُقِ تصلُحُ أحوال كلِّ الكائِنات، فضلًا عن الإنسان المُسلم المأمُور بها، والموهُوبةِ له سلَفًا مِنَّةً مِن الله ورحمةً.
وكلُّ مِن أحدَثَ بين المُسلمين سببًا للتنازُع والشِّقاق فقد كفَرَ نعمةَ التأليف، واقتبَسَ حطَبًا مِن نارِ الجاهليَّة، وعقَّ قومَه، وغشَّ أمَّتَه.
إن مُقدَّسات الأُمم وأعيادَها ضمانةٌ لكل مُسلم، إنهم وإن اختَلَفُوا جعَلُوها سببَ اتِّفاقِهم، وإن تنازَعُوا جعلُوها نهايةَ افتِراقِهم.
فأيُّ مشهَدٍ أبهَى مِن هذا التجمُّع الإيمانيِّ العظيم، فيه اجتِماعُ الأُمَّة وائتِلافُها، وظُهورُ قِيَمها وأخلاقِها، (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197].
قِيَمُ التسامُح والإخاء، والبُعد عن الخلاف والمِراء، قِيَمُ المُساواة، والعدل، والأُخُوَّة، والمحبَّة.
إنه نِبراسٌ لسبيلِ نهضَةِ الأمة وقوَّتها، والذي لا يتأتَّى إلا بالوحدة والاجتِماع، وتجاوُز الخلافات والتسامُح، إنه حجُّ البيتِ الذي جعلَه الله مثابَةً للناسِ وأمنًا؛ ليُجمِعُوا أمرَهم، وليُوحِّدُوا صفَّهم، ولن تكون الوحدةُ إلا بالانتِماءِ للإسلام الصحيح.
الانتِماءُ الإسلاميُّ هو الشرَفُ الباذِخُ، والعِزُّ الشامِخُ، وإن أرهَقَتْه الليالِي وأثقَلَتْه الأيام؛ فالإسلامُ هو الدينُ الذي توارَثَ الأنبياءُ الدعوةَ إليه، والقرآنُ هو كلمةُ الله الأخيرةُ للبشَر، ومُحمدٌ -صلى الله عليه وسلم- خاتمُ النبيين، ورسولُ ربِّ العالمين.
فكيف يكونُ الانتِماءُ إليه خَفيضَ الصوت، أو موضِعَ الإهمال؟! أم كيف تتقدَّمُ عليه انتِماءاتٌ بشريَّةٌ وأرضِيَّة؟!
فيا ربِّ هيِّئ لنا مِن أمرِنا رشَدًا، واجمَع أمةَ نبيِّك مُحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- على الهُدى والسنَّة، وألِّف بين قُلوبِهم، وأطفِئ عنهم نارَ الفتن والحُروبِ والخِلافات، وأنزِل عليهم رحمتَك يا ربَّ العالمين.
أعوذُ بالله مِن الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 196، 197].
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنَّة، ونفعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرحمنِ الرحيم، مالكِ يوم الدين، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد.. أيها المُسلمون: خليلُ الله إبراهيم وولَدُه إسماعيل كانا هنا في هذا الوادِي، بنَوا هذا البيتَ وقامَ الخليلُ بالحجِّ مُؤذِّنًا يُنادِي، فطَفِقَت الأُممُ تحُجُّ إليه جِيلًا بعد جِيل، يغسِلُون على ثَرَى هذه الأرض خطاياهم، ويُجدِّدون العهدَ مع ربِّهم ومولاهم.
وأولُ العُهُود مع الله هو: تحقيقُ التوحيد، وحِفظُ جنابِه، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) [الحج: 26].
بُعِثَ نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- في عصرٍ كان فوضَى في السياسة والأخلاق، ومُتخلِّفًا في الحضارة والتعليم، وتائِهًا في الغايات والأهداف، ومع ذلك كلِّه عمَدَ -صلى الله عليه وسلم- أولَ ما قصَدَ إلى الدعوةِ إلى التوحيد، وتصحيحِ العقائِدِ في نُفوسِ مُعتَنِقِي الدين الجديد، (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163].
فأمضَى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حياتَه إلى الرَّمَقِ الأخير وهو يُقرِّرُ التوحيدَ، ويحمِي جنابَه، ويُحذِّرُ مما يقدَحُ فيه، وبلَّغَ الناسَ ما أنزلَ عليه ربُّه: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 106، 107]، وقولَه: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: 17]، وقولَه: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) [الأحقاف: 5، 6].
وفي دُعاءِ إبراهيم حين بِناءِ البيتِ: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) [البقرة: 128]، الإسلامُ هو الاستِسلامُ لله، والانقِيادُ له بالطاعة، والخُلُوصُ مِن الشركِ وأهلِه.
(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) تأصِيلٌ للصواب، ولُزومِ الشريعة واتباع السنَّة، فأخلِصُوا دينَكم لله، وتفقَّدُوا أعمالَكم ومقاصِدَكم.
كما أنه لا يجوزُ أن يُحوَّل الحجُّ إلى ما يُنافِي مِن مقاصِدِه؛ فلا دعوةَ إلا إلى الله وحدَه، ولا شِعارَ إلا شِعارُ التوحيد والسنَّة، فالدينُ دينُ الله، والشرعُ شرعُه، والواجِبُ على مَن بلَغَه كلامُ الله وسنَّةُ رسولِه -صلى الله عليه وسلم- أن يتبَعَ الحقَّ ويطَّرِح ما سِواه، ولا يترُك القرآنَ والسنَّةَ لقولِ أحدٍ مهما كان، والله تعالى يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
وما وهَنَت الأمةُ إلا بقَدر ما تسرَّبَ إليها مِن البِدع والمُحدثات واتِّباع الهوَى.
حُجَّاج بيت الله الحرام: لقد كان للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مواطِنُ يُكثِرُ فيها مِن الدعاء، حرِيٌّ بالمُسلم الحِرصُ عليها؛ منها: يوم عرفة، وبالأخَصِّ آخر النهار، وبعد صلاةِ الفَجر بمُزدلِفَة حتى يُسفِرَ جدًّا، وبعد رَميِ الجَمرةِ الأولى، وبعد رميِ الجَمرةِ الثانيةِ مِن أيام التشريق، وكذا الدعاء فوقَ الصفا والمروة.
فاجتَهِدُوا في تمامِ حجِّكم، واتَّقُوا اللهَ فيما تأتُون وتذَرُون، وأخلِصُوا لله في عملِكم وقَصدِكم، واتَّبِعُوا الهُدَى والسنَّة، واجتَنِبُوا ما يخرِمُ حجَّكم أو يُنقِصُه، وعليكم بالرِّفقِ والسَّكينَةِ والطُّمأنينة، والشَّفقَة والرحمة بإخوانِكم المُسلمين، سيَّما في مواطِنِ الازدِحام، وأثناء الطواق ورَميِ الجِمار، وعند أبوابِ المسجدِ الحرام، واستشعِرُوا عِظَمَ العبادة وجَلالةَ الموقِفِ.
واعلَمُوا أن الدولةَ برِجالاتها وأجهِزتها ومُؤسساتها تبذُلُ جُهودًا هائِلةً لخِدمتكم وتيسير حجِّكم، والنظامُ وُضِعَ لمصلَحتِكم، والجُهودُ كلُّها لأجلِكم.
فالتَزِموا التوجيهات، واتَّبِعُوا التعليمات، واستشعِرُوا ما أنتُم فيهِ، وكُونُوا على خيرِ حالٍ في السُّلُوكِ والأخلاقِ، والزَمُوا السَّكينةَ والوقار، واجتَهِدُوا وسدِّدُوا وقارِبُوا، وأبشِرُوا وأمِّلُوا؛ فإنَّكُم تقدُمُون على ربٍّ كريمٍ، جعلَ الله حجَّكُم مبرُورًا، وسعيَكم مشكُورًا، وذنبَكُم مغفُورًا.
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على خيرِ البريَّة وأزكَى البشريَّة مُحمدِ بن عبد الله.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابَتِه الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخُلفاء الراشِدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومَن سارَ على نَهجِهم واتَّبَع سُنَّتَهم يا رب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرِنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحةَ، اللهم جازِهِ بالخيرات والحسنات على خِدمةِ الحرمَين الشريفَين، والعِنايةِ بالحُجَّاج والمُعتمٍرين، وأتِمَّ عليه الصحةَ والعافِيةَ، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَهم وأعوانَهم.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهُدى، اللهم كُن للمُسلمين المُستضعَفين في سُوريا، وبُورما، وفي فلسطين، وفي كل مكانٍ يا حي يا قيوم، اللهم احقِن دماءَهم، وآمِن رَوعاتهم، وسُدَّ خلَّتَهم، وأطعِم جائِعَهم، اللهم انصُر المُستضعَفين مِن المُسلمين في كل مكانٍ، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك، وسُنَّة نبيِّك، وعبادَك المؤمنين.
اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونَك.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، ربَّنا اغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم، وأزواجِنا وذريَّاتِنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم احفَظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، ويسِّر لهم أداءَ مناسِكِهم آمِنين، وتقبَّل منَّا ومنهم أجمعين. اللهم وفِّق وأعِن رِجالَ الأمن، والعامِلين لخِدمة الحُجَّاج، وجازِهم بالخيرات والحسنات يا رب العالمين.
اللهم احفَظ جنودَنا المُرابِطين على ثُغورنا وحُدودِ بلادِنا، وكُن لهم مُؤيِّدًا ونصيرًا، ومُعينًا وظَهيرًا. ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم. سُبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.
التعليقات