عناصر الخطبة
1/ نكبات المسلمين ومآسيهم 2/ فوائد البلاء ومنافعه 3/ تعامل المسلم مع الأزمات ووسائل التعامل معهااهداف الخطبة
اقتباس
ابذل ما استطعت من خير للناس، وقدم ما يمكنك من المعروف، وافعل ما تستطيع من الإحسان ولو بنصيحة أو بكلمة أو برأي أو مشورة، أو فكرة تعرضها للناس، فينتفعون بها. هذه نملة يقص الله -سبحانه وتعالى- علينا نبأها في القرآن، نملة رأت...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
أيها المسلمون -عباد الله-: في هذه الأيام يعيش الناس أحوالًا متغيرة، وأوضاعًا مضطربة في سائر العالم الإسلامي، محن وفتن، ومشاكل وأزمات، إذا طالع الواحد أخبار اليوم والليلة، لربما لا يجد فيها شيئًا يسر القلب، أو يفرح الفؤاد، إنما يجد في الغالب أخبارًا مؤسفة! وأخبارًا محزنة!
وهذا واقع -أيها الأحباب- نعيشه، ولا نستطيع أن نهرب منه، بل ينبغي أن نتعامل معه، هذه الأحوال والاضطرابات، وهذا البلاء، وهذه الفتن، هو جزء من طبيعة الدنيا التي جبلها الله -سبحانه وتعالى- وخلقها عليه.
هذه الدنيا ليست دار قرار، وليست موطنًا دائمًا، بل هي ممر ومعبر إلى الآخرة، فالله -سبحانه وتعالى- جعلها مليئة بالمكدرات والمنغصات، جعلها مليئة بالآلام والأحزان، لا يطيب للإنسان فيها عيش، ولا تصفو له حياة، حتى لا تطمئن هذه القلوب إلى الدنيا، أو تركن إليها، فإن القلوب ينبغي أن تكون طمأنينتها وسعيها إلى الآخرة، وهي في هذه الدنيا مسافرة عابرة، فالله -عز وجل- جعلها مكدرة، حتى لا يركن الناس إليها، وقد أحسن من قال:
حكم المنية في البرية جار *** ما هذه الدنيا بدار قرار
طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفوًا من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار
والله -سبحانه وتعالى- أعد لعباده دار الراحة والسلام، ودعاهم إليها، فقال: (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ) [يونس: 25].
أعد لهم دار الطمأنينة والأمان، دار النعيم الدائم المستمر، التي لا ينفذ نعيمها، ولا يموت مقيمها، هذه هي الحياة الباقية: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64].
ومن هنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يصف هذه الدنيا بأنها سجن للمؤمن، فقال: "الدنيا سجن المؤمن".
فيظل المؤمن في هذه الدنيا غير مرتاح، ولا مطمئن إليها، بل هو مترقب منتظر حتى يؤذن له بالخروج منها، متى يغادر هذا السجن إلى الحرية؟ متى يخرج من هذا ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة والجنة التي أعدها سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين؟
هذه طبيعة الدنيا التي جبلت عليها، ولن نستطيع تغيريها، ولهذا أمر الله -سبحانه وتعالى- بالصبر والمصابرة، والتحمل في هذه الحياة، وعدم التسخط على أقدار الله، حتى يأتي أمر الله -عز وجل-.
وهذا البلاء -أيها الأحباب- له فوائد أخرى كثيرة غير هذا، من فوائد هذا البلاء: أنه يمحص الناس، فيظهر الصادق من الكاذب، ويظهر المؤمن من المنافق، وتتمايز وتظهر معادن الناس، قال الله -سبحانه وتعالى-: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1 - 3].
هذه فائدة البلاء: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31].
وسبحان الله في هذه الفتن والمحن والأزمات، كم ظهرت للناس من حقائق؟ وكم تكشفت لهم من أمور؟ كم برزت من خبايا؟ وكم ظهرت من خفايا؟ كم سقطت من أقنعة زائفة؟ وكم ظهرت من شعارات كاذبة؟ وبان للناس ما كان خفيًا عنهم، ولولا هذه الأزمات، ولولا هذه المحن لما ظهرت هذه الحقائق للناس أبدًا، ففيها خير كثير، وفي طياتها منح إلهية، لمن تأمل وتدبر وتفكر فيها.
في هذه الأزمات -أيها الأحباب- نحتاج إلى أمور لا بد أن تكون حاضرة بيننا، من هذه الأمور: أن نكون في وسط هذه الأزمات أناسًا فاعلين، أناسًا إيجابيين، لا نكون سلبيين منكفئين منزوين.
ابذل ما استطعت من خير للناس، وقدم ما يمكنك من المعروف، وافعل ما تستطيع من الإحسان ولو بنصيحة أو بكلمة أو برأي أو مشورة، أو فكرة تعرضها للناس، فينتفعون بها.
هذه نملة يقص الله -سبحانه وتعالى- علينا نبأها في القرآن، نملة رأت رجالًا وخيولًا وجيوشًا قادمة على قومها، فهل ذهبت هذه النملة واختبأت وبحثت لها عن مأوى يحميها؟ أم أنها كانت نملة إيجابية، قامت وصاحت فنادت في بني جنسها، وقالت: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:18]، كلمات معدودات هي ما تستطيعوه هذه النملة، فلم تبخل بها، ولم تتردد في إلقائها على الناس، وتقديمها لقومها، فنفع الله قومها بهذه الكلمات، وأنجاهم بسببها، فانظر إلى هذه النملة الإيجابية في وقت الأزمة والمحنة.
كم نحتاج من الناس كأمثال هذه النملة ممن لا يترددون في بذل الخير، وبذل النصيحة، وإبداء الرأي والمشورة، وتقديم ما يمكنهم من المعونة للناس في مثل هذه الأوقات، وفي مثل هذه الأزمات، ولو أن الناس صاروا بمثل هذه الإيجابية، لتغيرت كثير من الأحوال.
لا ينبغي في مثل هذه الأحوال -أيها الأحباب- أن نعيش أفرادًا، كل واحد يبحث عن مصلحته الشخصية، وكل واحد يبحث عن الخير لنفسه دون غيره، بل ينبغي أن نعيش في هذه الأيام بروح الجماعة، وأن نستحضر أننا في مركب واحد، وعلى سفينة واحدة، إن غرقت فإنما ستغرق بالجميع، وإن سلمت فسلامتها ستكون في صالح الجميع، ولن يسلم الإنسان إن أصاب الناس من حوله ضرر أو مكروه.
لا يتصور الواحد أنه سيجلس في بيته آمنا، والناس من حوله يصابون ويبتلون، بل الذي يصيب المجتمع سيصيب الفرد، والذي يصيب الناس سيصيب الواحد، ويصل إليه، فخير ما تقدمه لنفسك أن تقدم للناس، وأن تعين الناس، وأن تقف مع الناس، وأن تكون يدًا واحدة مع إخوانك.
أيها الأحباب: في هذه الأوقات أحوج ما نحتاج إلى أن نتمثل ذاك المثل العظيم الذي ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته حين قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
نحتاج إلى هذا المثل الرائع الجميل أن يكون واقعًا في حياتنا، أن نكون جسدًا واحدًا، نتراحم فيما بيننا، نتعاطف فيما بيننا، نعين بعضنا بعضا، وينصر بعضنا بعضا، ويقف بعضنا بجانب بعض، إن دعي الواحد إلى عمل جماعي فيه مصلحة للناس، فلا يتردد ولا يتأخر، بل يشارك، ويكون فاعلا، ويبذل ما يستطيع، فإن هذا في مصلحة الجميع بإذن الله -عز وجل-.
من الأمور المهمة -أيها الأحباب- عند الأزمات لا تجعل أذنك مفتوحة تسمع لكل ما يقال، ولا تترك لسانك طلقًا يتكلم بكل ما يسمع، فإنه في هذه الأوقات تكثر الشائعات، وتكثر الأخبار الكاذبة التي لا أساس لها من الصحة، ويسهل نقل الأخبار، والحديث بين الناس، إما بحسن نية، أو بسوء نية.
فكثير من المغرضين يصطادون في الماء العكر، ويسعون لإثارة البلابل، وإقلاق الآمنين، وإحداث الفتن والاضطرابات بين الناس عن طريق الأخبار الكاذبة والشائعات.
وأظهر مثال على تأثير هذه الشائعات في واقع الناس: تلك القصة التي جرت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أشيع خبر كاذب عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضها-، واتهمت بالفاحشة كذبًا وبهتانًا.
تداول الناس أو بعض الناس هذا الحديث، وبدأت تنتشر هذه الشائعة، حتى بلغ أذاها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام بين الناس، فقال: "يا أيها الناس من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه أهلي؟" فقام سعد بن معاذ وكان سيد الأوس، وقال: يا رسول الله "أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا به ما تأمرنا به؟"، فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن أخذته الحمية من كلمات سعد بن معاذ، فقال: "لا والله لا تقتله، ولا تفعل به شيئًا"، فقام أسيد بن حضير، وقال: والله لنقتلنه، وإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الأوس، وثار الخزرج في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنبي بينهم، وكادوا يقتتلون، فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المنبر، وأخذ يخفضهم ويسكنهم، حتى سكنوا.
انظروا في مجتمع عظيم في حضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن مع ذلك انظروا ماذا تفعل الشائعات في أوساط الناس، كيف أنها تسبب شروخًا عظيمة في المجتمع، وتزرع البغضاء والشحناء والعداوة، وتزرع الفتن بين الناس، حتى ربما يصل الأمر بينهم إلى الاقتتال والحرب، فلا تجعل أذنك سماعة لكل ما يقال، ولا تصدق كل ما يلقى عليك، ولا تتكلم بكل ما تسمع، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع".
من الأمور المهمة -أيها الأحباب- في هذه الأوقات أن نؤكد دائما وأبداً على لزوم الحدود الشرعية، واجتناب الخوض في حرمات الله، واجتناب التجرؤ على المحارم، وعلى العظائم، وخاصة ما يتعلق بحرمات المسلمين من دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإن نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وطبيعة الأزمات أن يحصل فيها التفلت، وأن يحصل فيها التساهل في الحرمات، وأن يندس بين الناس المفسدون والمغرضون، وأهل الشر والفساد، ويتحينون مثل هذه الفرص لأجل انتهاك الحرمات في الأموال والدماء والأعراض.
ومما يحمد -أيها الأحباب- في مجتمعنا، نعيش تفلتًا أمنيًا غير مسبوق، ولكن مع ذلك إذا نظرنا إلى نسبة الجرائم، فإننا نجد أنها لا توازي هذا التفلت، فهي وإن كانت موجودة إلا أنها أقل مما يتصور في مثل هذا الوضع، وهذا من أثر الصلاة، من أثر القرآن، من أثر الإيمان في نفوس الناس، هذا يحمد لأهل هذه البلاد الطيبة، أنهم يخافون الله، ويراقبون الله، ويراعون حرمات الله -تبارك وتعالى-.
وينبغي أن نؤكد هذا، وأن نعممه في النفوس أكثر وأكثر، حتى نأمن ونسلم في دمائنا وأموالنا وأعراضنا -بإذن الله-.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.
وبعد:
أيها الأحباب الكرام: من الأمور المهمة جدًا في مثل هذه الأحوال أن ينظر الإنسان دائمًا وأبدًا إلى رحمة الله -سبحانه-، وأن يملأ قلبه بالأمل، وأن يتفاءل بالخير، وأن يظن بالله -سبحانه وتعالى- ظنًا حسنًا، فإن البلاء مهما اشتد، والكروب مهما عظمت، لا بد لها من انفراج، ولا بد من خير يعقب الشر، ولا بد من سعة تعقب الضيق، والليل يتلوه نهار، ولا يمكن أبدًا أن يستمر الظلام على الدوام، والله -سبحانه وتعالى- له سنة في خلقه، فليس هناك حال دائم، ليس هناك خير دائم، وليس هناك شر دائم، وإنما لكلٌ وقت وأجل، فإذا جاء وقته نزل بالناس، وإذا جاء وقت رفعه ارتفع عن الناس، وهذا كله بأمر الله -سبحانه وتعالى-.
فالقلوب ينبغي أن تتفاءل، وأن تؤمل، وأن ترجو الخير من الله، وأن تتعلق وتتجه إلى الله -سبحانه وتعالى- وحده، أن تلجأ إليه، وأن تبتهل له، وتتضرع، فالأمور كلها بيد الله، والأمر أمره، والنهي نهيه، والكون كونه، والخلق خلقه، لا يرفع البلاء إلا الله، ولا يكشف الضر إلا الله -سبحانه وتعالى-: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62].
(قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) [الأنعام: 63 - 64].
فالله وحده هو القادر على رفع البلاء الذي ينزل بالناس مهما اجتمعت قوى الأرض كلها على أن ترفع بلاء نزل بمخلوق لا تستطيع، إلا بأمر الله، ومهما اجتمعت قوى الأرض كلها على أن تجلب خير لمخلوق لا تستطيعه إلا بإذن الله، قال حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنه-: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف".
مقادير ثابتة، وقضاء محكم عند الله -سبحانه وتعالى-: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2].
فالقلوب لا ينبغي أن تلجأ إلا إلى الله، لا ينبغي أن يكون مفزعها إلا إلى الله -سبحانه وتعالى-، وانظروا إلى حال المشركين الذين كانوا يعبدون آلهة مع الله كانوا مع شركهم إذا نزل بهم الضر، واشتد بهم البلاء، تركوا ألهتهم، ولجؤوا إلى الله: (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [لقمان: 32].
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ) [الإسراء:67].
ينسون ألهتهم، وينسون معبوداتهم كلها، ولا يلجؤون إلا إلى الله.
وعجبًا لبعض المسلمين إذا اشتد البلاء، وعظم الكرب، لا أقول: يتعلقون بغير الله، بل إنهم يتعلقون بأعداء الله، ويلجؤون إليهم، ويطلبون الخير منهم، ويبحثون عن الحل عندهم.
ومن كان الغراب له دليلا *** يمر به على جيف الكلاب
فلا زال الكرب يعظم، ولا زال البلاء يشتد؛ بسبب هذا الإلتجاء إلى أمثال هؤلاء، ولكن متى صدقت القلوب مع الله، ولجأت إليه -سبحانه- وحده، وأنابت وتضرعت له سبحانه وحده، فإن الله -عز وجل- لا يخلف الميعاد، إنما يبتلي عباده ليرجعوا إليه، إنما يمتحنهم لينيبوا إليه، إنما يصيبهم بأنواع البلاء حتى يفزعوا إليه: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام:42 - 43].
فالله ما كلف عسيرًا، ولا طلب كثيرًا، إنما أراد منا شيئًا يسيرًا، فقال: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ)، فما أراد الله -سبحانه وتعالى- إلا الضراعة منا، ما أراد إلا صدق الاعتماد، والالتجاء إليه سبحانه وتعالى، وقد وعد وعدًا صدقًا حقًا، والله لا يخلف الميعاد، فقال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96].
فهل نثق في وعود الشرق والغرب أكثر من ثقتنا بوعد الله؟! هل نصدق كلام البشر أكثر مما نصدق كلام الله؟! هل نلجأ إلى الضعفاء الذين ليس بأيديهم شيء، والله -سبحانه وتعالى- مالك الملك يدعونا وينادينا ويواعدنا، وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد؟
فهذا من أهم ما ينبغي في هذه الأوقات: اللجوء إلى الله، كثرة العبادة، كثرة الابتهال، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "العبادة في الهرج كهجرة إلي"، فإذا صدق الناس مع الله صدقهم الله -سبحانه وتعالى-.
اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن...
التعليقات