عناصر الخطبة
1/زمن الرويبضة 2/بعض صور ومظاهر التناقضات 3/أعظم تناقضات الحياةاهداف الخطبة
اقتباس
ستعلمُها جيِّداً، إذا رأيتَ أهلَ الفسادِ هم من يدَّعونَ الإصلاحَ، وأهلَ الخيرِ والصلاحِ هم من يُتَّهمونَ بالإفسادِ، وإذا رأيتَ الخائنَ بيدِه المشاريعُ الكبيرةُ التي تتعلَّقُ بها أرواحُ الناسِ، والأمينُ لو تَكَلَّمَ فقط، لكانَ مُفكِّكاً للوحدةِ الوطنيةِ، مُسيئاً للحقوقِ الإنسانيةِ، فيصبحُ على نُصحِه مَلوماً، وبدلَ شُكرِه يكنْ مذموماً، وإذا رأيتَ الرُّوَيْبِضَةَ السفيهَ يكتبُ في الأمورِ التي تخصُ الناسَ جميعاً. لا ترى في كتاباتِه ولا في كلامِه إلا استهزاءً وسُخريةً، لا لشيءٍ إلا ليجذبَ إليه أنظارَ الناسِ، ولا يوجدْ في كتاباتِه حلولاً لأي مشكلةٍ؛ لأنه...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ خلَقَ الإنسانَ ولم يكن شيئًا مَذكورًا، صوَّره فأحسَنَ صورتَه فجعله سميعًا بصيرًا، أرسَل إليه رسلَه وأقامَ عليه حجَّته وهداه السبيلَ إمَّا شَاكرًا وإمّا كفورًا، أحمَدُه سبحانه وأشكرُه شكرَ من لا يَرجُ من غيرِه جزاءً ولا شُكورًا، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له إنّه كانَ حليمًا غفورًا، وأشهد أنّ سيّدَنا ونبيَنا محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، بلّغَ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ وعبَدَ ربَّه حتى تفطّرت قدماه فكانَ عبدًا شَكورًا، صلّى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه رجالٍ صدقوا ما عاهَدوا اللهَ عليه، والتابعينَ بإحسانٍ صلاةً وسلامًا رَواحًا وبُكورًا.
أما بعد:
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ" قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يا رسولَ اللهِ؟ قَالَ: "السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ".
هذا الحديثُ يدلُ على تناقضاتٍ تحدثُ في آخرِ الزمانِ، ستعلمُها جيِّداً، إذا رأيتَ أهلَ الفسادِ هم من يدَّعونَ الإصلاحَ، وأهلَ الخيرِ والصلاحِ هم من يُتَّهمونَ بالإفسادِ، وإذا رأيتَ الخائنَ بيدِه المشاريعُ الكبيرةُ التي تتعلَّقُ بها أرواحُ الناسِ، والأمينُ لو تَكَلَّمَ فقط، لكانَ مُفكِّكاً للوحدةِ الوطنيةِ، مُسيئاً للحقوقِ الإنسانيةِ، فيصبحُ على نُصحِه مَلوماً، وبدلَ شُكرِه يكنْ مذموماً، وإذا رأيتَ الرُّوَيْبِضَةَ السفيهَ يكتبُ في الأمورِ التي تخصُ الناسَ جميعاً.
لا ترى في كتاباتِه ولا في كلامِه إلا استهزاءً وسُخريةً، لا لشيءٍ إلا ليجذبَ إليه أنظارَ الناسِ، ولا يوجدْ في كتاباتِه حلولاً لأي مشكلةٍ؛ لأنه ببساطةٍ لا يعلمُ ما هي الحلولُ، وجيدٌ إذا كانَ يعلمُ المُشكلةَ، فأهلُ الاستهزاءِ هؤلاءِ هم الجُهَّالُ، فلما: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً).. (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا).
ردَّ علهم مُدافعاً عن نفسِه: (قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [البقرة: 67].
فتبيَّنَ أن الاستهزاءَ بالناسِ هي صفةُ الجاهلينَ، فمثلُ هذا كيفَ يتكلمُ في أمرِ العامَّةِ؟
ستعلمُ أننا في عصرِ المُتناقضاتِ: إذا رأيتَ الرجلَ يتكلمُ عن الفسادِ الإداري والمالي، وأثرِ ذلك على الفردِ والمجتمعِ وعلى خَيراتِ البلادِ، ويتعجبُ من الجهاتِ المختصةِ التي لم تضعْ حداً لهذا الخللِ الكبيرِ، والفسادِ المستطيرِ، الذي سيأكلُ الأخضرَ واليابسَ، ويستدلُ بقولِه تعالى: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [البقرة: 205].
ثم من أولِ موقفٍ له في إحدى الدوائرِ ولأجلِ تأخيرٍ بسيطٍ في معاملةٍ من معاملتِه، تجدْه يُدخلْ يدَه في جيبِه فيخرجُ ما يضعَه في يدِ الموظفَ حتى لا تتأخرَ المعاملةُ، فيكونُ ملعوناً على لسانِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ" فهل علمتُم من أينَ جاءَ الفسادُ؟.
من التناقضِ: أن نتلوا قولَه تعالى: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات: 12].
فنعلمَ تحريمَ الغيبةِ، وكيفَ شبهَها اللهُ -تعالى- بأبشعِ الأمثالِ، ثم لا يكادُ يخلو مجلساً من مجالسِنا منها.. وإذا أُنكرَ على بعضِهم، قال: هذه هي الحقيقةُ، ولا نقولُ إلا ما فيه، وكأنَه لم يسمعْ سؤالَ الصحابةِ -رضي الله عنهم- للنبيِ -عليه الصلاة والسلام-: "أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟" فردَّ عليهم: "قَالَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ" هذه هي الغيبةُ، وإن كان قلتَ ما ليسَ فيه، قالَ: "وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ" والبُهتانُ أشدُّ الكذبِ.
من المتناقضاتِ: أن يعودَ الطالبُ من مدرستِه وقد علمَّه ذلك المعلمُ المُخلصُ آدابَ الأكلِ والشربِ، وأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبْ بِشِمَالِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ".
ثم يُفاجأُ في وجبةِ الغداءِ أن أمَه وأباه يشربونَ بشمالِهم، وعندما أخبرَهم بالحديثِ، قالوا وبكلِ بساطةٍ: نفعلُ ذلك حتى لا يَتسخَ الكأسُ، فيا فرحةَ إبليسَ بمثلِ هذه الأعذارِ.
من التناقضِ: أن يسمعَ الولدُ في المسجدِ موعظةً مؤثرةً عن فضلِ الصدقِ وتحريمِ الكذبِ، ويتأثرَ تأثراً عظيماً، بل ويعاهدُ نفسَه على الصدقِ وعدمِ الكذبِ، ثم يسمعُ أباه يكذبُ على الضيوفِ، وأمَه تكذبُ على صديقاتِها، والموقفُ الذي لا ينساه عندما جاءَ رجلُ يسألُ عن أبيه، فلما دخلَ عليه البيتَ، قالَ له أبوه: قلْ له أبي غيرُ موجودٌ، فأيُّ تناقضٍ يعيشُه أبناؤنا؟.
أليسَ من التناقضِ: أن تفسرَ المعلمةُ الفاضلةُ للطالباتِ قولَه تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ)[النــور: 31].
وتشرحْ لهنَّ كيفَ أن الحجابَ سِترٌ وعفافٌ، تُخفي به المرأةُ زينتَها حتى لا يطمعَ الذي في قلبِه مرضٌ، ثم إذا قلَّبتْ نظرَها في عباءاتِ القريباتِ، وجدتها فساتينَ سهرةً سوداءَ مطرزةً يُطلقُ على الواحدةِ منها كذباً وزوراً اسم "عباءة" فتغيَّرتْ الأحوالُ، فلما "أبدينَ زينتَهن" طمعَ الذي في قلبِه مرضٌ.
ترى الرجلَ الكبيرَ في المجالسِ، يفتلُ شواربَه، يتحدثُ عن القِوَامةِ في زمانِه، وكيف أن تفريطَ الرجالِ سببٌ في انفلاتِ النساءِ، ويستدلُ بحديثِ: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
ثم إذا رأيتَه مع أهلِه، رأيتَ امرأتَه تلبسُ العباءةَ المُخصَّرةَ، وابنتَه تلبسُ العباءةَ المُطرَّزةَ، فتفرك عينيكَ لتتأكدْ أهو هو؟ فيأتيك الجوابُ: نعم، فأنت في زمنِ التناقضاتِ.
من التناقضِ: أن تسمعَ الطبيبَ يتكلمُ عن آثارِ التدخينِ الصحيةِ، وكيفَ يكونُ سبباً في كثيرٍ من أمراضِ السرطانِ وغيرِه من الأمراضِ المُميتةِ، ثم يضربُ لك أمثالاً واقعيةً لمرضى كانوا يُراجعونَ عيادتَه فماتوا بسببِ ذلكَ الدُخانِ الخبيثِ، ثم تراه صُدفةً وهو يدخنُ بالقربِ من المستشفى.
من التناقضِ: أن ترى الرجلَ يجلسُ مع أهل الخيرِ فيحدثُهم عن أعمالِه الصالحةِ وبرِّه بوالديه وصدقاتِه المتتابعةِ، ويذكرُ لهم ما يحفظُ من أمورِ الدينِ، ويشكوا لهم أحوالَ الأمةِ، ثم بعد أقلِ من ساعةٍ، إذا هو يجلسُ مع أناسٍ آخرينَ، يحدثُهم عن آخرِ أسفارِه، وبعضِ مغامراتِه العاطفيةِ، ويستعرضُ لهم صُوراً يستحي الشيطانُ من رؤيتِها: (مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [النساء: 143].
تناقضٌ: أن ترى من كانَ يُحذِّرُ من خطرِ ابتعاثِ المراهقينَ، ومن خطورةِ السفرِ إلى بلادِ الكفارِ، لما في ذلك من خطرٍ على العقيدةِ والأخلاقِ، وعندما أصبحَ الابتعاثُ مجاناً، رأيتَ أبناؤه كلَهم مُبتعثونَ، كل واحدٍ منهم في بلدٍ، وبدأّ يرددُ كثيراً ذلك الحديثَ المكذوبَ: "اطلبوا العلمَ ولو في الصينِ".
نقرأُ في كتابِ اللهِ -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].
ونقرأُ في سنةِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى".
ثم تُبثُّ على مرأى ومسمعٍ من المسلمينَ حالَ إخوانِهم في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها؛ منهم من يُحرقُ، أو يفرُّ بسفينةٍ فيَغرقُ، ومنهم من يُشنقُ، ومنهم من بالمنشارِ يُشَقُّ، منهنَّ من يُخلعُ نقابُها من على وجهِها، ومنهنَّ من تُساقُ لهَتكِ عِرضِها، منهم من يموتُ تحتَ هدمِ القذائفِ، ومنهم من يُدفنُ حياً، منهم من يموتُ جوعاً، ومنهم من يموتُ من البردِ، هل رأيتُم ذلك الطفلُ الذي ماتَ من البردِ؟ هل لاحظتُم يدَه المتجمدةَ المرفوعةَ إلى الأعلى، وبصرَه الشاخصَ إلى السماءِ؟ فلا أدري، هل هو يشتكي إلى اللهِ من الظالمينَ؟ أو هو يشتكي تقصيرَ إخوانِه المسلمينَ؟ ولا يجدُ هو أو غيرُه مجيباً من المسلمينَ، لا لشيءٍ إلا لأننا في عصر المُتناقضاتِ.
أستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم وللمسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ العليِّ العظيمِ، العليمِ الحكيمِ، أحمدُ ربِّي وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأُثني عليه الخيرَ كلَّه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الرحمنُ الرحيمُ، وأشهدُ أنّ نبيَّنا وسيّدَنا محمّدًا عبدُه ورسولُه ذو الخُلُقِ الكريمِ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ على عبدِك ورسولِك محمّدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه أجمعينَ.
أما بعد:
أعظمُ التناقضِ في حياتِنا هو تناقضُنا في أمرِ دينِنا، نعلمُ الخيرَ ونأتي منه ما أردْنا، ونعلمُ الشرَ ونجتنبُ منه ما شئنا، نعلمُ الهدى ولا ندخلُ فيه كلِه، ونعلمُ الضلالَ ولا نخرجُ منه كلِه، اعتمادُنا على رحمةِ اللهِ -تعالى- ومغفرتِه، وكأننا لا نقرأُ القرآنَ، فلما ذكرَ اللهُ -تعالى- رحمتَه التي وسعتْ كلَ شيءٍ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)
ذكرَ أهلَها وأحقَ الناسِ بها، قال: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[الأعراف: 156].
ولما ذكرَ مغفرتَه العظيمةَ والتي عبَّرَ عنها بصيغةِ المبالغةِ: "غفّار": (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) أخبرَ لمن هذه المغفرةِ: (لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طـه: 82].
تَرْجُو النَّجَاةَ ولم تَسْلُكْ مَسَالِكَها *** إنَّ السفينَةَ لا تمشي على اليَبَسِ
يدخلُ الواحدُ منا إلى المقبرةِ، ويرى كيفَ يُوضعُ المَيِّتُ في قبرِه ويحثوا عليه الترابَ أحبُّ أهلِه، ثم يتركونَه وحيداً ليسَ معَه إلا عملُه؛ مصداقاً لقولِه عليه الصلاة والسلام: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ".
ثم يخرجُ من المقبرةِ وكأنَه قد عادَ من الآخرةِ، وبدلَ أن يظهرَ عليه أثرُ: "كفى بالموتِ واعظاً" تجدْه يشعلُ سيجارةً ويستمعُ إلى أغنيةٍ حتى يصلَ إلى بيتِه.
من التناقضِ: أننا نعلمُ ما في القرآنِ من الهدى والإيمانِ، وما في تلاوتِه من النورِ والاطمئنانِ، هو طريقُ الاستقامةِ والثباتِ، من تمسَّكَ به فقد اهتدى، ومن أعرضَ عنه فقد غوى، ومع ذلك تجدْ كثيراً منا قد أعرضوا عن تلاوتِه وتدبُّرِه.
وأعظمَ من ذلك الإعراضِ عن العملِ بما فيه، وكأنهم لا يعلمونَ أن خصمَهم يومَ القيامةِ هو رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30].
عجيبٌ: أن نسمعَ بالجنةِ وما فيها من النعيمِ، ثم تجدُ القليلَ من الناسِ لها بأعمالِه طالباً، ونسمعَ بالنارِ وما فيها من الجحيمِ، ثم لا تجدُ الكثيرَ من عذابِها هارباً، نسمعُ الموعظةَ ثم نتوبُ قليلاً ثم نرجعُ، ونرى الحادثَ المُميتَ فيؤثرُ بنا أياماً قليلةً ثم نعودُ، ينادينا واعظُ اللهِ في قلوبِنا فلا نُجيبُه، ونرى الحقيقةَ واضحةً فنغمضُ أعينَنا عنها، فإلى متى؟ أإلى تلك اللحظةِ التي يقولُ فيها المُفرِّطُ: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)[المؤمنون: 99-100]؟
اللهم أصلحْ لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبرَ همِنا، ولا مبلغَ علمِنا، ولا إلى النارِ مصيرَنا.
اللهم لا تجعل مصيبتَنا في دينِنا، اللهم اجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلِ خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كلِ شرٍ.
اللهم لا تدع لنا ولا لأحدٍ من المسلمينَ هماً إلا فرجته، ولا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مَيْتاً إلا رحمته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مجاهداً إلا نصرته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا جائعاً إلا أطعمتْه، ولا بارداً إلا دفيّتَه، ولا حاجةً من حوائجِ الدنيا والآخرةِ إلا يسرتها.
التعليقات