عناصر الخطبة
1/كثرة نعم الله تعالى على خلقه 2/الأمر بتسبيح الله وتنزيه وحمده وتعظيمه 3/تأملات في تقدير العزيز الحكيم سبحانه 4/أعظم نعمة على الأمة 5/وجوب الاتعاظ بالآيات الشرعية والكونية 6/خطورة الغفلة عن آيات الله تعالى.اقتباس
تأتي هذه السورة التي كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يداوم على قراءتها كل جمعة.. لتذكر بجزء من نعم الله -تعالى- وآياته العظيمة، الدالةِ على قدرته وعظمته، الداعيةِ إلى تسبيحه وتعظيمه.. ويا خسارة وخيبة من غفل عن تلك الآيات!، وأصر واستكبر عن دلالاتها وما تحمله من عبرة وعظة...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: بالغدو والرواح، وفي المساء والصباح، نَرْفُل في نِعَم سابلة، ومِنَن سابغة، تتخللنا بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وشمائلنا، بل وفي أنفسنا وما نتمتع به من صحة وعافية، وأمن وإيمان، وتسخير وتيسير، وهداية وامتنان من رب كريم منان، فتأتي سورة الأعلى لتُتْلَى وتُسْمَع في أكبر مجمع أسبوعي؛ ليتجدَّدَ التذكيرُ بتلك النعم، ولتقابل بشكر المنعم –سبحانه- وحمده؛ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)[الأعلى:1-3].
عباد الله: افتتح الله -تعالى- السورة الكريمة بالأمر بتسبيحه وتنزيه، وحمده وتعظيمه، بذكره -سبحانه- وذِكْر اسمه الأعلى بالقلب واللسان، وبسائر الجوارح والأركان، مع استحضار معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى لله -تعالى-، فهو الأعلى على كل عال، والأسمى من كل سامٍ (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)[مريم:65]؟!
بل إن إذن الله -تعالى- لعباده أن يحمدوه ويسبّحوه إحدى نعمه -سبحانه- وإفضالِه عليهم.. والتسبيح والتنزيه ليس مجرد ترديد لفظ: سبحان الله، لكن بتفكُّر وإذعان وإقرار بالجنان، لتُعرفَ عِظَمُ نعمه، ويصغرَ كلُّ عظيم دونه، لما صرخ أبو سفيان يوم أُحُد حين كانت الكَرَّةُ لهم، أخَذَ يَرتجِزُ: اعْلُ هُبَلُ، اعْلُ هُبَلُ، فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "ألَا تُجيبونَه؟!"، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وما نقولُ؟ قال: قولوا: "اللهُ أعْلى وأجَلُّ"(رواه البخاري: 4043).
عبد الله: احمد ربك الأعلى وسبّحه فهو: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)[الأعلى:2]؛ خلق كل شيء فسواه وعدَله، فأكمل صَنعته، وبلغ به غاية الكمال كل بما يناسبه، الأرض والسماوات والإنسان والحيوان وسائر المخلوقات، لم تأتِ خلقاً متفاوتاً متخالفاً، بل متناسباً بإحكام ومتناسقاً بإتقان، (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)[الانفطار:6-8].
كل ذلك دلالةً على أنه صادر عن عليم حكيم.. (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)[الأعلى:3]؛ فقدّر لكل مخلوق وظيفتَه وغايتَه، وهدَى كل مخلوق وأرشده لما خُلِقَ له وقُدِّر، فألهمه غاية وجوده، وقدّر له ما يصلحه مدة بقائه، بل وهداه إليه: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه: 50].
فسبحان ربي الأعلى الذي قدّر للإنسان أن يكون قادراً على النطق والعلم بما وهبه من العقل فهداه لاستعمال فكره وتمييز صوابه من خطأه (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[الإنسان:3].
ولما قدر النحل لإنتاج العسل ألهمها أن ترعى النَّوْر والثمار، ولما قدر البقرة للدر ألهمها الرعي، ولما قدر الزمن يتراوح بين البرودة والسخونة هدى الطبيعة تتكيف وتتأقلم.. فهي حقيقة كبرى ماثلة في كل شيء، يشهد بها كل ما في رحاب هذه الحياة، من الجليل إلى الحقير، ومن الكبير إلى الصغير، كل شيء مسوَّى في صنعته، كامل في خلقته، مهدى لأداء وظيفته، فسبحان ربي الأعلى.
عباد الله: ومن عظيم نعم الله -تعالى-: خَلْقُ هذه الأرض، وتقدير أقواتها فيها لكل حي يدبّ فوق ظهرها، أو يطير في جوها، أو يختبئ في جوفها، (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى)[الأعلى:4-5]، والمرعى كل نبات، وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله، وهو أصل في قوام العيش وبقاء الحياة، إما حال اخضراره وابتهاجه، أو عند غثائه ويبسه واسوداده، فهو في كل أحواله صالح لأمر من أمور الحياة، ولِخَلق من خلق الله، بتقدير الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، فسبحان ربي الأعلى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود:6].
عباد الله: وأعظم نعمة، وأكمل منة على هذه الأمة، هذه البشرى من عند ربنا الأعلى، للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته من بعده: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)[الأعلى:6]؛ فقد تكفل الله بحفظ هذا الكتاب العزيز، وأقسم على تيسيره وفهمه (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)[القمر:17].
(إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)[الأعلى:7]؛ فإنه ينساه مما قضى الله نَسْخه بأن تُرْفَع تلاوته وحُكْمه (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة:106]، وإما أن يقع منك نسيان فتتذكر بعد ذلك كغيرك من البشر، إلا أنه معصوم من النسيان فيما أمر بتبليغه.
فالله -سبحانه- حَافِظ دينه، ومُتِمّ نعمته، لتبقى هذه الأمة عالية بعلو كتابها، وعظيم رسالتها، إن تمسكوا بكتاب ربهم واتبعوا سبيله (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:139].
اللهم اهدنا وارفعنا بالقرآن يا رب العالمين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: الكَيِّس الفَطِن من يقرأ فينتفع، ويسمع فيتعظ، وينظر فيعتبر، (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[فصلت:53]؛ فآيات الله -تعالى- الشرعية والكونية عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، فهي ليست محض صدفة، أو لزوم طبيعة، أو كرة عارضة..
كلا، بل نظام محكم، وتقدير متقن، وخلق مقدر، من لدن حكيم عليم (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)[الملك:3]، وتأتي هذه السورة التي كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يداوم على قراءتها كل جمعة، بل ربما كررها في اليوم مرتين حين تجتمع صلاتي العيد والجمعة في يوم واحد (رواه مسلم: 465 من حديث النعمان بن بشير)؛ لتذكر بجزء من نعم الله -تعالى- وآياته العظيمة، الدالةِ على قدرته وعظمته، الداعيةِ إلى تسبيحه وتعظيمه، المستوجبةِ لطاعته وامتثال أمره، لتتجدد الروح، ويزداد الإيمان، ويكون المؤمن على ذكر وطاعة لمولاه -سبحانه- وحسن الثناء عليه.
ويا خسارة وخيبة من غفل عن تلك الآيات!، وأصر واستكبر عن دلالاتها وما تحمله من عبرة وعظة، وأية دلالة، (تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[الجاثية:6-9]، ويا خسارة.
هذا وصلوا وسلموا....
التعليقات