عناصر الخطبة
1/سبيل الخلاص والنجاة 2/مقاصد سورة الكهف 3/التحذير من أبرز أربع فتن 4/ افتتاحية سورة الكهف 5/ملاذ لطالب السلامة والنجاة 6/أفضل طرق التعامل مع الحياة الدنيا.اقتباس
افتتح الله سورة الكهف بالحمد لله والشكر له والثناء على نعمه، وأجلّها وأعظمها إنزال هذا الكتاب العزيز على نبيه ومصطفاه، وعبده وخليله، سالماً من العوج في المعاني والدلالات، محفوظاً عن النقص في الهدايات والإرشادات....
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: إن كانت الحياة مليئة بالمتناقضات، ومحفوفة بالشهوات والشبهات، ومشوبة بالغث والسمين، والنافع والضار، فإن سبيل الخلاص، وطوق النجاة، كتاب الله -تعالى-، بما حواه من هداية ودلالة، وترغيب وترهيب، وبشارة ونذارة، ولذا فهو أعظم نعمة على الإطلاق، وأكبر منَّة منَّ الله بها على العباد، وقد حمد الله -تعالى- نفسه على هذه النعمة مطلع سورة الكهف، وأرشد عباده أن يحمدوه ويشكروه على ذلك، فقال -تعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)[الكهف:1].
عباد الله: سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه السورة بالكهف؛ إذ الكهف هو النقب الواسع في الجبل، فكل مَن تحصن بكهف فهو في أمنٍ من المضارّ، وحفظٍ عن الأضرار، يُكِنُّ عن المطر والريح، ويحفظ من البرد والحر، ويحمي عن العوادي والبوادي، فأنَّى لأحد أن يتخلل جبلاً، أو ينفذ صخرًا.
وكذا القرآن الكريم، مَن تمسَّك به عُصِمَ من الأهواء، وهُدِيَ إلى الطريق السواء، ومن ابتغى الهدى في غيرِهِ تاهَ وضاعَ.
وقد تخللت هذه السورة العظيمة صوراً من الداء والبلاء ابتلاء وتحذيراً، وطرقاً في الأدواء والشفاء دلالةً وإرشادًا، ففيها أربع من أعظم البلاء، وأشد الابتلاء التي أهلكت أُمماً، وأعطبت أقواماً، حين تماهوا معها، وانساقوا خلفها، فاغتروا بها، وسحرهم بريقها، فهلكوا في مستنقعها، وسقطوا في براثنها:
وهي فتنة الدين المتمثلة في قصة أصحاب الكهف؛ (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)[الكهف:14].
وفتنة المال ورغد العيش الواردة في قصة الرجلين (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا)[الكهف: 32].
وفتنة العلم والمعرفة في قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر، (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)[الكهف:66].
وفتنة الملك والإمارة الواردة في قصة الملك العظيم ذي القرنين (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)[الكهف:84].
وفي مقدمة تلك القصص ووسط عقدها وخاتمتها الإشادة بكتاب الله -تعالى-، والتنويه بأحكامه ودلالاته، والإشارة لهداياته وإرشاداته؛ (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)[الكهف:54].
كل ذلك ليدرك السبيل، ويعرف طريقُ الخلاص والسلامة من بلاوي الدنيا، وعظيم فتنتها (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[الكهف:2-3].
عباد الله: افتتح الله سورة الكهف بالحمد لله والشكر له والثناء على نعمه، وأجلّها وأعظمها إنزال هذا الكتاب العزيز على نبيه ومصطفاه، وعبده وخليله، سالماً من العوج في المعاني والدلالات، محفوظاً عن النقص في الهدايات والإرشادات؛ إذ العوج في المعاني كالعوج في الأشخاص.
فلا تجد تناقضاً في معانيه، ولا اختلافاً في تراكيبه ومبانيه، فهو مكمَّلاً في ذاته؛ (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء:82] بل ومكمِّلاً لغيره، إذ هو (قَيِّمًا) بمصالح العباد، وشرائع دينهم وأمور معاشهم ومعادهم، (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)[التوبة:36] فـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا)[الكهف:1-2].
عباد الله: إن كان من حكم إنزال القرآن البشارة والتبشير لأهل الإيمان في الدنيا والآخرة (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا)[الكهف:2-3]، فهو كذلك إنذار وترهيب، وتهديد ووعيد، للمكذبين الضالين، والمعرضين المستهترين، المتخذين آيات الله هزواً، ودين الله -تعالى- لعباً، المتقولين على الله ما لا يليق، الواصفين بألسنتهم ما ترده قرارة نفوسهم، وتأبه ضمائرهم (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)[الكهف:5]. فهو لا يعدو إلا أن يكون تقليداً باهتاً، واستكباراً بارداً؛ لأن المحال لا يمكن أن يعتقده العقل، وينفذ إلى قرارة النفس، فأي عقل ذاك الذي يزعم أن لله ولداً أو أن له صاحبة!! لكن يتلقاه المقلد دون تأمل أو تفكر (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[النمل:14].
ومع هذه الحقيقة، فإن ذلك لا يثني الداعي إلى الله -تعالى- في نشر الخير ومواصلة دعوة الخلق إلى الخالق -سبحانه-، مع السعي بكل سببٍ يُوصّل إلى الهداية، وسدّ طرق الضلال والغواية، فإن اهتدوا فبها، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[الكهف:6]؛ أي مهلكها بالحزن الشديد على إعراضهم واستهزائهم، فإن ذلك مُضْعِف للنفس، هادم للقوى، مُكدّر للخاطر.
فلو علم الله فيهم خيراً لهداهم؛ (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام:125]، وسُنة الله الباقية (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)[الفرقان:20].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: سورة الكهف ملاذ لطالب السلامة والنجاة الدائمة، ففيه ذكر لمسببات الهلاك، مع طرق الخلاص والنجاة، لمن تدبر آياتها، وتفكّر في معانيها، فالله -سبحانه- أخبر أنه جعل جميع ما على وجه الأرض, من مآكل لذيذة, ومشارب هانئة, وملابس طيبة, ومناظر بهيجة, ورياض أنيقة, وأصوات شجية, وصور مليحة، زينة لهذه الدار, فتنة واختبارا، وامتحاناً وابتلاء (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الكهف:7].
في تعاطيهم مع تلك الزينة، وتعاملهم مع ذلك البلاء: فمن نظر إلى ظاهر الدنيا, دون باطنها، فعبَّ منها, وتمتع بها تمتُّع السوائم, لا يراعي حق ربه، ولا نجاة نفسه، فإنه إذا حضر الموت, قلق لخراب ذاته, وفوات لذاته.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا, وعلم المقصود منها ومنه, فإنه يستعين بها على ما خُلق له, وعمّر دنياه بما ينفعه ولا يعطبه، فجعل الدنيا منزل عبور, لا محل حبور, وشقة سفر, لا منزل إقامة.
فبذل جهده في معرفة ربه, وتنفيذ أوامره, وإحسان عمله... مع أن مآل تلك الزينة ونهاية ذلك الحسن سيجعله الله فانياً مضمحلاً, وزائلاً منقضياً. وستعود الأرض, صعيدًا جرزا قد ذهبت لذاتها, وانقطعت أنهارها, واندرست أشجارها, وزال نعيمها.
فيا سعد مَن سعى لفكاك نفسه، وخلاص عمله، ويا خيبة لمن أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني.
هذا وصلوا وسلموا....
التعليقات