عناصر الخطبة
1/فضائل سورة الفاتحة 2/حمد الله وتعظيمه والثناء عليه 3/الفرق بين الرحمن والرحيم 4/ملك يوم الجزاء والحساب 5/الفاتحة سر القرآن 6/أجلّ الغايات وأفضل الوسائلاقتباس
سورة الفاتحة أعظم سور القرآن؛ لما اشتملت عليه من المعاني الجليلة، ومقاصدِ القرآن الكلية، فقد تضمَّنت التوحيدَ والثناءَ على الله في مطلعها، ثم الأمرَ بعبادته والاستعانةِ به -سبحانه- بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.. وخُتمت بالتذكير والوعد والوعيد.
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله المحمودِ بكل لسان، المعبود بكل جَنان، أحمده -سبحانه- كما أمر، وأشكره على ما أعطى وقدر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأعزُّ الأبر، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله خيرُ البشر ونور البصر، وعلى آله وصحبه أولي المناقب والدرر.
أما بعد: فأوصيكم بتقوى الله -تعالى-.
عباد الله: في الذوقِ العربي وعلى سنن لسانهم الذي يخطبون به ويلقون أشعارهم ويدبجون به كلامهم، وقوعُ التفننِ في الفواتح، وإكمالِ المطالع، وإتمامِ مقدمات الكلام، بل قد عَدَّ علماء البلاغة أن أهم مواضع التأنق في الكلام هو فاتحة الكتاب ومقدمته... والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، وقد افتتح بأعظم سورة وهي الفاتحة، وبأوجز آيات فهي سبعٌ فقط، مُقَدَّمةٌ على سور طوال ومئين، لتكون بمنزلة الديباجة للكتاب، والمقدمة للخطبة.
عباد الله: سورة الفاتحة أعظم سور القرآن؛ لما اشتملت عليه من المعاني الجليلة، ومقاصدِ القرآن الكلية، فقد تضمَّنت التوحيدَ والثناءَ على الله في مطلعها، ثم الأمرَ بعبادته والاستعانةِ به -سبحانه- بامتثال أوامره واجتناب نواهيه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5]، وخُتمت بالتذكير والوعد والوعيد.
حتى قيل: إن جميعَ معاني القرآن ومقاصِده اشتملت عليها، فهي أُمّ القرآن، والقرآن العظيم الذي أوتيه -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي سعيد بن المعلى -رضي الله عنه- قال: قالَ لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ قَبْلَ أنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ"، فأخَذَ بيَدِي، فَلَمَّا أرَدْنا أنْ نَخْرُجَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّكَ قُلْتَ: لَأُعَلِّمَنَّكَ أعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ قالَ: "(الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ) هي السَّبْعُ المَثانِي، والقُرْآنُ العَظِيمُ الذي أُوتِيتُهُ"(رواه البخاري 4474).
قال الحسن البصري: "أنزل الله -تعالى- مائةً وأربعةَ كتب من السماء، أودع علومها منها أربعة: التوراةَ والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة: الفرقان، ثم أودع علوم الفرقان: المفصل، ثم أودع علوم المفصل: فاتحةَ الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتاب الله -تعالى- المنزلة"(رواه البيهقي في الشعب 2371، والثعلبي في الكشف 2/270).
وفي الحديث قال -عليه الصلاة والسلام-: "والذي نفسي بيدهِ ما أنزلتْ في التوراةِ، ولا في الإنجيلِ، ولا في الزبورِ، ولا في الفرقانِ مثلها. وإنها سبعٌ من المثانِي، والقرآنُ العظيمُ الذي أُعْطيتهُ"(رواه الترمذي 2875، وقال: حسن صحيح).
عباد الله: افتتحت السورة بــ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وهو ثناء أثنى الله -تعالى- به على نفسه؛ تعليماً منه لخلقه، فلفظه: خبر، ومعناه: أمرٌ، أي قولوا: الحمد لله، وهو بمعنى: الثناءُ على الله -تعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، على جميل صنعه وإحسانه إلى خلقه، حمداً خالصاً له دون سائر ما يُعبَد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيرهُ أحد، من غير استحقاق منهم ذلك عليه، قال -تعالى-: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النحل:53]، وكل قضاء لله -تعالى- على العبد فهو محمود عليه -سبحانه-.
ولفظ الجلال "الله" اسم لله رب العالمين لا يُسمَّى به غيره، وهو أصل الأسماء وأعظمُها وأجمعها، وهو أعرف المعارف على الإطلاق، حتى إن الأسماء الحسنى كلها تُضاف إليه وتأتي تابعةً له. وهو الذي يأْلَهُه كلُّ شيء، ويَعبده كل مخلوق.
(رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الفاتحة:2] الرب هو: السيد المالك المدبر لجميع المخلوقين، فالرب -سبحانه- لم يخلق الإنسانَ ثم يتركه هملاً، إنما يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه، بل كلُّ العوالم والخلائق تُحفظ وتُتَعهد برعاية الله رب العالمين، فــ(الْعَالَمِينَ) هم كلُّ من سوى الله -تعالى-، من جميع أصناف المخلوقات في كل زمان ومكان، قال -تعالى-: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)[الشعراء: 23-24].
إن افتتاح الخطاب والكتاب بالتحميد (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الفاتحة:2] سنةُ الكتاب المجيد، لكل بليغ مُجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذ يلقبون كل كلام نفيس لم يشتمل في مطلعه على الحمد بالأبتر، للأثر "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع"(رواه أبو داود: 4840، وابن ماجه: 1894)، فقد لُقِّبت خطبةُ زيادِ بن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء؛ لأنه لم يفتتحها بالحمد.
عباد الله: لما جاء وصف الله -تعالى- بالربوبية التي تعني السيدَ المالكَ الذي له مطلق التصرف في عباده، والتي قد يفهم منها معنى الجبروت والقهر، جاء وصفه -سبحانه- بالرحمة بعدها لينبسط أملُ العبد في العفو إن زلَّ، ويقوى رجاؤه إن هفَا.
قال -تعالى-: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[الفاتحة:3]، وهما وصفان لله -تعالى- واسمان من أسمائه الحسنى، مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم، فـ(الرَّحْمَنِ) ذو الرحمة الواسعة لجميع خلقه في الدنيا والآخرة (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)[الأنعام:12]؛ فهي صفة ذاتية.
و(الرَّحِيمِ) ذو رحمة خاصة بالمؤمنين في الدنيا بتوفيقهم لطاعته والإيمانِ به واتباعِ أمره، وفي الآخرة بما أعده لهم من النعيم المقيم والفوز المبين (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)[الأحزاب:43]، قال العرزمي: "الرحمن بجميع الخلق، الرحيم: بالمؤمنين". وفي هاتين الصفتين استغراق لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها.
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة: 4]؛ أي المتصرفَ في جميع خلقه بالقول والفعل يوم الجزاء والحساب وذلك يوم القيامة، وقُرِئَت (مالك) أي: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه أحد، و(ملك) من المُلك: وهو أن لله الملكَ خالصاً يوم القيامة دون جميع خلقه الذين كانوا في الدنيا ملوكاً.
قال -تعالى- (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[غافر: 16]، وهما قراءتان سبعيتان تتفقان وتتكاملان، وكلاهما مُؤذن بإقامة العدل وعدم الهوادة فيه؛ لأن شأن الملك أن يُدبِّر صلاح الرعية ويَذُبَّ عنهم، ويقيمَ العدل فيهم؛ ولذا أقام الناس الملوك عليهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[غافر: 17]، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية :
عباد الله: افتتحت السورة بالخبر من الله -تعالى- بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحميدة، فكأن التالي وهو يقرأ هذه السورة اقترب وحضر بين يدي الله -تعالى-؛ لذا تحول الكلام من الغَيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5]؛ أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، وتمام الاستعانة، والدِّين كله يرجع إلى هذين المعنيين.
ولهذا قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؛ لأنها متضمنة لأجلّ الغايات وأفضل الوسائل؛ فالأول تبرؤ من الشرك وإعلانُ الإخلاص لله -تعالى-، والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويضُ إلى الله -عز وجل- كما قال -سبحانه-: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)[هود:123]، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره.
عباد الله: إذا كان المرء في طاعة وعبادة فهو شريف وعظيم وذو جاه عريض، ولذا ناسب الجمع في "نعبد" و"نستعين"، وإن كان التالي فرداً، وفيها تلطف في التواضع من "إياك أعبد"؛ لما يَشِي بأنه وحده أهلاً للعبادة دون سواه.
وقد ذكرت الاستعانة بعد العبادة مع دخولها في العبادة؛ لاحتياج العبدِ في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله -تعالى- فإنه إن لم يُعْنِه الله لم يحصل له ما يريد.
فاللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، هذا وصلوا وسلموا...
التعليقات