عناصر الخطبة
1/ سبب نزول سورة المطففين 2/ تفسير قوله تعالى: (ويل للمطففين) 3/ أثر الاعتقاد الصحيح والفاسد على العمل 4/ كيفية قيام الناس يوم القيامة للحساب وحكم القيام للقادم 5/ تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار...) 6/ المقصود بالران 7/ رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة 8/ جزاء المؤمنين والكافرين في الآخرةاهداف الخطبة
اقتباس
الويل للعلماء فيه قولان مشهوران: القول الأول في تفسير: الويل؛ أنه وادٍ في جهنم يسيل إليه صديد أهل النار، وقد وردت في هذا الباب عدة أخبار عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، لكن في تفسير كل خبر منها ضعف بل ضعف شديد، فمن العلماء من...
الخطبة الأولى:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
"سورة المطففين" قد ورد فيها سبب نزول في إسناده بعض الضعف؛ ألا وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- لما قدم المدينة وجد أهلها يطففون المكاييل والموازين فنزلت: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين: 1]، فانتهوا عن تطفيفهم للمكيال والميزان.
قال سبحانه: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين: 1] الويل للعلماء فيه قولان مشهوران: القول الأول في تفسير: الويل؛ أنه وادٍ في جهنم يسيل إليه صديد أهل النار، وقد وردت في هذا الباب عدة أخبار عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، لكن في تفسير كل خبر منها ضعف بل ضعف شديد، فمن العلماء من قواها بمجموع طرقها، ومنهم من ضعف مفرداتها. القول الثاني في تفسير: الويل؛ أنه دعاء بالهلاك، كما قال الكافر: (يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا) [الفرقان: 28]، "فويل" أي هلاك وعذاب للمطففين.
وأصل التطفيف: النقص والبخس، والمراد هنا: نقص الموازين والمكاييل وبخس الموازين والمكاييل. هذه الآية فيها رد على العلمانيين القائلين: لا دخل للدين بالحياة ولا دخل للدين بالاقتصاد، فهذه الآية من أقوى الآيات التي ترد عليهم، فهي تنظم لنا أمور اقتصادنا وتمنع الغش فيما بيننا، وقد قال نحو مقالة هؤلاء العلمانيين الكفرة قوم شعيب لما أُرسل إليهم آمراً إياهم بعبادة الله وعدم تطفيف المكاييل والموازين: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) [هود: 87] يعني نحن أحرار في أموالنا: (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود: 87] يعنون السفيه الضال كما أسلفنا.
وشعيب -صلى الله عليه وسلمَ- يحمل رسالة فيها الأمر بإقامة الوزن والمكيال بالقسط: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [هود: 85 - 86]، وقال الله -سبحانه-: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الشعراء: 181 - 183]، وقال سبحانه: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرحمن: 9]، وقال سبحانه: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [الإسراء: 35]، وقال: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152]، فلابد من الوفاء ولابد من العدل في المكاييل والموازين، وإلا فالتطفيف كبيرة من الكبائر بالاتفاق، قال الله -سبحانه-: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) [المطففين:1-2] أي طلبوا من الناس أن يكيلوا لهم (يَسْتَوْفُونَ) [المطففين: 2] يأخذون حقهم مستوفى، يعني إذا اشترى من شخص يقول له: أرجح الكيل: (إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) [المطففين: 2] أي يأخذون حقهم مستوفى.
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن البائع هو الذي يكيل، أو هو الذي يعطي أجرة الكيل لمن يكيل، وقد ورد في الباب حديث في إسناده ضعف إلا أن الضعف فيه قليل: "إذا بعت فكل (أي أنت الذي تكيل) وإذا ابتعت فاكتل (أي اطلب من شخص أن يكيل لك) فإذا بعت أنت الذي تكيل، وإذا اشتريت يكال لك، فهذه بعض تنظيمات البيوع. فالفقهاء منهم من بوب باب: صاحب السلعة أحق بالسوم، يعني: صاحب الشيء هو الذي يقول: أنا حاجتي أبيعها بكذا، ويستدل لذلك بما أخرجه البخاري بإسناده إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- لما جاء عليه الصلاة والسلام يشتري من بني النجار حائطهم (أي بستانهم) كي ينشئ فيه المسجد النبوي قال: "يا بني النجار ساوموني بحائطكم" يعني قولوا كم تريدون ثمن حائطكم؟ فهذا رأي فريق من العلماء، ومنهم من رأى أن الأمر في هذا واسع.
الشاهد: أن البائع هو الذي يكيل ويزن، قال الله -سبحانه-: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ) أي طلبوا من الناس أن يكيلوا لهم (عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ)، (وَإِذَا كَالُوهُمْ) [المطففين: 3] أي كالوا لهم (أَوْ وَزَنُوهُمْ) [المطففين: 3] أي (وزنوا لهم يُخْسِرُونَ) [المطففين: 3]، فهذا مثل أن يكون للرجل قدح كبير يشتري به وقدح صغير يبيع به، أو كيلو صنجته كبيرة وكيلو صنجته صغيرة يشتري بهذا ويبيع بهذا، فكل هذا يدخل في الوعيد: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين: 2 - 3] أي ينقصون.
(أَلا يَظُنُّ) [المطففين: 4] أي ألا يعتقد ويوقن، فالظن هنا بمعنى اليقين، ومواطن إتيان الظن بمعنى اليقين متعددة؛ منها: (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) [الحاقة: 20] أي أيقنت أني ملاقٍ حسابيه: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة: 46] أي يوقنون أنهم ملاقو ربهم، وهنا يقول سبحانه: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ) [المطففين: 4] أي المطففون (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) [المطففين: 4 - 5] الآية تفيد: أن الاعتقاد الصحيح يولد عملاً صحيحاً، وبالمقابل فإن الاعتقاد الفاسد يولد عملاً فاسداً، فإذا كان اعتقادك صحيحاً وأنك تعتقد تماماً أنك مبعوث ليوم عظيم، فهذا الاعتقاد الصحيح يحملك على عمل صحيح وهو عدم تطفيف الكيل، وعدم تطفيف الميزان، لكن إذا كنت لا تعتقد أن هناك بعثاً ما هو المانع لك من الغش؟ ما هو المانع لك من السرقة؟ لا مانع إذاً من الغش ولا من السرقة (إذا كنت لا تعتقد أن هناك بعثاً) إلا سطوة البشر، لكن إذا خلوت وابتعدت من أعين البشر ليس هناك أي مانع من أن تختلس، ولذلك مقولة إخواننا الذين يقولون: إن الأوروبيين أكثر أماناً من المسلمين هذه مقولة ضالة خاطئة، فهم وإن راقبوا البشر فلا يراقبون الله، فإذا تمكنوا من السرقة والاختلاس اختلسوا بلا شك ولا حرج عندهم في ذلك.
فالشاهد: أن الاعتقاد الصحيح يحملك على عمل صحيح، لذلك إذا اعتقدت اعتقاداً صحيحاً في الملائكة وأنهم يراقبونك عملت عملاً صالحاً حتى لا يروك على معصية الله.
في المقابل الاعتقاد الفاسد يولد عملاً فاسداً، ولذلك لما اعتقد بنو إسرائيل اعتقادات فاسدة، كاعتقادهم أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات قالوا: أذنبنا أم لم نذنب، ارتكبنا الكبائر أم لم نرتكب، فإننا معذبون سبعة أيام، وهي السبعة التي عبدنا فيها العجل، فهذا الاعتقاد الرديء السيئ حملهم على ماذا؟ على قتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون القسط من الناس، فذبحوا يحيى وذبحوا زكريا -عليهما السلام-، قال الله –سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) [آل عمران: 21 - 22] إلى أن قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [آل عمران: 24] فلذلك يقول العلماء: إن سلطان العلم والخشية من الله أقوى تأثيراً على القلب من سلطان السيوف، فإن السيوف على البدن تستطيع أن تتقيها بأي شيء، لكن الذي في القلب ثابت لا يتغير ولا يؤثر فيه إلا العلم والخشية من الله -سبحانه وتعالى-، قال الله -جل ذكره-: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) [المطففين: 4 - 5] فلو علموا ذلك لضبطوا الموازين حق الضبط.
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 6] كيف يقوم الناس لرب العالمين؟ صح عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أنه قال: "يوم يقوم الناس لرب العالمين يقوم أحدهم يغيب في رشحه" يعني يغرق في عرقه، وفي الحديث الآخر: "تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة كمقدار ميل (لا يدري الراوي أهو ميل المكحلة أو ميل المسافة) فمن الناس من يبلغه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغه العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً" أو كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ-.
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 6] وقيام الناس ليوم القيامة للحساب وحشرهم ليوم المعاد على أشكال وأصناف، فمنهم من يحشر أعمى وأبكم وأصم كما قال تعالى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) [الإسراء: 97]، ومنهم من يحشر مثل النملة في صورة الرجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال يطؤهم الناس بأقدامهم"، ومنهم من يحشر معقوداً عند استه لواء (وهو الغادر) مكتوب على هذا العلم واللواء: هذه غدرة فلان بن فلان" أي التي غدر فيها، ومنهم من يحشر وحية تطوق رقبته وهو مانع الزكاة، ومنهم من يحشر ملبياً قائلاً: لبيك اللهم لبيك وهم الذين ماتوا في الحج، ومنهم من يحشر أغر محجلاً، أي أبيض اليدين والجبهة من آثار الوضوء، ومنهم من يحشر وجروحه تنزف دماً لونها لون الدم وريحها ريح المسك وهم الشهداء، إلى غير ذلك.
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 6] ترد هنا مسألة القيام للقادم، هل يشرع القيام للقادم أو يستحب أو يكره؟
لأهل العلم فيها أقوال: أحدها: أن القيام للقادم مكروه، والآخر: في مقابله أنه مستحب، والثالث الوسط: أن لاستحبابه أوقات ولكراهيته أوقات، أما أوقات استحبابه فإذا كانت هناك مناسبة تدعو إليه، وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال يوم الأحزاب للأنصار لما قدم سعد بن معاذ -رضي َالله عنه- كي يحكم في اليهود قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "قوموا إلى سيدكم"، وردت رواية في إسنادها مقال وهي: "قوموا إلى سيدكم فأنزلوه" ولكنها لا تثبت.
والرواية الثانية الدالة على الاستحباب في المناسبات أخرجها أبو داود بإسناد صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- كان إذا قدم على فاطمة ابنته قامت إليه فقبلته وأجلسته، وإذا قدمت فاطمة عليه قام إليها فقبلها وأجلسها.
والدليل الثالث: هو ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث كعب بن مالك -رضيَ الله عنه- حينما ذكر قصته في التوبة عليه قال: "فانطلقت إلى المسجد فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول فصافحني وهنأني" فهذه دالة على القيام للناس عند المناسبات، وهناك عمومات تشهد لهذا المعنى كالعمومات الواردة في توقير الكبير وإنزال الناس منازلهم، أما ما سوى ذلك فيكره أن يقام للشخص كلما دخل، قال أنس: "كان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أحب الناس إلى أصحابه، وكان إذا دخل عليهم لم يقوموا له لما يعلمون من كراهيته لذلك"، وقد ورد في الباب حديث في حق القادم يحرم عليه أن يحب أن يقوم الناس له، قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "من سره أن يمثل له الرجال" وفي رواية: "أن يتمثل له الرجال" "قياماً فليتبوأ مقعده من النار" وهذا الحاصل في مسألة القيام.
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) [المطففين: 7] وما المراد بكتاب الفجار؟ هو ذلكم الكتاب الذي كتبت فيه أعمال الفجار.
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) أي فهو كتاب مكتوب موضوع في سجين.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ) [المطففين: 8] لتعظيم شأن سجين وتهويل أمرها.
(كِتَابٌ مَرْقُومٌ) [المطففين: 9] ليس معنى قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) [المطففين: 8 - 9] أن (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) تفسير لسجين، سجين شيء وكتاب مرقوم شيء آخر، إنما المعنى: كلا إن كتاب الفجار كتاب مرقوم، أي كتاب مكتوب موضوع في سجين (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ)، هذا هو المعنى، فكتاب مرقوم ليست تفسيراً لسجين وهذا واضح، أما ما هي سجين؟ فهو سجن في الأرض السابعة السفلى، دل على ذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلمَ- الذي رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما- في قصة نزع روح المؤمن وروح الكافر: "أن روح الكافر تصعد فلا تفتح لها أبواب السماء، ويقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى"، فهو سجن في الأرض السابعة السفلى، ومن العلماء من قال: هي النار.
(وَيْلٌ) [المطففين: 10] سبق تفسير (ويل يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المطففين: 10 - 11] المكذبون متعددون؛ فمنهم مكذب بالبعث، ومنهم مكذب بخبر تخبره إياه، لكن المكذبون الذين تُوعدوا بالعذاب الأليم هم المكذبون بيوم الدين. (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) [المطففين: 12-13] أي قصص وحكايات الأولين كتبوها لك يا محمد! وأنت تمليها على الناس، كما قالوا: (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا) [الفرقان: 5] أي طلب من شخص أن يكتبها له (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الفرقان: 5].
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 13 - 14] أي ليس الأمر أيها الكذاب! كما زعمت أنها أساطير الأولين، ولكن أنت وضع الران على قلبك بما كنت تكسب، يعني الكلام الذي يتلوه محمد ليس أبداً أساطير الأولين، ولكن أنت أيها الكذاب الذي وضع ران على قلبك بما كنت تكسب، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ- لما قرأ هذه الآية الحديث الذي تقدم على مسامعكم مراراً: "إذا أذنب العبد ذنباً نكتت على قلبه نكتة سوداء فإن تاب وأقلع محيت، وإن عاد وأصر نكتت نكتة أخرى سوداء حتى يغطى القلب كله، ثم قال: هذا هو الران الذي ذكر الله في كتابه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].
(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين: 15] أي لن يروا ربهم يوم القيامة، فالمفهوم المخالف للآية الكريمة: أن أهل الإيمان يرون ربهم يوم القيامة، وهذا من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، خلافاً للمعتزلة ولسائر الطوائف، فمن أصول الاعتقاد: أن أهل الإيمان يرون ربهم -سبحانه وتعالى- يوم القيامة، قال الله -تعالى-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس: 26]، وقد فسرت في حديث مسلم (وإن كان فيها نوع انتقاد) بأن الزيادة هي: النظر إلى وجه الله -تبارك وتعالى-، وقال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22 - 23] على قول لبعض المفسرين في تفسيرها، وأصرح من هذا وذاك قول جرير بن عبد الله -رضي اَلله عنه- قال: "نظر النبي -صلى الله عليه وسلمَ- إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر"، وفي رواية في الصحيحين: "إنكم سترون ربكم عياناً"، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- سئل: "هل نرى ربنا يوم القيامة يا رسول الله؟! فقال عليه الصلاة والسلام: "هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟" قالوا: لا يا رسول الله! قال: "هل تضارون في رؤية القمر في ليلة صحو؟" قالوا: لا يا رسول الله، قال: "فإنكم سترون ربكم" الحديث المطول وفيه: "فيأتيهم ربهم في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا" الحديث. وفي دعاء النبي -صلى الله عليه وسلمَ- في الحديث الطويل: "وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة".
ومن الطرائف التي ذكرت في هذا الباب: مناقشة جرت بين رجل سني بمدينة صنعاء باليمن وبين رجل معتزلي، فقال السني: إننا سنرى ربنا يوم القيامة وهذه الأدلة على ذلك، قال المعتزلي: لا يُرى الرب أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة، واستدل بقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) [الأنعام: 103]، (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) [الشورى: 51] السني حمل هذه الأدلة على الدنيا؛ لأن الأدلة الواردة في الآخرة ثابتة، فاشتد الجدل بينهما، فقال له العالم السني: نتفق على شيء؟ قال: وما هو؟ قال: نحن سنرى ربنا وأنتم لن تروا ربكم، قال الله -سبحانه وتعالى-: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا) [المطففين: 15 - 16] أي ذائقو (الْجَحِيمِ) [المطففين: 16] ومصليون بها (لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين: 16 - 17] هذا اليوم وهذا العذاب كنتم تكذبون به، كنتم تقولون: (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) [ص: 16] أي حظنا من العذاب (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) [ص: 16].
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ) [المطففين: 18] أي كتاب الأعمال الذي كتبت فيه أعمال الأبرار وهم المطيعون (لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين: 18] أي موضوع في عليين، فعليون في السماء السابعة بنص حديث البراء "اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة"، كلا إن كتاب الأبرار كتاب مرقوم موضوع في عليين (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ) [المطففين: 18 - 19] يعني فرق بين كتاب الفجار الموضوع في سجين في الأرض السفلى، وكتاب الأبرار الموضوع في عليين في السماء السابعة. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ) [المطففين: 19 - 20] أيضاً ليس (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) [المطففين: 20] تفسير للعليين.
(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين: 21] وهنا لفتة طيبة ينبغي أن يقف عندها الشخص وهي: أن كتاب الأبرار الذي كتبت فيه أعمالهم موضوع في عليين في السماء السابعة، ومن الذي ينظر إليه؟ المقربون الذين هم الملائكة، تخيل مثلاً لك ابن في الثانوية والولد نجح بتفوق أتى مائة بالمائة في الرياضيات وفي الإنجليزي خمسين من خمسين وفي الكيمياء خمسين من خمسين، وفي اللغة العربية ستين من ستين، وهكذا، أو لك بنت أتت تسعين في المائة أو خمسة وتسعين في المائة أو مائة في المائة ستأخذ شهادتها وأنت فرح مسرور وتتفرجها على الجرائد تعال انظر بنتي، انظر ابني، جاب كم، وصدرك منشرح، والناس يرون الشهادة، بل وتعلقها على الجدار حتى ينظر إليها الداخلون. فتخيل أين يوضع كتاب الأبرار؟ ليس في غرفة النوم يراه الداخل والخارج، إنما هو موضوع في عليين في السماء السابعة في الجنان، ومن الذي يراه؟ ومن الذي يُطلع عليه؟ الذي يطلع عليه هو الله -سبحانه وتعالى-، انظروا يا ملائكتي! كتاب عبدي، كتاب البر فلان بن فلان، انظروا ماذا كتب فيه؟ يبدأ المقربون يشهدون ما في الكتاب، يفتح صفحة صلوات مائة بالمائة، ذكر مائة بالمائة، كلام طيب مائة بالمائة، حج، عمرة، جهاد، إنكار منكر، شهود جنازات، حفظ لسان، صلة أرحام؛ كلها درجات ممتازة.
فالمقربون هم الذين ينظرون إلى هذا الكتاب الحسن، وهم الذين يتداولونه فيما بينهم، ليس مقرب واحد ينظر إنما يباهي الله -عز وجل- بك الملائكة، انظروا إلى صلاة عبدي، إلى صيام عبدي، هذا من ذرية الذي قلتم لي فيه: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) [البقرة: 30] هذا عبد من عبادي، وليس القول قولكم حينما قلتم: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) [البقرة: 30] لكن هناك من يسبح بحمدي ويذكرني ويشكرني ويصبر على بلائي وينفس عن المكروبين من عبادي، صفحات حسنة في غاية الحسن، وبيضاء في غاية البياض، لو علمت أنت -يا عبد الله- أن الملائكة تطلع على صحيفتك، وتسر بالعمل الصالح الذي تفعله، وتستاء من العمل السيئ الذي يظهر فيها وتقول: يا ليته لم يفعل في هذه الصفحة كذا وكذا، صفحة الصلاة بيضاء يا ليته لم يشبها بكذا وكذا، صفحة صلة الأرحام بيضاء يا ليته لم يقطع قريبه فلاناً فقد ترك نكتة هنا سوداء يا ليتها تمحى، فهكذا إذا اعتقد الشخص هذا الاعتقاد الصحيح ضبط مسيرته واستحيا من ربه واستحيا من ملائكة الله -عز وجل-.
(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين: 21] طبعاً هم يستغفرون لك إذا وجدوا شيئاً مشيناً كما قال الله -سبحانه-: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ) [غافر: 7 - 9] هكذا الملائكة تدعو لك هذا الدعاء، أما إذا لم تكن من أولياء الله ولا من الأبرار بل كنت من الفجار فمن يدعو لك؟ تخيل من يدعو لك إذا كنت شقياً: (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص: 42] حتى صاحبك الفاجر لم يدع لك بل يدعو عليك: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) [الأعراف: 38] -والعياذ بالله-.
قال الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) [المطففين: 22] اشتملت السورة على ثلاثة أصناف: فجار، وأبرار، ومقربون، كما اشتملت سورة الواقعة على الأقسام الثلاثة: (وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة: 7 - 11]، وهنا في هذه السورة ثلاثة أصناف: الفجار والأبرار والمقربون. والأبرار في كثير من الأحيان تأتي بمعنى: المقربين، يعني إذا جاء ذكر الأبرار في سياق مستقل دخل فيه المقربون كما قال أهل الإيمان: (وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ) [آل عمران: 193]، فالأبرار هنا شملت المقربين وشملت أصحاب اليمين، لكن إذا جاء ذكر الأبرار مقترناً بذكر المقربين يكون الأبرار أنزل درجة من المقربين، فالله -سبحانه وتعالى- يقول: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين: 18] إلى قوله: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) [المطففين: 22 - 23] الأرائك هي الأسرة، والأسرة جمع سرير، فمعناها الأسرة في الحجال، والحجل جمع حجلة، والحجلة تعني عند الناس في الدنيا الناموسية يعني: الأسرة عليها ناموسية أو عليها خيمة فتسمى الأسرة في الحجال، فهذه الأريكة.
(عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) [المطففين: 23] ينظرون إلى ماذا؟ ينظرون إلى إخوانهم في الجنان، وأحياناً لتتميم النعمة يطلعهم الله -سبحانه وتعالى- على بعض قرناء السوء وهم في النار، يعني الرجل الذي في الجنة أحياناً يطلع على منظر في النار حتى يشكر نعمة الله عليه كما في الحديث: "هذا مقعدك لو مت على غير الإسلام"، وفي الآية الكريمة: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ) [الصافات: 50 - 51] من أهل الجنة اذكروا يا أصحابي (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) [الصافات: 51] أي كان لي صاحب ملحد في الدنيا، وهذا الصاحب الملحد كان يقول لي ماذا يا جماعة؟ (أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات: 52 - 53] أي مجزيون ومحاسبون، كان لي في الدنيا صاحب ملحد قرين سوء يقول لي: لا تصدق أبداً هذا الكلام الذي يقولونه أنك ستحاسب، وبعد أن تكون تراباً وعظاماً تبعث! فيريه الله صاحبه هذا في النار قال الله -سبحانه-: (فَاطَّلَعَ) [الصافات: 55] أي فنظر (فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) [الصافات: 55] يعني في وسط الجحيم، السواء هنا، الوسط؛ كما قال حسان:
يا ويح أصحاب النبي ورهطه *** بعد المغيب في سواء الملحد
فالسواء، الوسط (فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ) [الصافات: 55 - 56] أي والله (إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) [الصافات: 56] يعني كنت ستوقعني في مصيبة وتهلكني (وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات: 57] يعني كنت سأنال نفس الجزاء معك لولا أن الله -عز وجل- منَّ علي.
فقوله سبحانه: (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ)" [المطففين: 23] ينظرون إلى ما هم فيه من النعيم، وينظرون إلى إخوانهم المؤمنين، وينظرون أحياناً إلى من في النار حتى يزداد شكرهم وحمدهم لله -سبحانه وتعالى-.
(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين: 24] يعني أثر النعمة ظاهرة على الوجه، فقد تجد شخصاً أثر النعمة ظاهرة على وجهه، وآخر أثر الشقاوة ظاهرة على وجهه في الدنيا، فقد ترى أبناء الملوك أو المنعمين بادية عليهم أثر النعمة، والأشقياء كذلك، فأهل الجنة تعرف في وجوههم نضرة النعيم.
(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) [المطففين: 25] الرحيق: الخمر، والمختوم فيه أقوال: أحد الأقوال أن مختوم، أي مغلق بختم، يعني مغلق تماماً لم يقترب منه أحد (رَحِيقٍ مَخْتُومٍ)، (خِتَامُهُ مِسْكٌ) [المطففين: 26] يعني إذا شربته لم تشعر بعد شربه برائحة الخمر السيئة إنما يشم منك بعد شربه رائحة المسك، فإن قال قائل معترضاً على هذا القول: إن الله -سبحانه وتعالى- وصف شراب الجنة بأنه أنهار وليس في أكواب، ففي شراب الجنة: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ) [محمد: 15] فكيف تقول: إنها كئوساً مغلقة وهي أنهار مفتوحة؟
الإجابة: إنه لا يمتنع أبداً أن يكون هناك أنهار من الخمر وأيضاً كئوس مغلقة، الذي يريد أن يشرب من النهر شرب، والذي يريد أن يشرب من الكأس المغلق شرب، لا مانع أبداً من أن تتعدد صنوف النعم يوم القيامة، هذا القول الأول في تفسير المختوم، يعني: مغلق لم يقترب منه أحد، وبعد أن تشربه تشعر برائحة المسك.
ومن العلماء من قال: هو مغطى في الأصل بطبقة مسك، أي الغطاء الذي غطي به مسك إذا جئت تفتحه وجدت ذلك. ومنهم من قال: ختامه مسك، أي ممزوج، ففسر (مختوم) بـ (مخلوط).
(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26] أي في مثل هذا النعيم ينبغي أن يكون التنافس؛ كما قال تعالى: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات: 61] فلا يكون التكالب على الدنيا والتنافس في الترقية، بل (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ) [المطففين: 27] أي خليط الرحيق (مِنْ تَسْنِيمٍ) [المطففين: 27] يعني هذا الخمر مخلوط بشيء آخر غير المسك، (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) [المطففين: 27] يعني مخلوط بشراب من تسنيم، وما هي التسنيم؟ قال الله –سبحانه-: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا) [المطففين: 28] يعني يشرب منها، فالباء مع من تتبادلان، وأحرف الجر تتناوب. فهناك عين يقال لها: تسنيم، هذه العين (التي هي التسنيم) هي شراب المقربين خاصة، لكن يؤخذ منها شيء ويصب على الرحيق ويعطى الرحيق لأصحاب اليمين، فكما قال ابن مسعود وغيره: "يشرب بها المقربون صرفاً، يعني خالصة، وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً، يعني الأبرار الذين هم أصحاب اليمين يسقون من رحيق مختوم مزاجه (أي خليطه) من تسنيم، مثلاً تشرب في الدنيا الشاي على اللبن أو الشاي فقط، اللبن مثلاً للمقربين والشاي لمن دونهم، ونحو هذا المعنى ورد في سورة الإنسان: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا) [الإنسان: 5] أي خليطها (كَافُورًا) [الإنسان: 5] ما هو الكافور؟ (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) [الإنسان: 6] يعني المقربين، (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) [الإنسان: 6]، قال الله سبحانه: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا) [المطففين: 28] أي منها (الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين: 28]، وهم أصحاب أعلى الدرجات في الجنان.
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) [المطففين: 29] أي في الدنيا وهذا شيء مطرد، فأهل الإجرام دائمو السخرية من أهل الإيمان (كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) [هود: 38] نوح -صلى الله عليه وسلمَ- سخر منه قومه، وابن آدم بمجرد أن تُقبل القربان من أخيه قال: "لأقتلنك"، ما له أي ذنب إلا أن القربان تقبل منه، ووصف الرسول بالسحر والجنون، وأوذي إبراهيم وموسى، وعيسى -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، فقال ورقة بن نوفل لرسول الله: "لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي"، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا) [إبراهيم: 13]، وقال الله -سبحانه- أيضاً في سورة المؤمنون: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي) [المؤمنون: 110] يعني جلستم تسخرون من أهل الإيمان حتى أنستكم سخريتكم منهم كتابي وقرآني، فالله يقول: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ) [المطففين: 29 - 31] يرجع الكافر إلى زوجته يضحك معها ويسخر: السني عمل اليوم كذا، محمد بن عبد الله عمل كذا، وعلي بن أبي طالب وعمر، يجلس يتفكه على رسول الله وعلى أصحاب رسول الله وعلى المؤمنين برسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-.
(وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ) [المطففين: 31] مرحين.
(وَإِذَا رَأَوْهُمْ) [المطففين: 32] قابلوهم في الطرق (قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ) [المطففين: 32] يقول أحدهم: انظر إلى هذا المجنون الذي يقول لك: إن هناك بعثاً! انظر التارك مناصب الدنيا بما فيها ويقول لك: أنا تركتها لوجه الله، ويسخر!
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) بالمطففين: 29]، (وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ) [المطففين: 30 - 32]، فالله يقول: (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) [المطففين: 33] يعني دعوهم وشأنهم؟ هل أنت بعثت على عبادي رقيباً؟ هل هناك أحد طلب منك أن تقول رأيك فيهم أصلاً؟ (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) [المطففين: 33] وما أرسلوا عليهم رقباء، يعني أنت يا مجرم! ما أحد قال لك: راقب عبادي واحسب عليهم أعمالهم، فخلوهم في شأنهم، إذا كنت لا تريد أن تعتنق هذا الطريق اترك عبادي فما أرسلت عليهم حفيظاً (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) [المطففين: 33].
(فَالْيَوْمَ) [المطففين: 34]؛ لأن الجزاء من جنس العمل (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [المطففين: 34] دائماً الجزاء من جنس العمل (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَ
التعليقات