عناصر الخطبة
1/عظمة أخلاق النبي -عليه الصلاة والسلام- 2/ترك ما لا يعني من أخلاق الإسلام 3/أقوال أهل العلم في هذا الخلق 4/نصيحة لمن ابتلي بهذا الداء 5/ من آفات التدخل فيما لا يعني.اقتباس
من الناس من إذا رأى اثنين يتحدَّثان اقترب إليهما؛ ليسمعهما تطفلاً, أو رأى قادماً أسرع إليه وسأله عمَّا لا يعنيه: من أين جئت؟, وماذا قال فلان, وماذا قلتَ له؟, وغير ذلك من الأمور الخاصة, فيا من هذه صفته: اترك ما لا يعنيك؛ فإنَّه لا نفع فيه, بل قد يضرُّك...
الخطبة الأولى:
الحمد لله, أمر عباده بالأخلاق الحسنة ونهاهم عن سيئها, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليماً, أمَّا بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون-, قال -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ)[النساء: 131].
عباد الله: إنَّ الإسلام حثَّ على كل خلق حسن, ونهى عن كل خلق سيء, وأفضل الناس وأزكاهم وأحسنهم خُلُقاً هو نبينا -صلى الله عليه وسلم- وقد "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ", ووصفه الله بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4], قال علي -رضي الله عنه-: "الْخُلُقُ الْعَظِيمُ هُوَ أَدَبُ الْقُرْآنِ, وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ مَا وَصَفَ بِهِ الْقُرْآنُ مَحَامِدَ الْأَخْلَاقِ"(التحرير والتنوير 29/ 64).
عباد الله: من الأخلاق الحسنة ترك ما لا يعني, قال -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"(أخرجه الإمام أحمد وصححه الألباني).
وهذا حديث عظيم في الأدب الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم, وهو من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-, وقد عدَّه الدارقطني -رحمه الله- من أصول أحاديث الإسلام الأربعة, وإنَّ من سوء الخلق التدخل فيما لا يعني من أمور الناس وخصوصياتهم, قال السعدي -رحمه الله-: "مفهوم الحديث: أنَّ من لم يترك ما لا يعنيه؛ فإنَّه مسيءٌ في إسلامه, وذلك شامل للأقوال والأفعال المنهيِّ عنها نهيَ تحريمٍ أو نهيَ كراهة"(بهجة قلوب الأبرار ص: 153).
وقال الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: "فَإِذَا خَاضَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ؛ نَقَصَ مِنْ حُسْنِ إسْلَامِهِ فَكَانَ هَذَا عَلَيْهِ"(مجموع الفتاوى 7/ 50), وقال ابن القيم عند هذا الحديث: "فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي مِنَ الْكَلَامِ, وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْبَطْشِ وَالْمَشْيِ وَالْفِكْرِ, وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ"(مدارج السالكين 2/ 23-24), وقال ابن رجب -رحمه الله-: "إِذَا حَسُنَ الْإِسْلَامُ اقْتَضَى تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي كُلَّهُ؛ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُشْتَبِهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ, وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَعْنِي الْمُسْلِمَ إِذَا كَمُلَ إِسْلَامُهُ"(جامع العلوم والحكم 1/ 289).
عباد الله: كلَّما تدخَّل المرء فيما لا يعنيه؛ فإنَّه يغفل عمَّا يعنيه, فيضيع وقته وينشغل بما لا ينفعه, ويقترب مما يضرُّه, قال ابن القيم -رحمه الله-: "من فكّر فِيمَا لَا يعنيه فَاتَهُ مَا يعنيه, واشتغل عَن أَنْفَع الْأَشْيَاء لَهُ, بِمَا لَا مَنْفَعَة لَهُ فِيهِ"(الفوائد لابن القيم ص: 175).
يا من ابتليت بالتدخل فيما لا يعنيك: جاهد نفسك إصلاحاً وتقويماً؛ حتى تنشغل بما يعنيها عمَّا لا يعنيها, "يُقَالُ: أَصْلُ الْوَرَعِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْمَرْءُ قَلْبَهُ؛ لِكَيْ لَا يَتَفَكَّرَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، فَكُلَّمَا ذَهَبَ قَلْبُهُ إِلَى مَا لَا يَعْنِيهِ، عَالَجَهُ حَتَّى يَرُدَّهُ إِلَى مَا يَعْنِيهِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْجِهَادِ وَأَفْضَلُهُ وَأَشْغَلُهُ لِصَاحِبِهِ"(تنبيه الغافلين للسمرقندي ص: 572).
عباد الله: من الناس من إذا رأى اثنين يتحدَّثان اقترب إليهما؛ ليسمعهما تطفلاً, أو رأى قادماً أسرع إليه وسأله عمَّا لا يعنيه: من أين جئت؟, وماذا قال فلان, وماذا قلتَ له؟, وغير ذلك من الأمور الخاصة, فيا من هذه صفته: اترك ما لا يعنيك؛ فإنَّه لا نفع فيه, بل قد يضرُّك.
لقافةُ المرءِ سوءٌ من الأدب *** فيها التطفل عنوانٌ لذي السفه
قال في موارد الضمآن: "لَوْ تَتَبَّعْت أَكْثَرَ الْمَشَاكِل وَالْمُنَازَعَاتِ, وَالْمُخَاصَمَاتِ وَالْمُجَادَلاتِ, لَوجَدْتَ سَبَبَها الْوَحِيدَ التَّدَخُلُ فِيمَا لا يَعْنِي"(موارد الظمآن لدروس الزمان 6/ 392), وقِيلَ لِلُقْمَانَ: مَا حِكْمَتُكَ؟ قَالَ: "لَا أَسْأَلُ عَمَّا كُفِيتُ, وَلَا أَتَكَلَّفُ مَا لَا يَعْنِينِي"(الصمت لابن أبي الدنيا ص: 96).
عبد الله: من سألك عمَّا لا يعنيه فلا تجبه, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- لِمَوْلَاهُ عِكْرِمَةَ: "اذْهَبْ فَأَفْتِ النَّاسَ وَأَنَا لَك عَوْنٌ، فَمَنْ سَأَلَك عَمَّا يَعْنِيهِ فَأَفْتِهِ، وَمَنْ سَأَلَك عَمَّا لَا يَعْنِيهِ فَلَا تُفْتِهِ؛ فَإِنَّك تَطْرَحُ عَنْ نَفْسِك ثُلُثَ مُؤْنَةِ النَّاسِ"(إعلام الموقعين عن رب العالمين 2/ 128).
"ودُخِلَ عَلَى أَبِي دُجَانَةَ -رضي الله عنه- وَهُوَ مَرِيْضٌ، وَكَانَ وَجْهُهُ يَتَهَلَّلَ, فَقِيْلَ لَهُ: مَا لِوَجْهِكَ يَتَهَلَّلُ؟ فَقَالَ: مَا مِنْ عَمَلِ شَيْءٍ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنِ اثْنَتَيْنِ: كُنْتُ لاَ أَتَكَلَّمُ فِيْمَا لاَ يَعْنِيْنِي, وَالأُخْرَى فَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِيْنَ سَلِيْماً"(سير أعلام النبلاء 1/ 243).
ومن آفات التدخل فيما لا يعني: أنَّه سبب لحصول المشاكل والخلافات, وقطيعة الرحم والمنازعات, وبغض الناس لمن يتدخل في شؤونهم, وقد يسمع منهم ما لا يرضيه, وأنَّه علامة على قسوة القلب, وعدم التوفيق والفلاح, قال الحسن -رحمه الله-: "مِنْ عَلَامَةِ إِعْرَاضِ اللهِ عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ شُغُلَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ"(شرح الزرقاني 4/ 399).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم لسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ, فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
التعليقات