عناصر الخطبة
1/ تبت يدا أبي لهب وتب؛ مفاهيم وأسس 2/ أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم وعدوه الأول 3/ براءة المرسلين من أقربائهم الكافرين 4/ الشرع لا يحابي أحدا 5/ قصة نزول سورة المسد 6/ دفاع الله عن أوليائه وسخطه على أعدائه 7/ دروس وعبر من سورة المسد.اقتباس
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ لماذا اشتد سخط الله على أبي لهب؟ ألفاظ الآيات كلها وعيد وتقريع؛ تبت وتبت وسيصلى ونارا ولهب ولهب؛ كلها تظهر عظيم سخط الله على أبي لهب وأمثاله؛ افتتحت السُّورَة بالتباب، أي: بالخسارة والهلاك تبت يدا؛ خصّ اليدين بالتباب، ثم أعاد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدا رسول الله، وبعد:
عباد الله: هذه السورة بآياتها العظيمات تصف لنا مشهداً من مشاهد الدعوة ومسيرتها الحافلة بالآلام والقروح، هذه السورة تصف لنا مشهدا واقعيا لا تمثيليا، هذه السورة حاملة لمفاهيم كبرى لا بد لها أن تُصَحّحَ في الأذهان، وناقلة لعِبَرٍ شتّى لا بد لها أن تَسْتقرَّ في القلوب، هذه السورة بآياتها العظيمات شاءت حكمة الله أن تنزل بهذا الوعيد وبهذه الأسماء؟ فلماذا؟
عباد الله: قال ربنا الجليل: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) [المسد: 1]؛ تَبَّتْ يَدَا- مَنْ؟- أَبِي لَهَبٍ ومن أبو لهب؟ إنه عمُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واسمه: عبد العُزّى بن عبد المطلب عمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتوعّده الله؟ وهو العمّ الوحيد من أعمام النبي الذي ذكره الله باسمه في القرآن.
لماذا؟ ليقول الله للمسلمين وللكافرين وللدنيا بأسرها: إنّ قيمة النّسب والقرابة والوساطات تسقط عندي في الآخرة، وأنت لا قيمة لك حتى ولو إنك كنت ابنَ نبي، قال الله عن بيه نوح: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود: 45]؛ فردّ الله عليه: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) [هود: 45]، ولو كنت والدَ نبيٍّ، قال الله عن إبراهيم: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: 114].
لا قيمة لك ما لم تكن متبعا لهذا النبي. قال ربك العدل: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) [المؤمنون:101]؛ ولذلك قال نبيك -صلى الله عليه وسلم- لابنته الغالية عليه كما في البخاري: "يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِى نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فإني لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا".
عباد الله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ لماذا اشتد سخط الله على أبي لهب؟ ألفاظ الآيات كلها وعيد وتقريع: تبت وتبت وسيصلى ونارا ولهب ولهب؛ كلها تظهر عظيم سخط الله على أبي لهب وأمثاله؛ افتتحت السُّورَة بالتباب: أي بالخسارة والهلاك تبت يدا: خصّ اليدين بالتباب، ثم أعاد وتبّ: أي جَمِيعِهِ لا يديه فقط؛ إِغْلَاظًا فِي شتمه وتقريعه، ثم توعده: (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ)، وَالسِّينُ لِلتَّحْقِيقِ، وَ(يَصْلَى) يُشْوَى، أي: نار ذاتَ شرر وتوقد ولهيب وإحراق شديد ستحيط به.
أيها المؤمنون: بلقاء الله العظيم: لماذا اشتد سخط الله على أبي لهب وأمثالِه؟ لماذا سيصلى نارا ذات لهب هو وأمثاله؟ لماذا؟ هل فقط لأنه كان كافرا أو مشركا أو عاصيا؟ لا؛ فمثله كثير. إذن لماذا؟ لأنه عادى حاملَ الدعوة الأوّلَ نبيَّ الله محمداً -صلى الله عليه وسلم-، عاداه جهارا نهارا، أمام الناس، عاداه أمام الجماهير. جاء في كتب السنن والتفاسير عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد الصفا، "فَنَادَى يَا صَبَاحَاهْ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَ أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي" قالوا: نعم. ما جربنا عليك كذباً قال: "فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد"؛ فقام أبو لهب ينفض يديه، وقال له: تبّا لك. ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ).
خرج من بين الجمع يظهر بطولته، بطولة لكن على مَنْ؟ على داعية مستضعف، بطولة ولكن على ماذا؟ على دعوةٍ وإسلامٍ لا بواكي لهما، وهكذا تجد أعداء الله دائما يخرجون من بين الجماهير وعلى شاشات الإعلام يقذفون حملة الإسلام ويشوشون عليهم، لئلا يتأثر الناس بكلامهم، ويعتدون عليهم لأنهم يعلمون أنهم مستضعفون، ولكن نسي أبو لهب كما ينسى أمثاله وأتباعه في كل عصر، أن ربك العظيم الجليل قد قال قولا لا معقب له في الحديث القدسي في صحيح البخاري: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ".
أيها المؤمنون بلقاء الله العظيم: لماذا اشتد سخط الله على أبي لهب وأمثالِه؟ لماذا سيصلى نارا ذات لهب هو وأمثالُه؟ لماذا؟ لأنه استمر في معاداة الدعوة وتفنن في معاداة حملة الإسلام، روى الإمام أحمد: عن ربيعة بن عباد، قال: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحولُ ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب؛ فلا تسمعوا له ولا تتبعوه.
وهذا هو صنيع أعداء الدعوة؛ إنهم لا يكتفون بموقف واحد، بل يتفننون في العداء: لم يكتف بمثل هذا الموقف، بل كان يتتبعه، يلحق به، كان يتابع مسيرته وهو يسير من أجل الله من أجل الدعوة إلى الله ليشوه دعوته وينقص من قدره، كان يستغل نفوذه وسمعته ومكانته في قريش ليدعم بها كلامه ومصداقيته؛ يقول للناس أنا عمّه والناس تعرف أن أبا لهب من وجهاء القوم؛ فيكون ذلك ادعى ليصدقه الناس.
وهكذا هم أعداء الله وأعداء دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل زمان وأعداء الدعاة إلى الله وأعداء الدعاة إلى دعوة رسول الله في كل زمان ومكان، يتتبعون حملة هذا الدين في كل موقع وزمان ومكان، يسعون لتشويه دعوتهم وكتاباتهم ومقالاتهم وكتبهم مستخدمين كل وسيلة ممكنة من وجاهة ونفوذ ومكائن إعلامية، كلّ هذا تخذيلا للدعاة وللدعوة إلى الله انظر إلى غضب الله، (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) [هود:18-19].
أيها المؤمنون: بلقاء الله العظيم: لماذا اشتد سخط الله على أبي لهب وأمثاله؟ لماذا سيصلى نارا ذات لهب هو وأمثاله؟ لماذا؟ لأنه لم يقصّر؛ فقد استخدم أمواله وتجارته وأرباحه وأولاده لمعاداة الدين، وهذا ما يصنعه أعداء الله ورسوله من العرب ثم من الغرب، (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) [المسد: 2]، أَيْ: لَا يُغْنِي ما جمع من المال، ولا ما كسب من الولد والجاه فِي دَفْعِ شَيْءٍ عَنْهُ من عذاب الله فِي الْآخِرَةِ.
ولذلك غالبا من أسباب تمكن الطغاة في معادة الحق وأهله هو غناهم وأموالهم ونفوذهم وجاههم وأولادهم، ولكن لن يغنوا عنك من الله شيئا، تذكر ذلك يا من تعادي دعوة الإسلام ودعاة الإسلام، تذكر: مالُك تاركَهُ كله ومحاسب عليه كله، ومنصبك هو تاركك وستسأل عنه، وأولادك، إنْ لم تقهم النار سيدفعون بك إلى النار.
أيها المؤمنون بلقاء الله العظيم: لماذا اشتد سخط الله على أبي لهب وأمثاله؟ لماذا سيصلى نارا ذات لهب هو وأمثاله؟ لماذا لأنهم لا يكتفون بعداوة حملة الدين بذواتهم بل يستحضرون أعوانا لهم من شتى الجنسيات والأجناس والأنجاس والأرجاس، حتى ولو كانوا نساء، نعم نساء، (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) [المسد:4]؛ وَعِيدٌ من الله القوي العزيز، وعيد لامْرَأَة أبي لهب، لانْتِصَارِهَا لِزَوْجِهَا، وبغضها لحامل الدعوة الأولِ سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال ربك: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)؛ انتبه، -أيها المسلم- وافقه كلام الله؛ فالله هنا لم يقبل أن يقال إنها كانت عبدة مأمورة من قبل زوجها، لم يقبل أن يقال؛ إنها أنثى رقيقة ماذا يمكن أن تعادي، ولم يقبل أن يقال تأثرت بزوجها؟ اسمع إلى الميزان الحق، (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)، أي: وامرأته ستصلى نارا ذات لهب وستحمل الحطب في نار جهنم، ولكن لماذا تحمل الحطب.
يقول العلماء: لما كانت زوجة أبي لهب عونًا لزوجها على معاداة الدعوة؛ فإنها تكون يوم القيامة عَونًا عليه في عذابه في نار جهنم، (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)؛ تَحْمِلُ الْحَطَبَ فِي جَهَنَّمَ لِيُوقَدَ بِهِ عَلَى زَوْجِهَا، فجَعَلَ شِدَّةَ عَذَابِهِ عَلَى يَدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ. ولذلك يدعو الأتباع يوم القيامة على أسيادهم قائلين: (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) [الأحزاب:68].
ماذا ينتظرك يا أم لهب وماذا ينتظر أمثالك، أيتها السيدة الجميلة عدوة الإسلام والمسلمين، ماذا ينتظرك أيتها الإعلامية الرشيقة. أيتها الكاتبة الخبيرة، يا صاحبة القلم السليط واللسان اللئيم على حملة هذا الدين، أيتها الساعية لا على الأرامل والمساكين بل على إيذاء الدعاة والعلماء المخلصين.
ماذا ينتظرك: استمعي إلى من لا معقب لحكمه: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) [المسد:5]، في عنقها الذي كانت تزخرفه في الدنيا بالقلائد الذهبية الجميلة، الآن استبدل بحبل من مسد النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الواحد الأحد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أيها المؤمنون بلقاء الله العظيم: وختاما؛ سمع أبو لهب ذلك الوعيد لمن يعادي الدعوة والدعاة، ولكنه صمّ آذانه عن أن يستمع، ومنعه كبره ومنصبه وجاهه من أن يخضع وينتفع، وحالت مصالحه الزائلة من أن يتوقف ويمتنع، حتى فاجأه الموت وارتحل، ليقابل ربا غضبانَ شديدَ العقاب، وكذلك الحال اليوم، هم أتباع أبي لهب، وهن تابعات أم لهب، يستمعون وعيد الله لمن يقف في طريق دعوة الإسلام، ولمن يؤذون حملة الإسلام، ولكن نفسيةَ أبي لهب تقبع داخلهم، وروح أمَّ لهب تسري في عروقهن؛ فلا ينتفعون ولا يتوقفون حتى يرتحلوا إلى ربهم غير مأسوف عليهم، ليجدوه غاضبا عليهم لاعِناً لهم قد أعدّ لهم نارا ذات لهب.
أيها المؤمنون بلقاء الله العظيم: ويبقى السؤال: ماذا استفاد أبو لهب من عدائه للدعوة وحملتها، وما تستفيدون اليوم يا من تعادون الدعوة وحملتها؟ ماذا؟ إلا غضب الجبار؟ ماذا استفاد أبو لهب وأتباعه؟ أما علموا أن هذه الدعوة هي دعوة الله (له دعوة الحق) هو راعيها وحافظها ومولى أصحابها وحملتها، ستمضي الدعوة بإذن الله إلى يوم القيامة، وأما أنتم فستنقطع بكم آجالكم لتلقيكم في حفرة من النار في باطن الأرض، (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) [الزمر:31].
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة.
التعليقات