عناصر الخطبة
1/ احترام النبي الكريم لإعداد الأسباب في الهجرة 2/ شبهة استخدام السيف بعد الهجرة 3/ التشريعات قبل الهجرة 4/ شبهة أن القرآن المكي أبلغ من المدني 5/ الغزو الثقافياهداف الخطبة
اقتباس
ولا أريد أن أستعرض القرآن كله لأبين أن مكيَّهُ تمهيد لمدنيِّهِ، وأن مدنيه تصديق لمكيه، وأن مسلك الإسلام بعد الهجرة هو مسلكه قبل الهجرة، وأنه الدين الذي اخترع في العالم الحرية الدينية، وبسط رعايته على من يعارضونه فما أحرجهم، ولا اضطهدهم، ولا استذلهم، ولا نال منهم قليلا ولا كثيرا؛ ولكن هناك من على أبصارهم وبصائرهم حُجُبٌ يريدون أن يكذبوا، وأن يزوروا التاريخ، وأن يقولوا للناس كلاما لا أصل له في تصور الإسلام وتصويره للأمور ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فلا تزال بقايا من قصة الهجرة تحتاج إلى تجلية، ولا تزال عِبَرٌ في هذا الحادث الضخم ينبغي أن نقف بإزائها؛ حتى نصلح على ضوئها حاضرنا، فنحن ما نذكر تاريخنا الماضي - قصصه وأحداثه- إلا لنقتبس منه أضواء تحدد لنا الهدف، وتجنبنا الزلل.
أول ما نوجه النظر إليه في حادث الهجرة قانون السببية الذي تحدثنا عنه كثيرا، إن هذا القانون فرض نفسه في الهجرة، لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إنني ومَن معي أوذينا في الله طويلا، وقد أخرجنا من ديارنا كرها، فعناية السماء يجب أن تلاحقنا، ولا حرج من بعض التفريط أو بعض التواكل، فإن الله يجبر الكسر، ويكمل النقص؛ لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئا من هذا، وإنما وضع الخطة كاملة، كل ما يمكن أن يصنعه الإنسان العادي ليتجنب الأخطار، وليبتعد عن مكايد العدو فعله النبي -عليه الصلاة والسلام-، ما ترك ثغرة، ولا أبقى في خطته مكانا يكمله الذكاء؛ فعل ما في طوق البشر.
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما سمع بالطاعون في الشام أبى أن يدخل البلد الذي قصد أن يدخل إليه، فقال له أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-: أتفر من قدَر الله؟ فغضب عمر غضبا شديدا، وقال: يا أبا عبيدة: لو غيرك قالها! أفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو أن عندك قطيع غنم فتركت المكان المجدب إلى المكان الخصب، ألم تتركه بقدر الله إلى قدر الله؟.
هذا المعنى يشرحه حديث آخر، فقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: "هي من قدر الله". والرقية: دعاء المريض لنفسه بالشفاء، أو تلاوته بعض سور القرآن للاستشفاء ببركتها، كما صح من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما "قل هو الله أحد" و "وقل أعوذ برب الفلق" و "قل أعوذ برب الناس" ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات".
اتخاذ الأسباب إذن دين، وهذا هو الذي جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفكر في الاختباء في الغار، وفى تضليل أعدائه، فكان يتجه جنوبا وهو يريد أن يتجه إلى الشمال، وفى اتخاذ راحلتين قويتين مستريحتين حتى تتمكنا من السفر، وتحمُّل وعثاء الطريق، وطول المدة؛ واتخاذ دليل مدرَّب حتى يعرف ما هنالك من وجوه الطرق والأماكن التي يمكن التعرج عليها بعيدا عن الأرصاد المبثوثة هنا وهناك، وكيف يضلل من يبحثون عنه.
قضية السببية قضية فرغ الإسلام منها، قرر أنها حق؛ لكن موقف المؤمن والكافر من السبب يختلف بعد ذلك، فالمؤمن بعد أن يتخذ الأسباب كاملة لا يعول عليها، ولا يربط نفسه بها، ولا يظن أنها هي التي تفعل أو تترك، بل يؤمن بأن الأمور بيد الله، وأن النتائج تتم بقدرة الله، وأن هناك أسبابا أخرى ليست في يد الإنسان، الله جل شأنه هو الذي يوفرها ويكثرها لمن أراد أن ينجح قصده.
ولذلك قارن العلماء بين موقفين للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: في الغار عندما أحس أقدام المطاردين تقترب، وعندما بدأ أبو بكر -رضي الله عنه- يقلق ويشعر بالوجل، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسكن روعه، ويبدد قلقه، ويقول له: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟".
قال العلماء: هذا الموقف يغاير الموقف في معركة "بدر" عندما أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يتجه بقلبه ولبه إلى الله في ضراعة حارة، ودعاء متتابع، واستغاثة موصولة، يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض"، فمازال يهتف بربه مادَّاً يديه، مستقبلا القبلة، حتى سقط رداؤه من منكبيه، فأتاه أبو بكر وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
قال العلماء: ما السبب في تفاوت الموقفين هنا وهناك؟ وكان الجواب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار كان قد اتخذ الأسباب كلها، وأفرغ ما في طاقته عمليا، فاطمأن إلى أن الله هو الذي سيكفله، وهو الذي سيحقق ما يصبو إليه من أمل في إنجاح الهجرة، وبلوغها غايتها. أما في "بدر" فإن الأسباب لما تكتمل من ناحية، وربما تعلقت الهمة بها، وعولت عليها، وانتظرت النصر منها، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتجرد من هذه الأسباب، من الجيش الذي خرج إلى القتال، من العدو أو العدة اللتين أحاطا به -عليه الصلاة والسلام-، فكان دعاؤه، وكانت استغاثته، وكانت ضراعته، وكان استنصاره بالله -جل جلاله-.
الفارق بين المؤمن والكافر أن كليهما يأخذ بالسبب، أما نحن المؤمنين فإننا نرى أن الأسباب أدوات للقدرة العليا، ومفاتيح لخزائن الرحمة الإلهية، وأن أي شيء انقطع عنه الإمداد الأعلى فإنه لا يصنع شيئا ويتوقف في مكانه. أتظن الأرض وهى تدور حول نفسها لا تتخلف دقيقة عن ميعادها في شروق أو غروب، ألديها ساعة تضبط بها الوقت؟ أترى وهى تدور حول الشمس لديها أجنحة تطير بها، أو مخزون من البترول أو الكهرباء يعينها على السرعة في جريها؟ لا شيء! إنها قدرة الله هي التي تحرك الأسباب علوا وسفلا.
فإذا كان الإنسان يقوم بالسبب ثم ينتظر من رب العالمين أن يحقق النتيجة؛ فتلك طبيعة علمية ما ينبغي أن يكابر امرؤ فيها، المؤمن يأكل الخبز ثم يعلم أن استفادة جسمه من هذا الخبز ليس لأن في ذرات الدقيق عقلا يحولها إلى عظم وعصب وقوة وطاقة! لا، هذا كله صنع الله. أما المادي فيتصور أن هذه الأسباب تتحرك تلقائيا بذكاء في الدقيق، أو بقدرة عقلية في الرغيف! هذا هو الفارق بين المؤمنين وغير المؤمنين. أما الأسباب فاتخاذها دين.
مما نذكره في قصة الهجرة أن ما قبل الهجرة وما بعده سواء في قضية عرض الإسلام، بعض الناس يقول -وقد أكد هذا مستشرقون ومبشرون وسماسرة لهما- كانت الدعوة الإسلامية قبل الهجرة تعتمد على الإقناع المجرد، وعلى التفكير الحر، وعلى رفض الضغط في جعل الناس يعتنقون ما يشاؤون من عقائد، أما بعد الهجرة، وبعد أن تماسك السيف في أيديهم فقد أخذوا يحكمون السيف، ويبتعدون عن منهج العقل!.
هذا كلام يحتاج إلى أن نناقشه، صحيح أن الدعوة قبل الهجرة كانت تعتمد على الإقناع الحر، وعلى المنطق العقلي الواعي، وعلى ترك المعارضين يأخذون طريقهم كما استحبوا لأنفسهم، ففي سورة الأنعام، وهى مكية، نقرأ قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) [الأنعام:104]، وفي سورة الكهف، وهى مكية، نقرأ قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29]، وفي سورة يونس وهى مكية- نقرأ قوله تعالى: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس:41].
هذا منطق الإسلام في مكة فهل تغير هذا المنطق في المدينة؟ الجواب على هذا يتقاضانا أن ننظر في الوحي الذي نزل في المدينة لنرى أترَك المسلك الأول أم بقي إلى هذه الوجهة يسير دون أدنى تغيير؟.
نقرأ سورة البقرة، وهى سورة مدنية بيقين، قوله تعالى: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) [البقرة:139]، ونقرأ في نفس السورة قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:256]، ونقرأ في نفس السورة قوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:109].
ونقرأ في سورة آل عمران، وهي مدنية بيقين، نقرأ قوله تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ، وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:20]، ونقرأ في سورة النساء وهى مدنية، نقرأ قول تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء:80]، ونقرأ في السورة نفسها قوله تعالى: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) [النساء:90]، ونقرأ في سورة المائدة، وهى مدنية، قوله تعالى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) [المائدة:99]، ونقرأ في السورة نفسها قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [المائدة:92].
ولا أريد أن أستعرض القرآن كله لأبين أن مكيَّهُ تمهيد لمدنيِّهِ، وأن مدنيه تصديق لمكيه، وأن مسلك الإسلام بعد الهجرة هو مسلكه قبل الهجرة، وأنه الدين الذي اخترع في العالم الحرية الدينية، وبسط رعايته على من يعارضونه فما أحرجهم، ولا اضطهدهم، ولا استذلهم، ولا نال منهم قليلا ولا كثيرا؛ ولكن هناك من على أبصارهم وبصائرهم حُجُبٌ يريدون أن يكذبوا، وأن يزوروا التاريخ، وأن يقولوا للناس كلاما لا أصل له في تصور الإسلام وتصويره للأمور.
شيء آخر يتصل بالهجرة، وهو قصة التشريع، يشيع بين الناس أن ما بعد الهجرة كان عصر التشريع، وأن ما قبل الهجرة كان عصر التمهيد، هذا كلام مدخول، ويحتاج إلى شيء من التوضيح؛ فإن شرائع العقيدة كلها تمت قبل الهجرة، وشرائع الأخلاق الفاضلة كلها تمت قبل الهجرة، وأن العبادات -من صلاة وزكاة- تمت قبل الهجرة، والحج معروف من شريعة إبراهيم، وإذا كان فرض الصوم قد تأخَّر إلى ما بعد الهجرة فلا يقدح هذا في أن ما قبل الهجرة كان عصر تشريع لأهم ما تحتاج إليه الأمة في عقائدها وعباداتها.
الصلاة شرعت قبل الهجرة، الزكاة شرعت قبل الهجرة، أوائل سورة المؤمنون، وهى سورة مكية، تقول : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [المؤمنون:1-6].
كل هذا شرع قبل الهجرة، بل كان تشريع الزكاة من أول ما عرف بعد الإيمان بالله والصلاة مباشرة. وسورة المدثر، وهى من أول ما نزل، نقرأ فيها قوله تعالى على لسان المؤمنين، وهم في نعيمهم يسائلون المجرمين: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) [المدثر:42-47].
وعن تشريع الخمر فأغلب العلماء يرى أن الأمر الحاسم بترك الخمر كان في المدينة، ويرى آخرون أن الخمر من أسمائها "الإثم"، يقول الشاعر:
شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي *** كَذَاكَ الإثمُ تَذْهَبُ بِالعُقُولِ
والدليل على تحريم الإثم -الخمر- في مكة قوله تعالى في سورة الأعراف: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالْإِثْمَ، وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأعراف:33].
تشريع الربا، صحيح أن آيات الربا من آخر ما نزل في سورة البقرة، ومن آخر ما نزل في المدينة؛ لكن تحريم الربا أشعر القرآن به في الوحي المكي النازل بمكة؛ في سورة الروم تقرأ قوله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [الروم:39]، المضعفون: الذين يضاعفون ثوابهم، ويكثرون عند الله أجرهم. فالعصر المكي كان عصر تشريع، إلى جانب العصر المدني الذي أكمل التشريع، وفرع في كثير من المسائل بعد استقرار المجتمع الإسلامي وتكوُّن الدولة فيه.
مما ينبغي أن يعرف أيضا في الهجرة.. أن القرآن الذي نزل في مكة قبل الهجرة أو في المدينة بعد الهجرة سواء في إعجازه، سواء في بلاغته، سواء في التحدي به. نعم، يقول بعض العلماء: إن بعض القرآن ثوابه في التلاوة أو فضله على غيره قد جاءت به نصوص، مثلا، قرأنا أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن. قال العلماء: إنما تتفاضل السور بموضوعاتها، فإذا كانت سورة تتحدث عن العقائد وأصول الدين فهي أكثر مثوبة عند الله، وأكثر مكانة من آية تتحدث عن المواريث، أو عن الزواج، أو عن الطلاق؛ فآية الكرسي تفضل غيرها لأن موضوع الحديث في الآية عن الله -جل جلاله-، أما السور كلها، مكيها ومدنيها، والآيات جميعها التي تناولت العقائد أو العبادات أو الأخلاق أو المعاملات فهي كلها في طبقة رفيعة من البلاغة، وفى أوج من الإعجاز تحدى الله به الإنس والجن، لا فارق بين قرآن مكي أو قران مدني.
وقد قال المستشرقون -ومن بينهم مستشرق من "المجر" اسمه "جولد زيهر" قال: إن القرآن المدني أقل بلاغة من القرآن المكي! وتبعه في هذا اللغو بعض الذين كانوا يدرسون في كلية الآداب، وبقوا في أماكنهم ينشرون هذا الإلحاد، بل حفظت لهم مناصبهم إلى أن ماتوا.
ونحن نريد أن نوجه النظر إلى أن الغزو الثقافي له تسلل، وله مداخل، وله سوآت؛ ويجب أن نحتاط لديننا وعقائدنا من عدوان المستشرقين، والمبشرين، وسماسرتهم في هذا البلد.
وحديثنا المهم فيما يتصل بهذا الغزو في خطبتنا الثانية إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، واعلموا -أيها المؤمنون- أننا نواجه مستقبلا يحتاج منا إلى اليقظة الكاملة، والوعي الدقيق، والبصر الفاحص المنقِّب لكل ما يراد بنا، أو يُبَيَّت لنا؛ والسبب في هذا أن مصر هي -طوعا أو كرها- دماغ الإسلام وقلبه، وأن نجاح الإسلام فيها نجاح له في العالم أجمع، وأن ضياع الإسلام فيها ضياع له في العالم أجمع، بل الأمر ليس أمر ضياع، وإنما الأمر أمر المكانة.
يوم يدحرج الإسلام من مكانته كدينٍ أول، وموجِّهٍ أول، وأساسٍ أولَ لكلِّ بناءٍ خلقي وثقافي وتشريعي واجتماعي، يوم يُدحرج الإسلام من هذه المكانة لتكون له مكانة ثانوية أو ثالثية أو رابعية، فمعنى هذه الدحرجة أن مستقبل الإسلام سيمضى إلى الغروب، إن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم يكن غدا فبعد غد!؛ ولهذا فإن المحافظة على مكانة الإسلام كموجِّهٍ أولَ في كل شيء له أهمية في بلدنا.
إن مكانة مصر ومكانة الإسلام فيها موضع دراسة ذكية لمن يكرهون هذا البلد و يتآمرون على مستقبله، وقد شاء الله تعالى أن تقع حرب رمضان، وأن تكون هذه الحرب نقلة بعيدة المدى، ودعما سماويا مباغتا لهذه الأوضاع في العالم العربي، والعالم أجمع، فإذا الإيمان يعلن عن وجهه الصبيح، وحقيقته الحلوة، وإذا الجيش الذي حمل عبء دعايات مرة، ومواقف مصنوعة، إذا هذا الجيش يزأر بكلمة التوحيد، ويمشى تحت صدى التكبير الذي يملأ الأودية، ويهز الآفاق، ويصل إلى غرضه.
أريد أن أقول: لقد أحرزنا نصرا مرحليا بعد هزيمة سوداء صبغت الوجوه بالذل والعار، أريد أن أسأل: ما الذي أكسبَنا هذا النصر الآن؟ وما الذي اكسبنا الخزي والهزيمة من قبل؟ التحقيق في هذا أن أوضاع الأمة قبل سنة 1967م كان يجب أن تنتهي بالهزيمة، وأن أوضاع الأمة قبل معركة العاشر من رمضان كان معها الأمل في جنب الله أن يضع خيرا في الأيدي الممدودة له، وأن يجعلها ترجع بما يبيض وجهها، ويرفع رأسها.
قبل 1967 كان هناك إذلال لطوائف كثيرة من هذه الأمة، كان هناك حرب على الإسلام، كانت هناك مساءات لديننا، كان هناك استبداد أعمى، كانت هناك معتقلات مفتَّحة، كان سجن كبير يعتبر الإسلام جريمة؛ أما عندما دخلنا المعركة الأخيرة كانت أبواب الحرية قد بدأت تتفتح رويدا رويدا، صُفيت المعتقلات، عاد الجيش إلى كلمه التكبير في تمريناته، وكان ذلك لا يعرف له، بدأت أمتنا ترجع إلى دينها دون قلق أو خوف، كانت الخيانات التي كانت على مستوى عال بدأت تنزاح عن تاريخنا وعن صدرنا وعن مجتمعنا، ولكن؛ أيرضى هذا الذين صنعوا هزيمة 67؟ لا، لن يرضيهم هذا، والذين صنعوا الهزيمة من كُتاب خدموا الجبروت، وتملقوا المستبدين، وعاشوا يصنعون للأمة الإلحاد الذي يعميها عن الله. أهؤلاء يرضون أن تنعم الأمة بالإيمان والحرية، وأن تأخذ طريقا جديدا يعود بها إلى الله؟.
لا, إنهم لا يريدون هذا، إنهم يريدون استئناف نفس الأوضاع التي كانت قبل سنة 67، قد تسأل: ما الذي يريدون استئنافه؟ وأقول بصراحة: لقد فهمت أن الأصوات التي يجب أن تختفي لا تزال عالية، وأن الذين صنعوا الهزيمة لا يزالون يريدون أن يصنعوها مرة أخرى، لا أدري، لقد استقدمت بعض الصحف "بول سارتر" طاغية الوجودية، والعمود من أعمدة الكفر في فرنسا، وجاءت معه بعشيقته! واقتحم الرجل النذل وعشيقته القصر الجمهوري، وكان ينبغي أن يحرم على رجل وعشيقته، لكن مراكز القوة وأسباب الشر كانت تريد أن تفرض على أمتنا الإلحاد والانحلال، وأن مجيء رجل مع عشيقته أمر عادي!.
والآن يستقدم من فرنسا زعيم للتحالف اليساري الاشتراكي. ما حاجتنا إلى هؤلاء؟ ما الذي نتلقاه من هؤلاء؟ لكن الذين صنعوا هزيمة سنة 67 يريدون أن يصنعوا هزيمة أخرى لبلدنا.
إن الذين قادوا معركة النصر هم المؤمنون، ومنهم الحاج حافظ سلامة زعيم السويس غير منازع، الرجل الذي رفض الاستسلام، وخرج مع الجنود والمؤمنين في مسجد الشهداء في السويس، وقاتل حتى هزم اليهود وردهم بعد أن أحرق دباباتهم، وردهم خارج المدينة، وجعلها مدينة محترمة صامدة.
هذا الرجل بقي في المعتقل ستة وعشرين شهرا، يذوق الذل، حتى خرج أخيرا في أيام الحرية وأدى واجبه؛ لم يقل هذا الإنسان أنا ما أدافع عن بلد ذقت فيه الذل، لا، ما قال هذا، عهد الذل انتهى، ينبغي أن ينتهي إلى الأبد، إن أعداء الإسلام أصحاب حيلة، وقد بدؤوا الآن يفكرون كيف يعودون بالأمة إلى الشتات الذي كانت فيه؟ ستسمع ألف كلمة إلا كلمة الإسلام، ستقرأ قضايا كثرة إلا قضايا الإسلام، سترى أن ضيوفا يجيئون حمرا أو صفرا، ولن يُجاء برجل يمثل الإسلام!.
لم؟ هؤلاء لم يرثوا مصر، إن مصر التي شاء الله أن يكسر قودها، وان يحرر أرضها، ينبغي أن يعلم الناس الآن أن هذا التراب حرام على الأصوات التي خدمت الجبروت، وبقيت في كنف الذل تهتف له، وتبشر به. ليس هؤلاء قادتنا، إن قادتنا هم الذين حملوا راية الإيمان، وبكوا من خشية الله، وبشروا بالحق، وبقوا إلى جانب الكتاب والسنة.
إننا نريد أن تصحو هذه الأمة، إن الأمة التي تنسى ولا تذكر لا تستحق البقاء. وقديما قيل في مصر:
نسيَتْ رَوْعَته في بَلَدٍ *** كلّ شيء فيه يُنسَى بَعْدَ حِينِ
ونحن إذا كنا ننسى كل شيء بعد حين، فلا نصلح للبقاء.
ينبغي أن نعرف أن الإيمان أساس نهضتنا، وأن الإسلام سياج عزنا، وأن راية الحق هي التي ينبغي أن ترفرف علينا، وأن الذين خدموا الإلحاد، وجاؤوا بزعمائه من أوربا رجالا أو نساء، أو الذين يريدون تعكير صفونا، وتوسيخ فكرنا، وجعل حياتنا تعتمد على مصادر من الخارج، هذا كله غثاء ولغو، نحن ينبغي أن نبني على قواعدنا، وأن ننطلق من مبادئنا، وأن نتجه إلى غاياتنا وأهدافنا.
نحن أغنياء عن "بول سارتر"، وعن "ميتران"، وعن بقية أولئك الذين عاشوا في الغرب يحرسون ضلاله؛ وأنا أعلم، وغيري يعلم، أن سارتر جاء هنا وبعد يوم كان في إسرائيل! وأنا أعلم، وغيري يعلم، أن زائر مصر الحالي صديق لإسرائيل، وصديق لزعيمة إسرائيل! فما الذي يجعل أمتنا تتسول الرجال والثقافات على هذا النحو الأعمى؟! لكن هي طبيعة القوم، هي طبيعة العصابة التي تآمرت على مستقبل بلدنا من أمد غير طويل. إننا بحاجة ملحة إلى أن نعرف الإيمان ورايته، ولا نمشي إلا تحت هذه الراية، حتى نصل إلى غايتنا إن شاء الله.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
التعليقات