عناصر الخطبة
1/برُّ إبراهيم عليه السلام بوالديه 2/ تعويض إبراهيم عليه السلام أسرةً بدل أهله وعشيرته 3/ إهداء سارة هاجرَ لإبراهيم، وما في ذلك من معانٍ أسرية عميقة 4/المكافأة الربانية لسارة 5/ تضحيات هاجر في وادٍ غير ذي زرع 6/ بر إسماعيل بأبيه ومساعدته له في العمل لدين الله.اقتباس
غَيْرَ أَنَّ هَذَا اللُّطْفَ مِنْ إِبرَاهِيمَ وَأُسْلُوبَهُ الْحَسَنَ فِي دَعْوَتِهِ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ لَمْ يَلْقَ اسْتِجَابَةً مِنْهُمْ، حَتَّى تَرَكَ عَشِيرَتَهُ وَبَلَدَهُ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ -تَعَالَى-، فَعَوَّضَهُ اللهُ -تَعَالَى- بَدَلَ أَهْلِهِ أَهْلاً؛ فَرَزَقَهُ اللهُ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَجَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ.
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُسْرَةٌ نَذَرَتْ نَفْسَهَا لِلْعَمَلِ لِدِينِ اللهِ –تَعَالَى-، وَوَظَّفَتْ كُلَّ إِمْكَانِيَّاتِهَا لِتَرْسِيخِ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ فِي الْأَرْضِ، وَتَحَمَّلَتْ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ عَدَاوَةَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَهَاجَرَتْ عَنْ وَطَنِهَا، وَفَارَقَ بَعْضُهَا بَعْضًا مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ، وَهِيَ فِي أَوْجِ الشَّوْقِ لِلَمِّ الشَّمْلِ، وَمَسَّهَا مِنَ الْبَلَاءِ أَلْوَانٌ، وَتَنَقَّلَتْ فِي عَدَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، لَا شَيْءَ غَيْرَ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ فِي الْأَرْضِ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ السَّخِيِّ فِي مَرْضَاةِ اللهِ -تَعَالَى- أَثَابَهَا اللهُ -تَعَالَى- مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا قَرَّتْ بِهِ عُيُونُ أَهْلِهَا؛ تِلْكَ الْأُسْرَةُ الْكَرِيمَةُ هِيَ أُسْرَةُ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ دَعَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَوْمَهُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ، وَلَكِنَّهُمْ رَدُّوا دَعْوَتَهُ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَلَمَّا لَمْ تَجِدْ دَعْوَتُهُ فِيهِمْ قَبُولاً أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الشَّامِ مَعَ زَوْجَتِهِ سَارَةَ، وَمِنَ الشَّامِ رَاحِلًا إِلَى مِصْرَ، فَرَجَعَا مِنْهَا بِهَاجَرَ، فَتَزَوَّجَهَا إِبْرَاهِيمُ؛ فَوَلَدَتْ لَهُ إِسْمَاعِيلَ، فَأَمَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِأَخْذِهِ مَعَ أُمِّهِ إِلَى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ؛ لِيَضَعَهُمَا هُنَاكَ، وَيَرْجِعَ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلَ إِبْرَاهِيمُ مَا أَمَرَهُ رَبُّهُ -تَعَالَى- بِهِ.
وَفِي هَذَا التَّنَقُّلِ بَيْنَ هَذِهِ الْبُلْدَانِ الْأَرْبَعَةِ حَصَلَ لِهَذِهِ الْأُسْرَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ مَا يَسْتَدْعِي الْوُقُوفَ عِنْدَ بَعْضِهَا؛ لِنُدْرِكَ مَدَى الْأَعْمَالِ الْحَمِيدَةِ، وَالتَّضْحِيَاتِ الْمَجِيدَةِ الَّتِي قَدَّمَتْهَا هَذِهِ الْأُسْرَةُ الْمُبَارَكَةُ، وَنَسْتَفِيدَ مِنْهَا دُرُوسًا نَافِعَةً لِلْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ الْيَوْمَ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَارًّا بِوَالِدَيْهِ، رَغْمَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ كَافِرًا مُعَانِدًا، فَمِنْ بِرِّهِ بِأَبِيهِ: دَعَوْتُهُ لَهُ إِلَى دِينِ الْحَقِّ بِرِفْقٍ وَلِينٍ، وَالْجَوَابُ عَنْ غِلْظَتِهِ بِحِلْمٍ وَرَحْمَةٍ وَدُعَاءٍ لَهُ بِالْهِدَايَةِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)[مريم:41-48].
فَتَأَمَّلُوا -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- هَذَا الْأُسْلُوبَ اللَّطِيفَ فِي دَعْوَةِ الْوَالِدِ، وَكَيْفَ قَابَلَ الِابْنُ الْبَارُّ شِدَّةَ أَبِيهِ وَوَعِيدَهُ بِكَلِمَاتِ الرَّأْفَةِ وَالْعَطْفِ!
وَمِنْ بِرِّ إِبْرَاهِيمَ بِوَالِدَيْهِ: دَعْوَتُهُ لَهُمَا، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)[إبراهيم: 41].
غَيْرَ أَنَّ هَذَا اللُّطْفَ مِنْ إِبرَاهِيمَ وَأُسْلُوبَهُ الْحَسَنَ فِي دَعْوَتِهِ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ لَمْ يَلْقَ اسْتِجَابَةً مِنْهُمْ، حَتَّى تَرَكَ عَشِيرَتَهُ وَبَلَدَهُ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ -تَعَالَى-، فَعَوَّضَهُ اللهُ -تَعَالَى- بَدَلَ أَهْلِهِ أَهْلاً؛ فَرَزَقَهُ اللهُ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَجَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَعَوَّضَهُ بَدَلَ بَلَدِهِ خَيْرَ الْبِلَادِ: مَكَّةَ وَالشَّامِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا)[مريم: 48-49]. وَقَالَ: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ)[العنكبوت:27]. وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَلَمَّا دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ وَزَوْجُهُ سَارَةُ حَدَثَ لَهُمَا بَلَاءٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكَهَا بُخْتَنَصَّرَ طَلَبَ سَارَةَ إِلَيْهِ، وَأَرَادَهَا لِنَفْسِهِ، فَنَجَّى اللهُ سَارَةَ مِنْ هَذَا الْجَبَّارِ، فَأَخْدَمَهَا جَارِيَةً اسْمُهَا هَاجَرُ، فَرَجَعَتْ بِهَا سَارَةُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَدْ كَانَتْ سَارَةُ عَقِيمًا لَا تَلِدُ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ مِنْهَا وَهَبَتْ هَاجَرَ لِإِبْرَاهِيمَ، وَطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَحَمَلَتْ بِإِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْ سَارَةَ نَحْوَ زَوْجِهَا يُعَلِّمُ الزَّوْجَاتِ صُنْعَ الْجَمِيلِ نَحْوَ أَزْوَاجِهِنَّ، وَفِعْلَ مَا يُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْأُسْرَةِ.
"وَمَرَّتْ سُنُونَ وَمَا زَالَتْ سَارَةُ عَلَى عُقْمِهَا، وَهِيَ مُشْتَاقَةٌ إَلِى وَلَدٍ مِنْهَا، فَلَمَّا رَأَى -تَعَالَى- شَوْقَهَا وَصَبْرَهَا وَإِيمَانَهَا بَشَّرَهَا بِوِلَادَةِ إِسْحَاقَ -وَقَدْ كَانَ بَيْنَ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً-، وَزَادَهَا اللهُ مَعَ زَوْجِهَا إِبْرَاهِيمَ فِي الْبِشَارَةِ مَجِيءَ يَعْقُوبَ مِنْ إِسْحَاقَ، فَهِيَ بِشَارَةٌ بِالِابْنِ وَالْحَفِيدِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ بِشَارَةٌ كَذَلِكَ بِحَيَاةِ إِسْحَاقَ حَتَّى يَتَزَوَّجَ وَيُولَدَ لَهُ، قَالَ –تَعَالَى-: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)[هود:71-73]".
عِبَادَ اللهِ: لَمَّا وَلَدَتْ هَاجَرُ إِسْمَاعِيلَ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ يَذْهَبَ بِهِمَا إِلَى مَكَّةَ، فَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ وَحِيدَيْنِ فِي وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَرَجَعَ هُوَ إِلَى الشَّامِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ -يَعْنِي: هَاجَرَ- وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون)[إبراهيم: 37].
وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ: هَلْ تَرَى أَحَدًا؛ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا"، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ: صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ -أَيْضًا-، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ -أَوْ قَالَ: بِجَنَاحِهِ- حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا، وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ -، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا" قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ؛ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ البَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ، مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الإِنْسَ"؛ فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الغُلاَمُ، وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ، وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ عِظَاتٌ وَعِبَرٌ لِلْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ؛ فَفِيهِ بَيَانُ طَاعَةِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا حَتَّى فِيمَا تَكْرَهُ، وَصَبْرُهَا عَلَى مُفَارَقَتِهِ، خَاصَّةً إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ دِينِ اللهِ، وَفِيهِ -أَيْضًا-: بَيَانُ التَّضْحِيَاتِ الَّتِي قَدَّمَتْهَا هَاجَرُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَفِيهِ كَذَلِكَ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ: شُكْرَ اللهِ -تَعَالى- عَلَى حَيَاتِهَا مَعَ زَوْجِهَا الصَّالِحِ وَلَوْ قَلَّتِ الدُّنْيَا لَدَيْهِمْ، وَأَنَّ الضَّجَرَ وَالشَّكْوَى لِضِيقِ الْعَيْشِ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْمَرْأَةِ الْمَحْمُودَةِ.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ زَوْجَاتِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ رَزَقَ اللهُ -تَعَالَى- إِبْرَاهِيمَ بِإِسْمَاعِيلَ ابْنًا مُؤْمِنًا بَارًّا مُطِيعًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَحُسْنِ بِرِّهِ بِوَالِدِهِ حَادِثَتَانِ ذَكَرَهُمَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ: الْأُولَى: حَادِثَةُ الذَّبْحِ؛ فَقَدْ صَارَ لِإِسْمَاعِيلَ فِي قَلْبِ أَبِيهِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْتَبِرَ خَلِيلَهُ: هَلْ زَاحَمَ حُبُّ إِسْمَاعِيلَ حُبَّهَ -تَعَالَى-، فَأَمَرَهُ اللهُ بِذَبْحِ وَحِيدِهِ فَانْقَادَ لِأَمْرِهِ وَلَمْ يَتَرَدَّدْ، فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ فَلَمْ يُمَانِعْ؛ فَلَا يَدْرِي الْمَرْءُ مِنَّا مِمَّنْ يَعْجَبُ: أَمِنَ الْأَبِ الَّذِي لَمْ يُرَاجِعْ هَذَا الطَّلَبَ الرَّبَّانِيَّ، أَمْ مِنَ الِابْنِ فِي اسْتِجَابَتِهِ وَاسْتِسْلَامِهِ؟! قَالَ -تَعَالَى-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ...) الآيَاتُ[الصافات:102-111].
وَالْحَادِثَةُ الثَّانِيَةُ: مُسَاعَدَةُ إِسْمَاعِيلَ أَبَاهُ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )[البقرة:127].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ –يَعْنِي: إِبْرَاهِيمَ- وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ وَالوَلَدُ بِالوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ؛ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). قَالَ: فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
أَيُّهَا الْمُسلِمُونَ: مَا أَحْسَنَ أَنْ تَتَعَاوَنَ الْأُسْرَةُ فِي الْعَمَلِ لِدِينِ اللهِ! وَمَا أَجْمَلَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مُطِيعَةً لِزَوْجِهَا فِي حِلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِ! وَمَا أَعْظَمَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَتَحَمَّلُ التَّعَبَ، وَتَبْذُلُ مَا تَسْتَطِيعُ مِنَ الصَّبْرِ وَالْعَمَلِ الْجَادِّ فِي سَبِيلِ الْإِسْلَامِ، وَتَكُونُ لِزَوْجِهَا سَنَدًا يَتَقَوَّى بِهِ فِي طَرِيقِ إِعْلَاءِ صَرْحِ الْحَقِّ الْمَشِيدِ!
وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ.
التعليقات