بين يدي الفاروق

عبدالله محمد الطوالة

2024-10-17 - 1446/04/14
عناصر الخطبة
1/شخصية فريدة وسيرة مذهلة عجيبة 2/من فضائل الفاروق عمر رضي الله عنه 3/إسلام عمر وعبوديته وتضحياته 4/خلافته وجهاده وفتوحاته 5/أبرز مشاهد العظمة في سيرة الفاروق 6/استشهاد عمر رضي الله عنه.

اقتباس

1/شخصية فريدة وسيرة مذهلة عجيبة 2/من فضائل الفاروق عمر رضي الله عنه 3/إسلام عمر وعبوديته وتضحياته 4/خلافته وجهاده وفتوحاته 5/أبرز مشاهد العظمة في سيرة الفاروق 6/استشهاد عمر رضي الله عنه.

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمدُ للهِ مُصرِّفِ الأحوالِ، مُقدِّرِ الآجالِ، المتفرِّدِ بالعزَّةِ والعظمةِ والجلالِ، مَنْ لهُ الغنى كلُّهُ ولهُ مُطلقُ الكمالِ، تُسبِّحُ لهُ السماواتُ السبعُ والأرضُ، والشمسُ والقمرُ، والنجومُ والشجرُ والجبالُ.

 

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، وصفيهُ وخليلهُ، المنعوتِ بأعظم الأخلاقِ وأشرفِ الخِصالِ، اللهم صلِّ وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وصحبهِ، خيرُ صحبٍ وخيرُ آلٍ، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم المآل، وسلَّم تسليماً كثيراً.

 

أَمَّا بعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ -عباد الله- وأَطيعُوه، وجِدُّوا -رحمكم الله- واجتهِدُوا، وتزوَّدوا بصالح الأعمال، قبل انقضاء الآجال، واستعِدُّوا ليومٍ شديد الأهوال، ولا يغرنكم أملٌ ولا إمهال، فـ(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)[الرعد: 11].

 

معاشر المؤمنين الكرام: اختارَ اللهُ لهذه الأمةِ سلفاً، هم أبرُّ الناس قلوباً، وأحسنُهم إيماناً، وأعمقُهم عِلماً، وأقومُهم عملاً، وأقلُهم تكلفاً، سيرةُ كلِّ واحدٍ منهم عِظةٌ وعبرة، واقتفاءُ أثرهم هِدايةٌ وتوفيق، والثباتُ على منهاجِهم فوزٌ ونجاة، ونحن اليوم على موعدٍ مع واحدٍ من أولئك العظماء.

 

فتعالوا بنا لنقفَ أمامَ شخصيةٍ فذةٍ فريدة، ذو سيرةٍ مُذهلةٍ عجيبة، فهو الإمامُ العادل، والخليفةُ الزاهد، والقويُّ الأمين، تلميذٌ نجيبٌ من تلاميذ مدرسةِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ما رأت العيونُ، ولا سمعت الآذان عن رجلٍ مثلهِ في الزهد والورع، والبساطةِ والتواضع، والقوةِ والشجاعة، والذكاءِ والفطنة، والعدلِ والرحمة.

 

إنه نسيجٌ وحده، أزرى بكل من جاء بعده، كُلُّ مواقفهِ عجبٌ في عجب، وَصفوهُ بأنه لا يستريح، ولا يدعُ من معه يستريحون، برز في مصارعة الأقران، وتميز في فنون الفروسية والقتال، وأُوتِيَ فصاحةً وحكمةً وحُجةَ بيان، ومارس التجارة حتى صار فيها من الأعيان، وكان قبل الإسلام يقضي بين القبائل في خصوماتهم، ويختارونه سفيراً لهم في بعثاتهم.

 

 إذا تكلم أسمع، وإذا أطعمَ أشبع، وإذا ضربَ أوجع، وإذا مشى أسرع، أصلعُ الرأس، ضخم الأطراف، عملاقٌ طويل، ما سار مع قومٍ قط إلا كان أعلاهم رأساً، شديد الهيبة جداً، فإذا قيل له: اتق الله، ارتجف كعصفورٍ غمره الماء.

 

هاجرَ جهرًا، وشهِدَ المشاهد كلَّها بما في ذلك أُحداً وبدراً، وهو أوّل خليفةٍ دُعِيَ بأمير المؤمنين، وأوّلُ من أرخَ التاريخ للمسلمين، وأوّلُ من أشار على جمع القرآنَ بين الدفتين، وأوّلُ من طاف بالليل يتفقّدُ أحوالَ المسلمين، وأول من دوّنَ الدوَاوين، وأوّلُ من جمعَ الناسَ على صلاةِ التراويح، فرضَ الأُعطيات الجَزْلَى، وفتح الفتوحَات العظمى، وزاد عددُ المدنِ المفتوحةِ في عهده عن الألف مدينة، عدا ما بينها من الأرياف والقرى.

 

هدم عروش أقوى أهلِ زمانه؛ هرقل وكِسرى، وبنى على أنقاضها أكثرَ من عشرة آلاف مسجدٍ ومصلى، وهو أولُ من ضربَ الجزيةَ على أهل الذمة من اليهود والنصارى، وحضر فتح بيت المقدسِ، واستلم بنفسه مفاتيح الأقصى، وهو أوّل مَن وسَّعَ مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونوَّره وفرَشه.

 

إنه فاروق الإسلام، عمر بن الخطاب، بن نفيل بن عبد العزى، يجتمع نسبه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في كعب بن لؤي بن غالب، كنيتهُ أبو حفص، ولُقِّب بالفاروق، ثاني الخلفاء الراشدين، وأحدُ العشرة المبشرين، ومضربُ المثلِ في أعلى صفات الصالحين، أسلمَ في العام السادس من البعثة، وعمره سبعاً وعشرين، وجاء في قصة إسلامهِ رواياتٍ كثيرة، ولئن كانت كُلها ضعيفة، إلا أنّ الشيءَ المشتركَ بينها، أنه سمع بعضاً من آيات القرآن فتأثر بها وأسلم.

 

حُكي أنَّ شيخاً حكيماً سمع بإسلامه فقال قولته المشهورة: "أما والله ليوسعنّهم خيراً، أو ليوسعنّهم شراً"، وفي الحديث الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعا فقال: "اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ بأحبِّ الرجلينِ إليكَ؛ أبي جهلِ بنِ هشامٍ أو عمرَ بنِ الخطابِ"، فكان الفاروق هو الأحبّ.

 

سَمَّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفاروق، لأنه في اليوم الذي أسلم فيه، جاء إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: يا رسول الله: ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: فَفِيمَ الاختفاء؟ أما والذي بعثك بالحقِّ لتخرجن، ولنخرجن معك، فخرج المسلمون في صفين؛ عمرٌ في صفّ، وحمزة في صفّ، حتى إذا دخلوا المسجد الحرام، ورآهم كفار قريشٌ أصابتهم كآبة شديدة، ما أُصيبوا بمثلها قط، فسماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- الفاروق؛ لأنه فرَّق بين الحق والباطل.

 

وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما زلنا أعزةً منذ أسلم عمر، كان إسلامهُ فتحًا، وهجرتهُ نصرًا، وكانت إمارتهُ رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر".

 

وكان -رضي الله عنه- شديد الخوفِ من الله -تعالى-، كثير البكاءِ من خشيته، حتى حفرت الدموع خطينِ أسودين في وجهه، ومن خاف الله -تعالى-؛ أخافَ اللهُ منه كلّ شيء، ففي الصحيحين أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر: "والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطانُ قطُّ سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غيره"، وفي الحديث الصحيح، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ جعَل الحقَّ على لسانِ عُمَرَ وقلبِه".

 

وثبت في الصحيحين أنّ الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما أنا نائمٌ رأيتُ الناسَ يُعرضون عليَّ وعليهم قُمص، منها ما يبلغ الثُّدي، ومنها ما دون ذلك، وعُرِضَ عليَّ عُمر بن الخطاب وعليهِ قميصٌ يجرُّه"، قالوا: فما أوَّلْتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدين".

 

وفي الصحيحين أيضًا أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما أنا نائمٌ إذ رأيت قدحًا أُتيتُ به فيه لبن، فشربتُ منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيتُ فَضْلي عمر بن الخطاب"، قالوا: فما أوَّلْتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: "العلم".

 

وفي الصحيحين أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه كان فيما مضى من الأمم ناسٌ مُحدَّثون -أي: مُلْهَمُون- وإنه إن كان في أُمتي هذه منهم، فإنه عمر بن الخطاب"، وفي البخاري، قال -صلى الله عليه وسلم-: "بَيْنا أنا نائِمٌ رَأَيْتُنِي علَى قَلِيبٍ، فَنَزَعْتُ ما شاءَ اللَّهُ أنْ أنْزِعَ، ثُمَّ أخَذَها ابنُ أبِي قُحافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أوْ ذَنُوبَيْنِ وفي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، واللَّهُ يَغْفِرُ له، ثُمَّ أخَذَها عُمَرُ فاسْتَحالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ حتَّى ضَرَبَ النَّاسُ حَوْلَهُ بعَطَنٍ".

 

وثبت أنَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أبو بَكرٍ وعُمَرُ من هذا الدِّينِ كمَنزِلةِ السمْعِ والبَصرِ منَ الرأْسِ"، وقال ابن مسعود: "إذا ذُكِر الصالحون فحيّهلاً بعمر، إنّ عمرَ كان أعلمَنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وكان شديدَ الخوف من ربّه، عظيمً الخشيةِ له"، وكان يقول: "لو مات جَدْيٌ بشط الفُرات لخشيتُ أن يُحاسب اللهُ به عمر".

 

 وقال معاوية -رضي الله عنه-: "أما أبو بكر فلم يُرِد الدنيا ولم تُرِده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يُرِدها". وقال أبو عثمان النهدي: "رأيتُ عمر يطوفُ بالبيت وعليه جُبَّة صوفٍ فيها اثنَتا عشرةَ رقعة".

 

كان -رضي الله عنه- لا ينام إلا غِبّاً، ولا يأكلُ إلا تقوتاً، ولا يلبسُ إلا خشناً، ويظلُ يقظانَ دائماً، يقول: "إن نمتُ بالليل ضيَّعتُ نفسي، وإن نمت بالنهار ضيَّعت رعيتي"، وطالما مرّ بالآية من كتاب الله، فتَخْنِقهُ العبرة فيبكي حتى يسقط، وحتى يُزَار في بيته أياماً يحسبونهُ مريضًا.

 

وكان -رضي الله عنه- إذا هدأت العيون وتلألأت النجوم، يأخذ درَّتَه المشهورة، فيجوبُ سِكك المدينة؛ علُّه يجدُ ضعيفاً يُساعده، أو فقيراً يُطعمه أو مجرماً يُؤدّبه، وبينما هو يمشي في ليلة من الليالي، إذْ بامرأة وحولها صبيةٌ يبكون، وإذا قِدْرٌ موضوعةٌ على النار، فدنا عمرٌ من الباب فقال: أمةَ الله، ما بكاءُ هؤلاء الصبيان؟ قالت: من الجوع، قال: فما هذه القِدْر؟ قالت: ماءٌ أُعلِّلِهم به حتى يناموا.

فبكى عمر ثم أسرع إلى دار الطعام، وأخذ وعاءً فوضع فيه شيئاً من دقيق وشحمٍ وتمر وبعض الثياب والدراهم حتى ملأ الوعاء، ثم قال: يا أسلم احْمِلْه عليَّ، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أحمله عنك. قال: لا أُمَّ لك، أأنت تحمل عني وزري، فحمله حتى أَتَى به منزل المرأة، فأخذ القدر، فجعل فيه الدقيق والشحم والتمر، وجعل يحركهُ بيده، وينفخُ تحت القدر، قال أسلم: فرأيتُ الدخانَ يخرجُ من خلل لحيتهِ حتى طبخَ لهم، ثم جعل يغرفُ بيده، ويُطعمهم حتى شبعوا.

 

ويقول الاحنفُ بن قيس: كنت مع عمر فجاءهُ رجلٌ يشتكي مظلمةً، فرفعَ عمرُ درّتهُ فضربه بها، وقال: تتركون أمير المؤمنين وهو مقبلٌ عليكم، فإذا انشغلَ ببعض أمور المسلمين أتيتموه، فانصرفَ الرجلُ حزيناً منكسراً، فما لبث عمرُ أن قال: عليَّ بالرجل، فلما عاد ناوله الدّرّةَ وقال له: اقتصَّ لنفسك مني، فقال الرجل: لا والله، ولكني أدعها لله، وعاد عمرُ إلى بيته فصلى ركعتين، ثم جلس يحاسبُ نفسه، ويقول: ابن الخطاب! كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم حملك على رقابك الناس، فجاءك مَن ينتصرُ بك فضربته، فماذا تقول لربك غداً، ثم يقول متأوِّهاً: ليت أم عمر لم تلد عُمَر.

 

وخرج مرةً في سواد الليل فرآه طلحة -رضي الله عنه-، فتبعه فرآه يدخلُ بيتًا ويمكثُ فيه فترةً ثم يخرج، فلما أصبح طلحةُ ذهب إلى ذلك البيت، وإذا بعجوزٍ عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ فقالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصلحني ويُخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتّبع؟!

 

وفي عام الرمادة سنة ثماني عشرة للهجرة، أجدب الناسُ وقحطوا قحطاً شديداً، وأصابتهم مجاعة، حتى مات الناسُ جوعًا، وهلكت المواشي، وترك كثيرٌ من الناس ديارهم ورحلوا إلى المدينة، ليكونوا قرب الخليفة، وامتلأت أطراف المدينة بخيام اللاجئين، فحلف عمر ألا يأكلَ سمنًا ولا دسمًا حتى يرفع الله البلاء.

 

وضرب لنفسه خيمةً في الخلاء، ليباشرَ منها توزيع الطعام على الناس، وكان لا ينام من الليل إلا قليلاً، وما زال به الهمّ حتى تغيّر لونه، وهزُلَ جسمه، قال خادمه أسلم: كنا نقول: لو لم يرفع الله الضائقةَ عام الرمادةِ لظننا أن عمر يموتُ همًّا، وحين اشترت زوجتهُ شيئاً من سمن قال ما هذا؟ قالت: هو من مالي وليس من نفقتك، فقال لها: ما أنا بذائقه حتى يحيا الناس، ووقف على المنبر يوم الجمعة يخطب، فقرقرت بطنه من الجوع، فوضع يده عليها وقال: قرقري أو لا تقرقري، والله لا أشبعُ حتى يشبع أطفال المسلمين.

 

وحين كان يسمعُ مَن يمدحه أو يثني عليه ببعض أعماله، كان يقابلُ ذلك بتواضعٍ عجيب، ويقول: "أما والذي نفسُ عمرٍ بيده، لوددت أن أنجو كِفافاً لا لي ولا عليَّ".

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم؛ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)[الأحزاب: 23].

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين، وكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب)[الزمر: 18].

 

معاشر المؤمنين الكرام: مشاهدُ العظمةِ في سيرة الفاروقِ كثيرةٌ لا يمكن استقصاؤها، وما تركناه أكثرَ بكثيرٍ مما ذكرناه، فمن أراد الاستزادة فعليه بكتاب "فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب".

 

يقول عبدالله بن عامر بن ربيعة: صحبت عمر بن الخطاب من المدينة إلى مكة في الحج، ثم رجعنا، فما أُقيم له فسطاطٌ، ولا نُصِبَت له خيمةٌ ولا خِباء، ولا كان له بناءٌ يستظلُّ به، إنما كان يضعُ كِساءً على شجرةٍ فيستظلُّ تحته، وحين وصلوا المدينة سألهم: كم أنفقنا في حجتنا هذه؟ قالوا: خمسة عشر ديناراً، قال: لقد أسرفنا في هذا المال.

 

حاكمٌ تصلُ جيوشه أطرافَ الأرض، ورهنُ إشارته خزائنُ فارس والروم، ثم يخرجُ إلى الحجِّ في شدة الحر، فلا يُهيئ لنفسه من ضرورات التّنقل شيئاً، ولا ينفقُ خِلالَ رحلته كلها إلا خمسة عشر ديناراً، ثم يقول: لقد أسرفنا، ألا يا خالقُ هذا الإنسان سبحانك!!

 

والعجيبُ أن كان يحجُّ في كل عام، وفي آخر حجةٍ له، حجَّ بأمهات المؤمنين معه، فلما طاف طواف الوداع أناخ بالأبطح قرب المسعى، واستلقى على الأرض ورفع يديه إلى السماء فقال: "اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، اللهم شهادةً في سبيلك، وموتًا في بلد رسولك"، فقالت له ابنته أم المؤمنين حفظة: يا أمير المؤمنين من أرادَ الشهادة فليطلبها في مظانها؟ فقال لها: هكذا سألت ربي.

 

 فلما وصل إلى المدينة رأى في المنام أن ديكاً ينقرهُ عدة مرات، فعُبرت له أن رجلاً من العجم يقتله، فقام وخطبَ الناس، كالمُودِّع، وأعلن لهم: أن من كان له حقٌّ عند عمر فهذا جسمي ومالي فليصنع بهما ما شاء، فتأثرَ الناس وارتجَّ المسجدُ بالبكاء، فقد شعروا أن خليفتهم يودعهم، وبعدها بيومين أو ثلاثة، وبينما عمرٌ يُصلِّي بالناس صلاة الفجر، والظلامُ لا يزالُ حالكاً، خرج من بين الصفوف مجوسيٌ لعين اسمه أبو لؤلؤة، فطعن الفاروق بخنجرٍ مسمومٍ عِدة طعنات، وطعنَ معه ثلاثة عشرَ صحابياً، مات منهم سبعة، ثم قتلَ اللعينُ نفسه.

 

فلما علم عمر أن قاتله مجوسيٌ، قال: "الحمد لله الذي جعل قتلي على يد من لم يسجد لله سجدةً يُحاجني بها"، وفي ساعاته الأخيرة، كان رأسُه في حجر ابنه عبد الله، فقال له: يا بني ضع خدي على الأرض، فقال عبد الله: حجري والأرضُ سواء، فقال عمر: "ضع خدّي على الأرض لعل الله ينظرُ إلي فيرحمني".

 

وكان استشهاده -رضي الله عنه- في اليوم السادسِ والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاثٍ وعشرين من الهجرة.

 

فسَّلامُ الله عليك يا أبا حفص، سلامُ الله عليك يوم وُلدت، ويوم استُشهدت، ويوم تُبعث حيًّا، ورضي الله عنك وأرضاك، وطاب ذِكْرك حيًّا وميتًا، اللهم كما أحببناهم فيك ولم نرهم، اللهم فلا تفرّق بيننا وبينهم يوم القيامة حتى تُدخلنا مدخلهم، وتحشرنا في زمرتهم.

 

ويا ابن آدم: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مُفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به. البر لا يبلى، والذنب لا يُنْسَى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.

 

اللهم صلِّ وسَلِّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life