بعض فضائل الصدقة والفرحة بشهر رمضان

ماهر بن حمد المعيقلي

2023-03-10 - 1444/08/18
التصنيفات: التربية رمضان
عناصر الخطبة
1/النظرة الإسلامية الصحيحة للمال 2/كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرورة التأسي به 3/بعض فضائل الصدقة وبركاتها 4/بعض أنواع الصدقات ذات الفضل الكبير 5/الفرحة باستقبال شهر الرحمات والبركات 6/الصدقة في الصيام من أفضل الإحسان

اقتباس

استجلِبُوا رحمةَ ربِّكم، بتفقُّد أحوال ذوي أرحامِكم، والمحتاجينَ من أقاربِكم وجيرانِكم؛ فإنَّ اللهَ رحيمٌ، يحب عبادَه الرحماءَ، كريمٌ يُحِبُّ الكرمَاءَ، جَوادٌ يُحِبُّ الجودَ، عفوٌّ يُحبُّ العفوَ، وأكثِرُوا في شهر رمضان، من أنواع العبادات والصدقات، وتحرَّوْا في بذلها لمستحقِّيها...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي يجزي المتصدقينَ، ولا يُضيع أجرَ المؤمنين، أحمدُه -سبحانه- على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وصفاته الكريمة، وأشهدُ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الربُّ الرحيمُ، الجوادُ المحسِنُ الكريمُ، خزائنُه مَلأَى، ويَداهُ مبسوطتانِ يُنفِق كيف يشاء، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، النبيُّ الأمينُ، والرسولُ الكريمُ، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه وأصحابِه الذين كانوا يُسارِعون في الخيراتِ، ويتنافسونَ في الطاعات، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ، معاشرَ المؤمنينَ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عزَّ وجَلَّ-، فاتقوا الله -رحمكم الله-، واستعِدُّوا ليومٍ بضائعُه الأعمالُ، وشهودُه الجوارحُ والأوصالُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].

 

أمَّةَ الإسلامِ: المالُ زينةُ الحياةِ الدنيا، وهو عصبُ الحياةِ، جعَلَه اللهُ قيامًا للناس؛ فبه تَقُوم المصالحُ العامَّةُ والخاصَّةُ، قال الله -تعالى-: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)[النِّسَاءِ: 5]؛ أي: التي بها قِوَامُ عيشِكم الذي تعيشون به؛ فلذا جاءت الشريعةُ بتنظيمِ أمرِه، وحرَّمَتْ تحصيلَه بغيرِ حقِّه، وبيَّنَت السُّبُلَ المشروعةَ في تحصيله وإنفاقه، وجعلَتْه من الضروريات الخمس، وقرَنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، بالدماء والأعراض، كما في خطبة الوداع، ولَمَّا كانت النفوسُ مفطورةً على حُبِّ المالِ، والحرصِ عليه، وطلبِ الاستكثارِ منه، كان للصدقة منزلةٌ عظيمةٌ؛ فهي من أجَلِّ العباداتِ والقرباتِ، التي يحبها اللهُ ورسولُه، وما يُنفِقُه العبدُ ابتغاءَ وجه الله، هو الذي يَجِدُه أمامَه يومَ القيامة، فلا يبقى له من ماله، إلَّا ما تصدَّق به، فادَّخَرَ ثَوَابَهُ لآخرته، وما سوى ذلك، فإنَّه ذاهبٌ وتاركُه لغيره؛ ففي صحيح مسلم: قال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ، إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟"(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)[الْمُزَّمِّلِ: 20].

 

ولقد كان -صلى الله عليه وسلم-، أجودَ الناسِ وأسخاهم، في حياته كلِّها، فيُعطي السائلَ ثوبَه الذي عليه، وهو محتاجٌ إليه، ففي صحيح البخاري، قال سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْسُنِيهَا. فَقَالَ: "نَعَمْ"، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَطَوَاهَا ثُمَّ أَرْسَلَ بها إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ القَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِتَكُونَ كَفَنِي يَوْمَ أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ -رضي الله عنه-: فَكَانَتْ كَفَنَهُ".

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْظَمَ النَّاسِ صَدَقَةً بِمَا مَلَكَتْ يَدُهُ، وَكَانَ لَا يَسْتَكْثِرُ شَيْئًا أَعْطَاهُ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا يَسْتَقِلُّهُ، وَكَانَ لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ شَيْئًا عِنْدَهُ إِلَّا أَعْطَاهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَكَانَ عَطَاؤُهُ عَطَاءَ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَقْرَ، وَكَانَ الْعَطَاءُ وَالصَّدَقَةُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَكَانَ سُرُورُهُ وَفَرَحُهُ بِمَا يُعْطِيهِ، أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِ الْآخِذِ بِمَا يَأْخُذُهُ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، يَمِينُهُ كَالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ" بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-.

 

إنَّ من فضائل الصدقة أنَّها مدعاةٌ لزيادة المال وبركته، ولإنفاق الله -تعالى- على عبده؛ ففي الحديث القدسي، قَالَ الَّلهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: "يَا ابْنَ آدَمَ، أَنْفِقْ، أُنْفِقْ عَلَيْكَ"(رواه البخاري ومسلم)، والملائكةُ في صباحِ كلِّ يومٍ، يَدعُون للمنفِق بالخَلَف، وللمُمسِكِ بالتلف، وهي دليلٌ على صدق الإيمان، فالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، لأنَّ المتصدقَ آثَر طاعةَ ربهِّ على محبته لماله؛ (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الْحَشْرِ: 9]، والصدقةُ سببٌ لتفريجِ الكروب، وتطهيرِ المرء من الذنوب، وتطفئ غضبَ الرب، وتدفع البلاءَ عن العبد، وتشرح الصدورَ، وتُدخِل على القلب السعادةَ والسرورَ، وتُداوي القلبَ والبدنَ، فداوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ.

 

وفي مسند أحمد: أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ، فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ".

 

والصدقة -يا عبادَ اللهِ- تَقِي الإنسانَ ميتةَ السوء، وتنفَعُ صاحبَها، حتى لو أُخرِجَتْ عنه بعدَ موته؛ فقد أتى سعدُ بنُ عبادة -رضي الله عنه- النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟، قَالَ: "سَقْيُ الْمَاءِ"(رواه النسائي في سُنَنه)، والصدقة سِتْرٌ للمرء من النار، ففي صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ"، وكلُّ الخَلْق يومَ القيامة تحتَ لهيبِ الشمسِ، حتى يُقضى بينَ الناس، إلا "سَبْعَةً، يُظِلُّهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ"، وذكَر منهم صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ"(رواه البخاري)، وما اجتمع الصيام مع الصدقة، وعيادة المريض واتِّباع الجنازة، إلا وجَبَت لصاحبِها الجنةُ، بفضل الله ورحمته، ففي صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ".

 

إخوةَ الإيمانِ: إنَّ خيرَ الصدقةِ الصدقةُ على القريب، الذي لا تَجِب عليكَ نفقتُه؛ لأنَّ الصدقة على المسكين صدقة، وعلى القريب صدقة وصلة، ففي صحيح البخاري، قالت امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَ اليَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ"، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ، أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ".

 

ومِنَ الصدقاتِ التي خُصَّتْ بالفضل؛ الصدقةُ الجاريةُ، وهي ما تَبقَى للإنسان بعدَ وفاتِه، وأجرُها يُصَبّ في ميزان حسناته، وأعظمُ الصدقةِ، أَنفَسُها عندَ أصحابها، وأكثرُها نفعًا وأبقاها أثرًا، وخيرُ الأعمالِ أدومُها وإن قَلَّ، وفي سنن ابن ماجه، قَالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ، فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ"؛ فتصدَّقُوا -أيها المؤمنون- بما تستطيعون، ولو كان جُهدَ مُقِلٍّ، ولا يحتقر المرءُ صدقتَه، فربَّ درهم سبَق ألفَ درهم، وإنَّ الله -عزَّ وجَلَّ- لَيُدخِلُ بلقمةِ الخبزِ، وقبضةِ التمرِ، ومثلهما ممَّا يَنتَفِع به المسكينُ الجنةَ؛ ففي الصحيحين: قَالَ النبيُّ صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ، مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ"، وجاءت امرأة من الأنصار، إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْمِسْكِينَ لَيَقُومُ عَلَى بَابِي، فَمَا أَجِدُ لَهُ شَيْئًا أُعْطِيهِ إِيَّاهُ، فَقَالَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنْ لَمْ تَجِدِي لَهُ شَيْئًا تُعْطِيهِ إِيَّاهُ، إِلاّ ظِلْفًا مُحْرَقًا، فَادْفَعِيهِ إِلَيْهِ فِي يَدِهِ"(رواه الترمذي).

 

وإن للصدقة -يا عبادَ اللهِ- أبوابًا واسعةً؛ فيدخل فيها الزكاةُ المفروضةُ، والنفقاتُ الواجبةُ، وأنواعُ التبرعات والمواساة، مع النيَّة الصالحة، وموافَقة الشريعة، بل الصدقةُ تشمَل كلَّ عمل طيب، يُقصَد به الخيرُ، فالكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ، وإعانةُ ذي الحاجة الملهوف صدقةٌ، والإصلاحُ بينَ المتخاصمينِ صدقةٌ، والإنفاقُ على الأهل والأولاد صدقةٌ، واللقمة يضعها الرجل في فم زوجته صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وكلُّ قرضٍ صدقةٌ، وكلُّ تهليلةٍ وتسبيحةٍ صدقةٌ، والأمرُ بالمعروف صدقةٌ، والنهي عن المنكر صدقةٌ، وتبسُّم المرءِ في وجهِ أخيه صدقةٌ، وإرشادُ الرجلِ في أرضِ الضلالِ صدقةٌ، وكفُّ الإنسانِ شرَّه عن الناس صدقةٌ، وكلُّ ذلك من أسبابِ جزيلِ العطايا، وتكفيرِ الخطايا، ورِفْعَةِ الدرجات، والفوز بأعالي الجنَّات، ورضوان رب الأرض والسماوات، فيا لَفوزِ المتصدقينَ.

 

فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: ادخِرُوا لأنفسكم عند بارئكم، وابتغوا بأموالكم الضعفاءَ والمساكين، والمحتاجين والمعوزين، فارحموهم تُرحَموا، وارزقوهم تُرزَقوا، وسارِعوا بالأعمال الصالحة قبلَ أن تموتوا، وصِلُوا ما بينَكم وبينَ اللهِ بالصدقة، في السرِّ والعلانيةِ، تُرزَقوا وتُنصَروا وتُجبَروا؛ وهل تُرزَقون وتُنصَرون إلا بضعفائكم؟

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْمُنَافِقُونَ: 9-11].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه، إنه كان غفَّارًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 1]، أحمده -سبحانه- وأشكره، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده -سبحانه- وأشكره، عدد خلقه وزنة عرشه، ورضا نفسه ومداد كلماته، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله -تعالى- بالحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

 

أما بعد، معاشر المؤمنين: ها نحنُ في هذه الأيام، نتهيَّأ لاستقبالِ موسمِ الطاعاتِ، والجودِ والإحسانِ والقُرُباتِ، شهرِ النفوسِ السخيةِ، والأكفِّ النَّدِيةِ، شهر يتنافس فيه الصالحون، ويتسابَق المحسنون، ولا شكَّ أنَّ الحسنةَ، تتضاعَفُ في الزمان الفاضل، كما أنَّها تتضاعفُ في المكان الفاضل، فالصدقة في شهر رمضان، يزدادُ فضلُها ويَعظُمُ أجرُها، وسيدُنا وقدوتُنا -صلى الله عليه وسلم-، ضرَب أحسنَ الأمثلة في العطاء والكرم، في سائر العام، وإذا حلَّ شهرُ الصيام، يزداد عطاؤُه عطاءً، وسخاؤُه سخاءً، فيكونُ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، قال ابنُ القيم -رحمه الله-: "وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، الإِكْثَارُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ؛ فَكَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ في رَمَضَانَ، وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ، أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، يُكْثِرُ فِيهِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالإحْسَانِ، وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّلاةِ وَالذِّكْرِ وَالاعْتِكَافِ، وَكَانَ يَخُصُّ رَمَضَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لا يَخُصُّ غَيْرَهُ بِهِ مِنَ الشُّهُورِ".

 

فيا إخوةَ الإيمانِ: استجلِبُوا رحمةَ ربِّكم، بتفقُّد أحوال ذوي أرحامِكم، والمحتاجينَ من أقاربِكم وجيرانِكم؛ فإنَّ اللهَ رحيمٌ، يحب عبادَه الرحماءَ، كريمٌ يُحِبُّ الكرمَاءَ، جَوادٌ يُحِبُّ الجودَ، عفوٌّ يُحبُّ العفوَ، وأكثِرُوا في شهر رمضان، من أنواع العبادات والصدقات، وتحرَّوْا في بذلها لمستحقِّيها، أو تسليمها للجهات الموثوقة والمصرَّح لها، من مبادَرات الجود والإحسان، التي تؤدِّي الصدقاتِ إلى أهلها، وتَصرِفُها في مصارفها الشرعيَّة، واحذَرُوا كلَّ الحَذَر، من التعامُل مع الجهات المجهولة، وغير المصرَّح لها بجَمْع الصدقات، عبرَ وسائل التواصُل الاجتماعيّ وغيرها.

 

ثم اعلموا معاشر المؤمنين، أن الله أمركم بأمر كريم، ابتدأ فيه بنفسه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

 

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمينَ، اللهم أَصْلِحْ أحوالَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهم إنَّا نسألُكَ بفضلِكَ ومِنَّتِكَ، وجودِكَ وكرمِكَ، أن تحفَظَنا مِنْ كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، اللهم ادفع عَنَّا الغلا والوبا والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن، اللهم إنَّا نعوذ بكَ من جَهد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وسوء القضاء، اللهم إنَّا نسألك من الخير كلِّه، عاجِلِه وآجِلِه، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بكَ من الشرِّ كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، اللهم إنَّا نسألكَ الجنةَ وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ، اللهم أحسِنْ عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأَجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وكن للمستضعَفين منا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، وفق خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، واجزه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، اللهم وفقه وولي عهده الأمين، لما فيه خير للإسلام والمسلمين، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ شباب المسلمين من الفِرَق الضالَّة، والمناهج المنحرفة، اللهم جنبهم التفرق والحِزبيَّة، وارزقهم الاعتدال والوسطية، اللهم حبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم من الراشدين، اللهم انفع بهم أوطانهم وأمتهم، برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم مَنْ أرادَنا وبلادَنا وأمنَنا وشبابَنا بسوء، فأَشْغِلْهُ بنفسه، واجعَلْ كيدَه في نحره، بقوتك وعزتك يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، عاجلًا غير آجل، برحمتك يا أرحم الراحمين، لا إله إلا أنتَ سبحانك، إنا كنا من الظالمين.

 

ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا؛ (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life