عناصر الخطبة
1/عظم حق الوالدين على الأبناء 2/الأمر بالإحسان للوالدين 3/تعريف البر والعقوق 4/صور عقوق الوالدين 4/جزاء البر والعقوق في الدنيا والآخرة.

اقتباس

إِنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَظِيمٌ، وَمَعْرُوفَهُمَا لَا يُجَازَى، وَإِنَّ مِنْ حَقِّهِمَا الْمَحَبَّةَ وَالتَّقْدِيرَ، وَالطَّاعَةَ وَالتَّوْقِيرَ، وَالتَّأَدُّبَ أَمَامَهُمَا، وَصِدْقَ الْحَدِيثِ مَعَهُمَا، وَتَحْقِيقَ رَغْبَتِهِمَا فِي الْمَعْرُوفِ، وَتُنْفِقُ عَلَيْهِمَا مَا اسْتَطَعْتَ...

الْخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَتَعَلَّقَتِ الْقُلُوبُ بِمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ أَعْظَمَ إِحْسَانًا وَلَا أَكْثَرَ فَضْلًا بَعْدَ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنَ الْوَالِدَيْنِ؛ حَيْثُ قَرَنَ اللهُ حَقَّهُمَا بِحَقِّهِ، وَشُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ، وَأَوْصَى بِهِمَا إِحْسَانًا بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ؛ (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[النساء:36].

 

للهِ -سُبْحَانَهُ- نِعْمَةُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَلِلْوَالِدَيْنِ بِإِذْنِهِ نِعْمَةُ التَّرْبِيَةِ وَالْإِيلَادِ. يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ثَلَاثُ آيَاتٍ مَقْرُونَاتٌ بِثَلَاثٍ، لَا تُقْبَلُ وَاحِدَةٌ بِغَيْرِ قَرِينَتِهَا: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ)[المائدة:92]؛ فَمَنْ أَطَاعَ اللهَ وَلَمْ يُطِعِ الرَّسُولَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ (وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ)[النور:56]؛ فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يُزَكِّ؛ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَ(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)؛ فَمَنْ شَكَرَ اللهَ وَلَمْ يَشْكُرْ لِوَالِدَيْهِ؛ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ فَرِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللهِ مِنْ سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِحْسَانُ الْوَالِدَيْنِ عَظِيمٌ، وَفَضْلُهُمَا سَابِقٌ، تَأَمَّلُوا حَالَ الصِّغَرِ، وَتَذَكَّرُوا ضَعْفَ الطُّفُولَةِ؛ (رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:24]؛ حَمَلَتْكَ أُمُّكَ فِي أَحْشَائِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ؛ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، حَمَلَتْكَ كُرْهًا، وَوَضَعَتْكَ كُرْهًا، وَلَا يَزِيدُهَا نُمُوُّكَ إِلَّا ثِقَلًا وَضَعْفًا.

 

وَعِنْدَ الْوَضْعِ رَأَتِ الْمَوْتَ بِعَيْنِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا بَصُرَتْ بِكَ إِلَى جَانِبِهَا سُرْعَانَ مَا نَسِيَتْ آلَامَهَا، وَعَلَّقَتْ فِيكَ جَمِيعَ آمَالِهَا، رَأَتْ فِيكَ الْبَهْجَةَ وَالْحَيَاةَ وَزِينَتَهَا، ثُمَّ شُغِلَتْ بِخِدْمَتِكَ لَيْلَهَا وَنَهَارَهَا، تُغَذِّيكَ بِصِحَّتِهَا؛ طَعَامُكَ دَرُّهَا، وَبَيْتُكَ حِجْرُهَا، وَمَرْكَبُكَ يَدَاهَا وَصَدْرُهَا وَظَهْرُهَا.

 

تُحِيطُكَ وَتَرْعَاكَ، تَجُوعُ لِتَشْبَعَ أَنْتَ، وَتَسْهَرُ لِتَنَامَ أَنْتَ؛ فَهِيَ بِكَ رَحِيمَةٌ، وَعَلَيْكَ شَفِيقَةٌ؛ إِذَا غَابَتْ عَنْكَ دَعَوْتَهَا، وَإِذَا أَعْرَضَتْ عَنْكَ نَاجَيْتَهَا، وَإِذَا أَصَابَكَ مَكْرُوهٌ اسْتَغَثْتَ بِهَا، تَحْسَبُ كُلَّ الْخَيْرِ عِنْدَهَا، وَتَظُنُّ أَنَّ الشَّرَّ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ، إِذَا ضَمَّتْكَ إِلَى صَدْرِهَا أَوْ لَحَظَتْكَ بِعَيْنِهَا.

 

أَمَّا أَبُوكَ؛ فَأَنْتَ لَهُ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ، يَكِدُّ وَيَسْعَى، وَيَدْفَعُ عَنْكَ صُنُوفَ الْأَذَى، يَنْتَقِلُ فِي الْأَسْفَارِ، يَجُوبُ الْفَيَافِيَ وَالْقَفَارَ، وَيَتَحَمَّلُ الْأَخْطَارَ بَحْثًا عَنْ لُقْمَةِ الْعَيْشِ، يُنْفِقُ عَلَيْكَ وَيُصْلِحُكَ وَيُرَبِّيكَ؛ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ هَشَّ، وَإِذَا أَقْبَلْتَ إِلَيْهِ بَشَّ، وَإِذَا خَرَجَ تَعَلَّقْتَ بِهِ، وَإِذَا حَضَرَ احْتَضَنْتَ حِجْرَهُ وَصَدْرَهُ، هَذَانِ هُمَا وَالِدَاكَ، وَتِلْكَ هِيَ طُفُولَتُكَ وَصِبَاكَ؛ فَلِمَاذَا التَّنَكُّرُ لِلْجَمِيلِ؟ وَعَلَامَ الْفَظَاظَةُ وَالْغِلْظَةُ، وَكَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ؟!.

 

أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا -وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَقْبَل رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ؛ أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ، قَالَ: "فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟" قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا، قَالَ: "فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ، فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا".

 

وَفِي حَدِيثٍ سَنَدُهُ جَيِّدٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَشِيرُهُ فِي الْجِهَادِ؛ فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "أَلَكَ وَالِدَانِ؟" قَالَ: نَعَمْ؟ قَالَ: "الْزَمْهُمَا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ أَقْدَامِهِمَا".

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ فِي اللهِ: إِنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَظِيمٌ، وَمَعْرُوفَهُمَا لَا يُجَازَى، وَإِنَّ مِنْ حَقِّهِمَا الْمَحَبَّةَ وَالتَّقْدِيرَ، وَالطَّاعَةَ وَالتَّوْقِيرَ، وَالتَّأَدُّبَ أَمَامَهُمَا، وَصِدْقَ الْحَدِيثِ مَعَهُمَا، وَتَحْقِيقَ رَغْبَتِهِمَا فِي الْمَعْرُوفِ، وَتُنْفِقُ عَلَيْهِمَا مَا اسْتَطَعْتَ؛ "أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ".

 

ادْفَعْ عَنْهُمَا الْأَذَى؛ فَقَدْ كَانَا يَدْفَعَانِ عَنْكَ الْأَذَى، لَا تُحَدِّثْهُمَا بِغِلْظَةٍ أَوْ خُشُونَةٍ أَوْ رَفْعِ صَوْتٍ، جَنِّبْهُمَا كُلَّ مَا يُورِثُ الضَّجَرَ؛ (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا)[الإسراء:23]؛ تَخَيَّرِ الْكَلِمَاتِ اللَّطِيفَةَ، وَالْعِبَارَاتِ الْجَمِيلَةَ، وَالْقَوْلَ الْكَرِيمَ.

 

تَوَاضَعْ لَهُمَا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ؛ رَحْمَةً وَعَطْفًا، وَطَاعَةً وَحُسْنَ أَدَبٍ؛ لَقَدْ أَقْبَلَا عَلَى الشَّيْخُوخَةِ وَالْكِبَرِ، وَتَقَدَّمَا نَحْوَ الْعَجْزِ وَالْهَرَمِ، بَعْدَ أَنْ صَرَفَا طَاقَتَهُمَا وَصِحَّتَهُمَا وَأَمْوَالَهُمَا فِي تَرْبِيَتِكَ وَإِصْلَاحِكَ. تَأَمَّلْ -حَفِظَكَ اللهُ- قَوْلَ رَبِّكَ: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ)[الإسراء:23]؛ إِنَّ كَلِمَةَ (عِنْدَكَ) تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْتِجَائِهِمَا وَاحْتِمَائِهِمَا وَحَاجَتِهِمَا؛ فَلَقَدْ أَنْهَيَا مُهِمَّتَهُمَا، وَانْقَضَى دَوْرُهُمَا، وَابْتَدَأَ دَوْرُكَ، وَهَا هِيَ مُهِمَّتُكَ؛ (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا)[الإسراء: 23].

 

قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنَّ لِي أُمًّا بَلَغَ مِنْهَا الْكِبَرُ أَنَّهَا لَا تَقْضِي حَوَائِجَهَا إِلَّا وَظَهْرِي لَهَا مَطِيَّةٌ؛ فَهَلْ أَدَّيْتُ حَقَّهَا؟ قَالَ: لَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَصْنَعُ بِكَ ذَلِكَ وَهِيَ تَتَمَنَّى بَقَاءَكَ، وَأَنْتَ تَصْنَعُهُ وَأَنْتَ تَتَمَنَّى فِرَاقَهَا، وَلَكِنَّكَ مُحْسِنٌ، وَاللهُ يُثِيبُ الْكَثِيرَ عَلَى الْقَلِيلِ.

 

نَعَمْ، إِنَّ حَقَّهُمَا عَظِيمٌ، وَلَكِنِ الْجَأْ إِلَى الدُّعَاءِ لَهُمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ؛ اعْتِرَافًا بِالتَّقْصِيرِ، وَأَمْلًا فِيمَا عِنْدَ اللهِ؛ (رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:24].

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ فِي اللهِ: إِنَّ الْعَارَ وَالشَّنَارَ أَنْ يَفْجَأَ الْوَالِدَانِ بِالتَّنَكُّرِ لِلْجَمِيلِ؛ كَانَا يَتَطَلَّعَانِ لِلْإِحْسَانِ، وَيُؤَمِّلَانِ الصِّلَةَ بِالْمَعْرُوفِ؛ فَإِذَا بِهَذَا الْمَخْذُولِ قَدْ تَنَاسَى ضَعْفَهُ وَطُفُولَتَهُ، وَأُعْجِبَ بِشَبَابِهِ وَفُتُوَّتِهِ، وَغَرَّهُ تَعْلِيمُهُ وَثَقَافَتُهُ، وَتَرَفَّعَ بِجَاهِهِ وَمَرْتَبَتِهِ، يُؤْذِيهِمَا بِالتَّأَفُّفِ وَالتَّبَرُّمِ، وَيُجَاهِرُهُمَا بِالسُّوءِ وَفُحْشِ الْقَوْلِ، يَقْهَرُهُمَا وَيَنْهَرُهُمَا، بَلْ رُبَّمَا لَطَمَ بِكَفٍّ أَوْ رَفَسَ بِرِجْلٍ؛ يُرِيدَانِ حَيَاتَهُ، وَيَتَمَنَّى مَوْتَهُمَا، وَكَأَنِّي بِهِمَا وَقَدْ تَمَنَّيَا أَنْ لَوْ كَانَا عَقِيمَيْنِ؛ تَئِنُّ لَهُمَا الْفَضِيلَةُ، وَتَبْكِي مِنْ أَجْلِهِمَا الْمُرُوءَةُ.

 

يَا أَيُّهَا الْمَخْذُولُ: هَلْ حِينَمَا كَبِرَا؛ فَاحْتَاجَا إِلَيْك جَعَلْتَهُمَا أَهْوَنَ الْأَشْيَاءِ عَلَيْكَ؟! قَدْ عَمَمْتَ غَيْرَهُمَا بِالْإِحْسَانِ، وَقَابَلْتَ جَمِيلَهُمَا بِالنِّسْيَانِ؛ شَقَّ عَلَيْكَ أَمْرُهُمَا، وَطُولُ عُمْرِهِمَا؛ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ بَرَّ بِوَالِدَيْهِ بَرَّ بِهِ بَنُوهُ، وَمَنْ عَقَّهُمَا عَقُّوهُ، وَلَسَوْفَ تَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى بِرِّ أَبْنَائِكَ، وَسَوْفَ يَفْعَلُونَ مَعَكَ كَمَا فَعَلْتَ مَعَ وَالِدَيْكَ، وَكَمَا تُدِينُ تُدَانُ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ يَقُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ تُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ؛ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ".

 

وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ: عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، بِهَذَا صَحَّ الْخَبَرُ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

 

وَفِي حَدِيثٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ عَطَاءَهُ. وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَالرَّجِلَةُ مِنَ النِّسَاءِ".

 

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِيَّاكُمْ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ؛ فَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ، وَاللهِ لَا يَجِدُ رِيحَهَا عَاقٌّ"، وَاعْلَمُوا أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرِيضَةٌ لَازِمَةٌ، وَأَمْرٌ مُحَتَّمٌ، وَهُوَ سَعَةٌ فِي الرِّزْقِ، وَطُولٌ فِي الْعُمْرِ، وَحُسْنٌ فِي الْخَاتِمَةِ.

 

 

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا)[الإسراء:23-25].

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنَ الْبِرِّ: أَنْ يَتَعَهَّدَ الرَّجُلُ أَصْدِقَاءَ وَالِدَيْهِ، وَيُحْسِنَ كَرَامَتَهُمْ، وَيَفِيَ بِحَقِّهِمْ؛ فَقَدْ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ".

 

وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا؟ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا".

 

فَاسْتَيْقِنُوا هَذَا -رَحِمَكُمُ اللهُ-؛ فَالْبِرُّ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ زِيَادَةٌ فِي الْعُمْرِ، وَكَثْرَةٌ فِي الرِّزْقِ، وَصَلَاحٌ فِي الْأَبْنَاءِ؛ فَمَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ بَرَّهُ أَبْنَاؤُهُ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life