عناصر الخطبة
1/رفع الحرج عن العباد في التكاليف 2/التيسير على العباد من مقاصد الشريعة 3/من صور اليُسْر في أحكام الصيام 4/التحذير من الفطر في رمضان بدون عذر.اقتباس
من رحمة الله بعباده أنْ شَرَعَ لهم الدِّينَ لرعاية مصالحهم وتحقيق المنافع لهم كما يعلمها الخالق -سبحانه-, وقد أكَّدَتْ جميعُ الأحكام التشريعية في الإسلام عل مبدأ رفع الحرج عن العباد في التكاليف, والتيسير عليهم في التطبيق دون مشقَّة أو ضَرَر أو عُسْر....
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا, وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أمَّا بعد: من رحمة الله بعباده أنْ شَرَعَ لهم الدِّينَ لرعاية مصالحهم وتحقيق المنافع لهم كما يعلمها الخالق -سبحانه-, وقد أكَّدَتْ جميعُ الأحكام التشريعية في الإسلام عل مبدأ رفع الحرج عن العباد في التكاليف, والتيسير عليهم في التطبيق دون مشقَّة أو ضَرَر أو عُسْر, قال الله -تعالى-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة:286]؛ وقال -سبحانه-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78].
ويُعلن القرآن الكريم مبدأَ اليُسر في أحكام الصيام في قوله -تعالى-: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة:185]. فإرادة اليُسر للعباد من مقاصد الدين العظيمة؛ لِيُكْمِلوا عِدَّةَ صومهم, ويُكبِّروا الله -تعالى- على ما هداهم, ولعلهم يشكرونه بسبب الترخيص والتيسير.
وقد شملت أحكام الصيام في رمضان ترخيصاً بالإفطار لأصحاب الأعذار؛ لدفع الحرج أو الضَّرر عنهم, وتقديراً لظروفهم المتنوعة, ومن ذلك: السَّماح بإتيان الأزواج لنسائهم في ليالي رمضان, فقد ذَكَرَ المُفسِّرون بأنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، إِذَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ النِّسَاءُ وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ إِلَى مِثْلِهَا من القابلة، ثم إنَّ ناساً من المسلمين أصابوا النساءَ والطعامَ فِي رَمَضَانَ بَعْدَ الْعَشَاءِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تعالى-: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ)[البقرة: 187].
ومن اليُسر: وجوب الإفطار على المرأة الحائض والنفساء في شهر رمضان, مع وجوب قضاء الأيام التي أفطرت فيها مراعاةً لظروفها الصعبة, ومنعاً من تأثير الصيام عليها.
ومن اليُسر: الترخيص بالفِطْرِ للشيخ الكبير, والمريض الذي لا يُرجى شفاؤه, فيكتفيان بدفع فدية طعام مسكينٍ عن كلِّ يومٍ أفطرا فيه, ويسقط عنهما القضاء لتعذره عليهما؛ قال -تعالى-: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)[البقرة:184]. قال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: "هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لاَ يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا؛ فَلْيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا"(رواه البخاري).
ومن اليُسر: إباحة الفِطر للمريض مرضاً عارضاً يُرجى شفاؤه, وللمسافر سفراً شرعياً, مع وجوب قضاء الأيام التي فاتتهما؛ قال -تعالى-: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)[البقرة: 185].
ويَختار المسافِرُ الصيامَ أو الإفطارَ حسب تحمله؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي رَمَضَانَ, فَمِنَّا الصَّائِمُ, وَمِنَّا الْمُفْطِرُ, فَلاَ يَجِدُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ, وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ, يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ, وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ"(رواه مسلم).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ؛ فَرَأَى رَجُلاً قَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ, فَقَالَ: "مَا لَهُ؟". قَالُوا: رَجُلٌ صَائِمٌ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ"(رواه مسلم).
ومن اليُسر: الترخيص للحامل والمُرضِعِ بالإفطار؛ إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما, بناءً على توصية طبيبٍ مسلمٍ حاذق, أو شعورهما العملي بالضرر.
ومن اليُسر: صحة الصيام إذا أكل أو شَرِبَ ناسياً؛ حيث يتم صيامه ولا قضاء عليه, فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ نَسِىَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ"(رواه مسلم).
اللهم بارك لنا في الكتاب والسُّنة, وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها المسلمون: ومن اليُسر: النهي عن صيام الوِصال رحمةً بالعباد, واجتناباً للضَّرر الحاصل منه, فعن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-؛ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ" مَرَّتَيْنِ. قِيلَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ. قَالَ: "إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي, فَاكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ"(رواه البخاري).
ومن اليُسر: الحُكم بكفَّارةٍ لِمَنْ أفطر عمداً مع التخيير فيها, والتسامح مع العاجز عنها إشفاقاً عليه, وتداركاً للخطأ الحاصل, وتيسيراً على عِبادِه التائبين, ودفع الحرج عنهم, فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: هَلَكْتُ. فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟" قَالَ: وَقَعْتُ بِأَهْلِي فِي رَمَضَانَ, قَالَ: "تَجِدُ رَقَبَةً؟" قَالَ: لاَ, قَالَ: "هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟" قَالَ: لاَ, قَالَ: "فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟" قَالَ: لاَ, قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِعَرَقٍ, وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ, فَقَالَ: "اذْهَبْ بِهَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ". قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا, ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"(رواه البخاري).
فهنيئاً للصائمين بفضائل صيامهم, ولأصحابِ الأعذار بسماحة الإسلام ويُسره, وتوبةِ الله ورحمته على مَنْ فرَّطَ في الإفطار ثم ندم فتدارك أمرَه بالتعويض بالقضاء والكفَّارة.
ويا خسارة مَنْ أفطر في رمضان يوماً بغير عذرٍ مشروع, فإنه أتى كبيرةً عظيمةً, وفاتته فضائلُ الصوم وبركاتُ شهر رمضان, قال النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الرؤيا التي رآها: "حتَّى إذا كنتُ في سواءِ الجَبَلِ، فإذا أنا بأصْواتٍ شديدةٍ، فقلتُ: ما هذه الأصواتُ؟ قالوا: هذا عُواءُ أهلِ النارِ. ثُمَّ انْطَلقَ بي، فإذا أنا بقومٍ مُعَلَّقينَ بعَراقيبِهمْ، مُشَقَّقَةٍ أشْداقُهمُ تسيلُ أشْداقهم دَماً. قال: قلتُ: مَنْ هؤلاء؟ قيلَ: هؤلاء الذين يُفَطِرونَ قَبْل تَحِلَّةِ صوْمِهِمْ -أي: قبل وقت الإفطار-"(رواه ابن خزيمة وابن حبان).
اللهم أعِنَّا على الصيام والقيام وقراءة القرآن, واجعلنا في شهر رمضان من عُتقائك من النيران, وأدخلنا الجنة من باب الريان, يا كريم يا منَّان.
التعليقات