عناصر الخطبة
1/من ثمرات التعرف على أسماء الله -تعالى 2/معنى اسم الله "الودود" 3/بيان من يحبهم الله -تعالى- 4/من آثار محبة الله على عبادهاقتباس
ومن أسمائه الحسنى "الْوَدُودُ"، وهو اسم من أسماء الله -تعالى- مأخوذ من الوُد بضم الواو بمعنى المحبة الصافية الخالصة، فالودودُ هو المحب المحبوب، بمعنى وادٌ مودود، فهو الواد لأنبيائه، وملائكته، وعباده المؤمنين، وهو المحبوب لهم، بل لا شيء أحبَّ إليهم منه...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الودود، المحب الذي أحبَّ أولياءَه وأحبوه، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيراً.
أَمَا بَعْدُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الإخوة: إنَّ التعرف على أسماء الله -تعالى- ومعانيها وآثارها يذكي في قلب العبد الإيمان، ويغرسُ فيه حب الله -تعالى- والتعلقَ به وحده، وسببٌ من أسباب دخول الجنة.
ومن أسمائه الحسنى "الْوَدُودُ"، وهو اسم من أسماء الله -تعالى- مأخوذ من الوُد بضم الواو بمعنى المحبة الصافية الخالصة، فالودودُ هو المحب المحبوب، بمعنى وادٌ مودود، فهو الواد لأنبيائه، وملائكته، وعباده المؤمنين، وهو المحبوب لهم، بل لا شيء أحبَّ إليهم منه، ولا تعادل محبةُ أصفياء اللهِ لِلَّهِ محبةً أخرى، لا في أصلِها، ولا في كيفيتِها، ولا في متعلقاتها.
ونحن نعتقد ثبوت اسم الله الْوَدُودُ المقتضي لصفة الود والمحبة من الله -تعالى- لعباده المؤمنين، من غير تحريف ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تشبيه؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وهُو الودُودُ يُحبُّهُم ويُحبُّهُ *** أحبابُهُ والفَضْلُ للمنَـانِ
ومحبةُ الله -تعالى- لعباده ومحبتُهم له، ثابتةٌ في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وقد ذكر اللهُ اتصافه بها في كتابه كثيرًا، وهي من صفاته الفعلية التي يفعلها متى شاء وكيف شاء، وثبوتها له -جل ذكره- من ثلاثة أوجه: من وجه التصريح بالمحبة، ومن وجه إثبات الخلة، ومن وجه مدلول اسمه الودود، ومحبة الله سُبْحَانَهُ وَ-تعالى- يشترك فيها المؤمنون جميعاً، وإن كَانَ للنبي -صلى الله عليه وسلم- الحظ الأوفر من محبة الله -تعالى-.
أيها الإخوة: قد جاءت صفة المحبة في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مسندة إلى أعيان وإلى أفعال، فمن الأعيان قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [آل عمران:76]، وقال: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات:9]، يقول الله -عز وجل-: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195]، ويقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222].
وجاءت المحبة في قوله -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران:31]، من جهتين: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) فالله -عز وجل- يُحَب، (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وهو -سبحانه وتعالى- يُحِب، وجاء ذكر حبه بالسلب في قوله: (لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام:141] هذا للأعيان.
وجاء الحب مسندًا إلى الأفعال في قوله -تعالى-: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ) [النساء:148] هذا في النفي، وفي الإثبات ما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ"(الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وقال الألباني حديث حسن صحيح)، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ"(أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وصححه الأرنؤوط)، وقول الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) [الصف:4]، وهذا يشمل محبة الذات والصفة، أي: الفعل والفاعل.
وقد جاء إسناد المحبة إلى أشخاص، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ"(البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، وزاد في صحيح مسلم: "وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ".
وتارة تأتي المحبة باسم الخُلة، والفرق بين الخُلة والمحبة هو: أن الخُلةَ أعلى درجات المحبة، ويدل على ذلك قول الله -عز وجل-: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) [النساء:125]، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي؛ وَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا"(مسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، ويريد بصاحبكم نفسه -صلى الله عليه وسلم-.
أيها الإخوة: وَالله -تعالى- يحب، ومحبته -تَبَارَكَ وَتعالى- درجةٌ عالية، يحظى بها الإِنسَانُ بالاجتهادِ في طاعة الله، والاجتهادِ في اتباع رَسُولِه -صلى الله عليه وسلم-، فَقَدَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ"(البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "ومعنى قوله: "كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ" أن الإنسان إذا كان وليّاً لله -عزّ وجل- وتذكر ولاية الله حفظ سمعه، فيكون سمعه تابعاً لما يرضي الله -عزّ وجل- وكذلك يقال في بصره، وفي: يده، وفي: رجله... وقيل: المعنى أن الله يسددُه في سمعه وبصره ويده ورجله، ويكون المعنى: أن يُوفّقَ هذا الإنسانُ فيما يسمع ويبصر ويمشي ويبطش، وهذا أقرب، وأن المراد: تسديد الله -تعالى- للعبد في هذه الجوارح".
اللهم اجعلنا ممن يسمع ويبصر ما يرضيك عنا، واحم جوارحنا من الخطأ والزلل، وصلى الله على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن لأهلِ العلم -رحمهم الله- في قديم الزمان وحديثة أقوالٌ تبين آثارَ محبةِ الله على عباده، من ذلك: ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: "إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ تَضُرَّهُ الذُّنُوبُ"، مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ فَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّ مَنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا فَهُوَ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ، وَالْأَئِمَّةِ"، وقال: "وَاَللَّهُ -سُبْحَانَهُ- يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُبْغِضُ مَنْ لَيْسَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَرَحْمَتُهُ أَقْرَبُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ فَرَحْمَتُهُ أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنْهُ"، وقال: "مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ اللَّهَ".
وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "من أحبّهُ الله رزقهُ محبتَه، وطاعتَه، والاشتغال بذكره، فأوجب ذلك القربَ منه، والزلفى لديه، والحظوةَ عنده"، وقال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "محبة الله -عز وجل- للعبد هي غايةُ ما يتمناه الإنسان، وأكملُ مراتب الإنسان".
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "إذا أحب الله عبدًا يسر له الأسباب، وهون عليه كل عسير، ووفقه لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأَقْبَلَ بقلوبِ عِبادِهِ إليه بالمحبة والوداد، وإذا أحبَّ اللهُ عبده قَبِلَ منه اليَسِيرَ من العمل، وغفر له الكثير من الزلل"، وقال -رحمه الله-: "محبة الله للعبد، هي أجلُ نعمة أنعم بها عليه، وأفضلُ فضيلة، تفضل الله بها عليه".
وقال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-: "إذا رأيت شخصًا يُحبهُّ الناس، من أهل الخير والإيمان، فهذا علامةٌ على أن الله قد أحبّه، وأحبته الملائكة"، وقال: "اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجلب محبة الله للعبد"، وقال ابن رجب -رحمه الله-: "أفضل ما تُستجلَب به محبةُ الله -عز وجل- فعلُ الواجبات وتركُ المنكرات... ومتى تمكنت المحبة في القلب لم تنبعث الجوارح إلا في طاعة الرب... ومن امتلأ قلبه من محبة الله -عز وجل- أحبَّ ما يُحبّه، وإن شقَّ على النفس، وتألمت به، كما يُقال: المحبة تُهَوِّنُ الأثقالَ".
ويقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: "يا أيها المحب لربه المشتاق لقربه ولقائه، المسارع في مرضاته: أبشر بقرب لقاء الحبيب، فإنه آت، وكل ما هو آت قريب، فتزود للقائه، وسر نحوه، مستصحبًا الرجاء، مؤملًا الوصول إليه".
فاللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، وصلوا وسلموا على نبيكم؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات