الهجرة وصناعة الأمل

عقيل بن محمد المقطري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ النصر كالهزيمة كل شيء بقدر 2/ أعظم دروس الهجرة 3/ انتصار الأمة على أعدائها عبر الزمن 4/ رحلة الهجرة وصعابها 5/ تعلم فن صناعة الأمل
اهداف الخطبة

اقتباس

إن نصر الله يأتي للمؤمنين من حيث لا يحتسبون، لقد طاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على القبائل ورؤسائها وزعمائها، ورحل إلى الطائف، وظل يدعو عشر سنوات وهو عليه الصلاة والسلام يرجو أن يجد أصحاب الجاه والمنعة والنصرة، فكان يقول عليه الصلاة والسلام: «من يؤويني، من ينصرني حتى أبلّغ رسالة ربي، وله الجنة، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر كذا قال، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع» ..

 

 

 

 

الحمد لله الذي شرع الهجرة والجهاد لنشر الدين وقمع الفساد، نحمده تعالى إذ نصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المهاجر بدينه من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، والقائل عليه الصلاة والسلام: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد.. عباد الله.. من كان يظن أن أولئك النفر الستة الذين استجابوا للدعوة منذ بدايتها سيكونون بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها؟!

من كان يخطر بباله أن تشهد تلك الليلة من ليالي موسم الحج ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه يطوفان بمنى حتى إذا سمعا صوت رجال يتكلمون مالا إليهم، فقالا وقالوا، وتحدثا وسمعوا وبينا، وأفصحوا فانشرحت الصدور ولانت القلوب، ونطقت الألسن بالشهادتين، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب ينشرون نور الإسلام العظيم الذي جاء على الباطل فتركه صلدًا، فيا سبحان الله!!

إن نصر الله يأتي للمؤمنين من حيث لا يحتسبون، لقد طاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على القبائل ورؤسائها وزعمائها، ورحل إلى الطائف، وظل يدعو عشر سنوات وهو عليه الصلاة والسلام يرجو أن يجد أصحاب الجاه والمنعة والنصرة، فكان يقول عليه الصلاة والسلام: «من يؤويني، من ينصرني حتى أبلّغ رسالة ربي، وله الجنة، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر كذا قال، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع».

إنها مقادير الله عز وجل يوم يأذن الله سبحانه وتعالى بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة، والنور من الظلماء، والله سبحانه هو المؤيد الناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله عز وجل.

تأملوا -أيها الإخوة الفضلاء- يُعرِض الكبراء والزعماء، وتتألب القبائل، وتتآمر الوفود، وتسد الأبواب، ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة، فهل يعقل هذا المعنى المتعلقون بأذيال المادية، والآيسون من قدرة الله سبحانه وعظمته من نصر الأمة المغلوبة على أمرها.

إن الله سبحانه يضع نصره حيث يشاء، وبيد من يشاء، وعلينا أن نعمل، وأن نحمل دعوتنا إلى العالم لا تحقرن أحدًا، ولا تستكبر على أحد وعلينا مواصلة السير مهما أظلم الليل واشتدت الأحزاب، فمن يدري لعل الله سبحانه يضع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجر، ومن يدري لعل آلامنا هذه محاضن العز والتمكين؟!

إخوة الإسلام: إن من أعظم دروس الهجرة وأجلّ عِبَرها هو صناعة الأمل، نعم، الأمل في موعود الله، الأمل في نصر الله، الأمل في مستقبل الدعوة، الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة، لقد رأينا كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين، وها هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصنع الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله.

قال ابن إسحاق رحمه الله: فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فخرج عليه الصلاة والسلام وهو يتلو قول الله عز وجل: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس: 9]. خرج وهو يذر التراب على رؤوسهم، فانظر كيف انبلج فجر الأمل من قلب ظلمة سوداء، ورب محنة في طيها منحة!! قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].

انظروا ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في مكة (حصار – تعذيب – تشويه -تجويع – تخويف)، فجعل الله نصره وتمكينه في المدينة، ارتدت القبائل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وظن الظانون أن الإسلام زائل لا محالة، فإذا به يمتد ليعم أرجاء الأرض، وهاجت الفتن في الأمة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه حتى قيل: لا قرار لها، ثم عادت المياه إلى مجاريها.

وأطبق التتار على أمة الإسلام حتى أبادوا حاضرتها بغداد، وحتى قيل: ذهبت ريح الإسلام فكسر الله سبحانه الأعداء، ونصر المسلمين في معركة عين جالوت، وعاد للأمة مجدها.

وتمالأ الصليبيون وجيَّشوا جيوشهم، وخاضت خيولهم في دماء المسلمين إلى رُكَبها حتى إذا استيأس الإيمان نهض صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- فعاد للأمة الثقة في النصر ورجحت كفة المسلمين وعادت البسمة لبيت المقدس.

وقويت شوكة الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد، والفاطميون على مصر، وكتبوا سبَّ الصحابة على المحاريب، ثم انقشعت الغمة، واستطلق وجه السنة ضاحكًا. نعم إن اليأس والقنوط ليسا من خُلق المسلم، قال الله تعالى: (يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف: 87]. وقال الله سبحانه: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) [الحجر: 56].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد أيها الإخوة الفضلاء، ويمكث عليه الصلاة والسلام ثلاث أيام في غار ثور، ومرة أخرى يصنع الأمل في قلب المحنة، وتغشى القلوب سكينة الله عز وجل، يصل المطاردون إلى باب الغار، فيفزع الصديق لذلك، فيزرع عليه الصلاة والسلام الثقة بنصر الله في قلب صاحبه وهو يقول: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ"، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا».

وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نم فالمخاوف كلهن أمان

ويبدآن في طريق طويل موحش غير مأمون ليس عندهما سلاح ولا مؤنس من البشر حتى إذا كان في طريق الساحل لحق بهما سراقة بن مالك طامعًا في جائزة قريش المرصودة، ومرة ثالثة وهذا الفارس على وشك أن يقبض عليهما ليقودهما أسيرين إلى قريش تذيقهما النكال مرة ثالثة يصنع الأمل وتسيخ قدما فرس سراقة في الأرض، فيطلب الأمان فيبشّره رسول الله عليه الصلاة والسلام بسواري كسرى.

وهكذا تنتهي هذا الرحلة المباركة والشاقة لتصل إلى بر الأمان، ويبلغ أهل المدينة خبر هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم، الرجل الذي صنع الحياة والأمل، الرجل الذي أنقذهم الله به من النار فيستقبلونه استقبال الأبطال.

طلع البد علينا من ثينات الوداع *** وجب الشكر علينا ما دعا الله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع جئت *** شرفت المدينة مرحبًا يا خير داع

أيها المسلمون! ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن نعاني من الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل.

- جراحات في العراق.
- جراحات في فلسطين.
- جوع وفقر في مصر واليمن العالم الإسلامي كله.
- حروب واقتتال في الصومال.
- تهديد وتخريب وتدخل في السودان.

ونحن نستقبل عتاولة الكفر والإلحاد في الأحضان، ونرقص معهم بالسيوف.
فمن يدري ربما كانت هذه المصائب بابا إلى خبر مجهول.

فيا أيها الغيور على دينه وعلى أمته: أنت يا من ابتلاك الله في رزقك، أو صحتك أو ولدك، أنت يا من جهده الفقر، وأنهكك المرض، وأخذ الموت أحبابك هل نسيت رحمة الله وفضله؟!

ولرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً *** وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فُرِجَت وكنت أظنها لا تُفرج

أسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يلمّ شمل المسلمين، وأن يوحد صفوفهم على كلمة سواء، والحمد الله رب العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات
الهجرة وصناعة الأمل1.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life