عناصر الخطبة
إِنَّ زَكَاةَ وَطَهَارَتَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى مُحَاسَبَتِهَا؛ فَلَا تَزْكُو, وَلَا تَطْهُرُ, وَلَا تَصْلُحُ إِلَّا بِمُحَاسَبَتِهَا, فَبِمُحَاسَبَتِهَا يَطَّلِعُ عَلَى عُيُوبِهَا وَنَقَائِصِهَا, فَيُمْكِنُهُ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِهَا. قال مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ -رحمه الله-: "رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ لِنَفْسِهِ: أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ ثُمَّ ذَمَّهَا، ثُمَّ خَطَمَهَا، ثُمَّ أَلْزَمَهَا كِتَابَ اللَّهِ -تعالى-، فَكَانَ لَهَا قَائِدًا".اقتباس
1/أهم أسباب الفلاح والخسران 2/ بيان القرآن الكريم لصفات النفوس وأحوالها 3/أصناف الناس وأحوالهم مع نفوسهم 4/وسائل معينة على تزكية النفوس.
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, أمَّا بعد: أقسَمَ اللهُ -تعالى- أحَدَ عشَرَ قَسَمًا على أنَّ الفلاح لِمَنْ زَكَّى نفسَه, وأنَّ الخيبة لِمَنْ أهملَها وتَرَكها وهواها.
فقال -سبحانه-: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 1-10]؛ فعَلَّقَ -سبحانه- وتعالى الفلاحَ بتزكية النفس, وعَلَّقَ الخيبةَ والخُسران بتدسيتها.
وقد وُصِفَت النفسُ في القرآن بثلاث صفات: نفس مُطمَئِنَّة, ونفس لوَّامة, ونفس أمَّارة بالسوء. فالنفس إذا سكنتْ إلى الله, واطمأنَّتْ بِذِكْرِه, وأنابتْ إليه, واشتاقتْ إلى لقائه, وأَنِسَتْ بِقُربه؛ فهي مُطمَئِنَّة, وهي التي يُقال لها عند الوفاة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)[الفجر: 27-28].
وإذا كانت بضدِّ ذلك؛ فهي أمَّارةٌ بالسُّوء, تأْمُرُ صاحبَها بما تهواه؛ من شهوات الغي, واتباع الباطل, فهي مأوى كُلِّ سوء, وإنْ أطاعَها قادَتْه إلى كُلِّ قبيح, وكُلِّ مكروه. فإذا أراد الله -تعالى- بها خيراً جعل فيها ما تزكو به وتصلح, وإذا لم يُرد بها ذلك تَرَكَها على حالها التي خُلقَتْ عليها من الجهل والظلم.
وأمَّا النفس اللَّوامة؛ فهي النَّفْسُ التي تُندِّم على ما فات, وتلوم عليه. قال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: "كُلُّ نفسٍ تلوم نفسَها يوم القيامة: تلوم المُحسِنَ نفسُه أن لا يكون ازداد إحساناً, وتلوم المُسيءَ نفسُه أن لا يكون رجع عن إساءته".
وقال الحسن -رحمه الله-: "إنَّ المؤمن -واللهِ- ما تراه إلاَّ يلومُ نفسَه على كُلِّ حالاته؛ يستقصرها في كُلِّ ما يفعل فيندم ويلوم نفسَه، وإنَّ الفاجر لَيَمْضِي قُدُماً لا يُعاتِبُ نفسَه".
وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّ النَّفْسَ في اليوم الواحد؛ بل في الساعة الواحدة تكون أمَّارةً, وتارةً لوَّامة, وتارة مُطمَئِنة. والحُكم للغالب عليها من أحوالها، فكونها مُطمئنةً وَصْفُ مدحٍ لها. وكونها أمَّارةً بالسُّوء وصْفُ ذَمٍّ لها. وكونها لوَّامةً ينقسم إلى المدح والذم، بحسب ما تلوم عليه.
والناس مع أنفُسِهم على قِسمين: قِسْمٌ ظفرتْ به نفسُه, فملكته وأهلكته, وصار طوعاً لها, تحت أوامرها. وقِسْمٌ ظفروا بنفوسهم فقهروها، فصارت طوعاً لهم, مُنقادةً لأوامرهم.
فمَنْ ظَفَر بنفسه أفلح وأنجح، ومَنْ ظفرت به نفسُه خسر وهلك. قال -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 37-41].
فالنفس تدعو إلى الطُّغيان وإيثارِ الحياة الدنيا، واللهُ -تعالى- يدعو عبدَه إلى خوفه, ونهي النفس عن الهوى. والقلبُ بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرَّة, وإلى هذا مرَّة, وهذا مَوضِع المِحْنة والابتلاء.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فِي النَّفْسِ ثَلَاثَةُ دَوَاعٍ مُتَجَاذِبَةٍ: دَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى الاتِّصَافِ بِأَخْلَاقِ الشَّيْطَانِ: مِنَ الْكِبْرِ، وَالْحَسَدِ، وَالْعُلُوِّ، وَالْبَغْيِ، وَالشَّرِّ، وَالْأَذَى، وَالْفَسَادِ، وَالْغِشِّ. وَدَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى أَخْلَاقِ الْحَيَوَانِ, وَهُوَ دَاعِي الشَّهْوَةِ. وَدَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى أَخْلَاقِ الْمَلَكِ: مِنَ الْإِحْسَانِ، وَالنُّصْحِ، وَالْبِرِّ، وَالْعِلْمِ، وَالطَّاعَةِ".
فَمَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ نَفْسِهِ وَمَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ؛ عَلِمَ أَنَّهَا مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ، وَمَأْوَى كُلِّ سُوءٍ، وَأَنَّ كُلَّ خَيْرٍ فِيهَا؛ فَفَضْلٌ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ -تعالى-: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا)[النور: 21]؛ وقال -تعالى-: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء: 83].
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ عُقُولًا بِلَا شَهْوَةٍ, وَخَلَقَ الْبَهَائِمَ شَهْوَةً بِلَا عُقُولٍ, وَخَلَقَ ابْنَ آدَمَ، وَرَكَّبَ فِيهِ الْعَقْلَ وَالشَّهْوَةَ. فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ شَهْوَتَهُ؛ الْتَحَقَ بِالْمَلَائِكَةِ. وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ؛ الْتَحَقَ بِالْبَهَائِمِ".
ولذلك كان على المؤمن أنْ يُجاهِدَ نفسَه أولاً, وألاَّ يستهين بشأنها, فهي أَولَى الأعداء بالمُناجزة. قال ابن القيم -رحمه الله-: "الدنيا والشيطان عَدُوَّان خارِجان عنك, والنفس عدوٌّ بين جنبيك, ومن سُنَّةِ الجهاد: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ)[التوبة:123]، وقال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت: 69]؛ فعَلَّقَ -سبحانه- الْهِدَايَةَ بِالْجِهَادِ, فأكملُ النَّاس هِدَايَة أعظمُهم جهاداً.
وأفرضُ الْجِهَاد جِهَاد النَّفس, وَجِهَاد الْهوى, وَجِهَاد الشَّيْطَان, وَجِهَاد الدُّنْيَا. فَمن جَاهَدَ هَذِه الْأَرْبَعَةَ فِي اللهِ؛ هداه اللهُ سُبلَ رِضَاهُ الموصلة إِلَى جنته. ومَنْ تركَ الْجِهَادَ؛ فَاتَهُ من الْهُدَى بِحَسب مَا عطَّل من الْجِهَاد".
قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "مَا عَالَجْتُ شَيْئاً أَشدَّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي؛ مَرَّةً عَلَيَّ، وَمَرَّةً لِي". وقال ابن حزم -رحمه الله-: "وَاعْلَم أَنَّ رياضة الْأَنْفس أصعب من رياضة الْأُسْد؛ لِأَنَّ الْأُسْد إِذا سُجِنتْ فِي الْبيُوت الَّتِي تتَّخذ لَهَا الْمُلُوك أُمِنَ شَرُّها, وَالنَّفس وَإِنْ سُجِنَتْ لم يُؤمَنْ شَرُّها".
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أيها المسلمون: ومِمَّا يُعِين على تزكية النفس: الاستعانةُ بالله -تعالى-؛ فإنَّ العبدَ لا يستطيع أنْ يُزَكِّي نفسَه إلاَّ إذا أعانه الله على ذلك, وكان من دعاء النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا, وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا, أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا"(رواه مسلم). فعلى المرء أنْ يستعينَ بالله أولاً, ويُكثِر من الدعاء بأنْ يُعينه اللهُ على تزكية نفسِه.
ومِمَّا يُعين على تزكيتها: الشَّكوى إلى الله منها؛ والاستعاذة بالله من شَرِّها؛ وكان من دعاء النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي, وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ"(صحيح: رواه الترمذي). ومن دعائه أيضاً: "وَاجْعَلْ فِي نَفْسِي نُورًا"(رواه مسلم).
وبكلِّ حالٍ؛ فَلَا يقوى العَبْدُ على نَفسِه إِلَّا بِتَوْفِيق الله إِيَّاه, وتولِّيه لَهُ, فَمَنْ عَصَمَه اللهُ وَحَفِظَه؛ تولاَّه ووقاه شُحَّ نَفسِه وشرَّها, وَقواهُ على مجاهدتها. وَمَنْ وَكَلَه إِلَى نَفسه؛ غلَبَتْه, وقهَرَتْه, وأسَرَتْه, وجَرَّته إِلَى مَا هُوَ عُين هَلَاكه.
فَلهَذَا كَانَ من أهم الْأُمُور: سُؤال العَبْد ربَّه أَن لَا يَكِلَه إِلَى نَفْسِه طَرفَة عين؛ كما في دَعَوات المَكْروب: "اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو, فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ, وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ, لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ"(حسن: رواه أبو داود).
يا ربِّ هيِّئْ لنا مِنْ أمْرِنَا رَشَدا *** وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ الْحُسْنَى لَنا مَدَدا
وَلَا تَكِلْنَا إِلَى تَدْبِيرِ أَنْفُسِنَا ... فَالْعَبْدُ يَعْجَزُ عَنْ إصْلَاحِ مَا فَسَدا
عباد الله: إِنَّ زَكَاةَ وَطَهَارَتَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى مُحَاسَبَتِهَا؛ فَلَا تَزْكُو, وَلَا تَطْهُرُ, وَلَا تَصْلُحُ إِلَّا بِمُحَاسَبَتِهَا, فَبِمُحَاسَبَتِهَا يَطَّلِعُ عَلَى عُيُوبِهَا وَنَقَائِصِهَا, فَيُمْكِنُهُ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِهَا. قال مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ -رحمه الله-: "رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ لِنَفْسِهِ: أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ ثُمَّ ذَمَّهَا، ثُمَّ خَطَمَهَا، ثُمَّ أَلْزَمَهَا كِتَابَ اللَّهِ -تعالى-، فَكَانَ لَهَا قَائِدًا".
فمَنْ مَلَكَ نفسَه وقَهَرَها, ودانها عَزَّ بذلك؛ لأنه انْتَصَرَ على أشدِّ أعدائه, قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].
وصلوا وسلموا...
التعليقات