عناصر الخطبة
1/ الإيمان والدين الميزان في المحبة والبغض 2/ذم التعصب للجماعات والفرق 3/من أقوال العلماء في التحزب 4/الحق يقبل بغض النظر عن قائله 5/التحذير من التصنيف بالظناهداف الخطبة
اقتباس
والواحد منا يجد غضاضةً وحرجاً في قبول الحق ممن يُخالفه, ويجد ثِقَلاً في نفسه أنْ يُقر لخصمه بأنه على صواب, بل ورُبَّما رَددْنا كلَّ ما يصدر منه, وما يصدر عن الجماعة الفلانية؛ لأننا نراها بدعيَّةً أو مُنحرفة, وهذا من الخلل والنقص, فلا يلزم من كونها كذلك ألا يكون عندها حقٌّ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أنَّ مِن الأخطاء التي انتشرت وعمَّت, التعصبَ للجماعات، والانتماءَ إليها انتماءً كلِّيًّا, وجعلَها معياراً للولاء والمحبة, وأغلبُ الجماعاتِ تتعصب لمنهجها, وتذمُّ الجماعات الأخرى، فكأنها هي التي على الحق، وغيرُها على الباطل. والله تعالى جعل الميزان في المحبة والبغض: الإيمان والدين, دون الانتماء لجماعات المسلمين, قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ).
هذا هو المعيار الدقيق في المحبة والولاء, وهذا هو الضابط في التحزُّبِ والانتماء, فمن كان مؤمِناً صالحاً, فيجب أنْ نُحبَّه ونواليَه, مهما كان انْتماؤه ووطنه, لا نسأله ونمتحنه عن جماعته وانْتمائه, ولا نُبدِّعه لمجرَّد محبَّته لفلانٍ وفلان.
ولا ينبغي للمسلم أنْ يتعصَّب لأيِّ جماعة, ولا ينتمي لأيِّ فرقةٍ, إلا للفرقة الناجية, وهي التي قال عنها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-, حينما ذكر أنَّ أمَّته ستفترق عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ فرقةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي". فلْينظرْ ما كان عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه, فيقتدي بهم في تعاملهم وأخلاقهم, وعقائدهم وسلوكهم.
وإنَّ الكثير ممَّنْ ينتمون للجماعات أو للأحزاب, إذا ذُكر لهم دليلٌ صحيحٌ من العقل أو النقل, يُخالف ما هم عليه, قاموا بتأويله أو تضعيفه أو ردِّه, وكلُّ هذا من الهوى والعياذ بالله.
عباد الله: ولا يعني النَّهيُ عن التَّعصُّبِ للجماعات والفِرَقِ, أنْ ننبُذَ الفرقَ جميعاً برمَّتها, ونقذفَها بالسبِّ والعيب, ولا نقبلَ أيَّ حقٍّ جاء منها, بل الواجب علينا أنْ نَأخذَ من كلِّ أحدٍ أحسنَ ما عنده، ونُحاولَ أنْ نُصلح ما وجدناه من خطأٍ بقدر الإمكان.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَالْبَصِيرُ الصَّادِقُ: يَضْرِبُ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ بِسَهْمٍ، وَيُعَاشِرُ كُلَّ طَائِفَةٍ عَلَى أَحْسَنِ مَا مَعَهَا, وَلَا يَتَحَيَّزُ إِلَى طَائِفَةٍ وَيَنْأَى عَنِ الْأُخْرَى بِالْكُلِّيَّةِ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ, فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّادِقِينَ, وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ كَامِنَةٌ فِي النُّفُوسِ. سَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ قَائِلًا يَقُولُ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، وَآخَرُ يَقُولُ: يَا لَلْأَنْصَارِ! فَقَالَ: "مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟".
هَذَا، وَهُمَا اسْمَانِ شَرِيفَانِ, سَمَّاهُمُ اللَّهُ بِهِمَا فِي كِتَابِهِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ, وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَدَاعُوا بِــــ "الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ", وَهِيَ الدَّعْوَى الْجَامِعَةُ, بِخِلَافِ الْمُفَرِّقَةِ, كَـــ "الْفُلَانِيَّةِ وَالْفُلَانِيَّةِ".
وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَنِ السُّنَّةِ؟ فَقَالَ: مَا لَا اسْمَ لَهُ سِوَى السُّنَّةِ. يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَيْسَ لَهُمُ اسْمٌ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ سِوَاهَا.
فَمِنَ النَّاسِ: مَنْ يَتَقَيَّدُ بِلِبَاسٍ لَا يَلْبَسُ غَيْرَهُ، أَوْ بِزِيٍّ وَهَيْئَةٍ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، أَوْ عِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَتَعَبَّدُ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَى مِنْهَا، أَوْ شَيْخٍ مُعَيَّنٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنِ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ الْأَعْلَى, مَصْدُودُونَ عَنْهُ، قَدْ قَيَّدَتْهُمُ الْعَوَائِدُ وَالِاصْطِلَاحَاتُ عَنْ تَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ.
وَلَا يَذُوقُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَطَعْمَ الصِّدْقِ وَالْيَقِينِ، حَتَّى تَخْرُجَ الْجَاهِلِيَّةُ كُلُّهَا مِنْ قَلْبِهِ". ا.ه كلامه
وسُئل الإمامُ ابن بازٍ -رحمه الله-: يتساءل كثيرٌ من شباب الإسلام, عن حكم الانتماء للجماعات الإسلامية, والالتزامِ بمنهجِ جماعةٍ معينَّةٍ دون سواها؟
فأجاب بقوله: "الواجب على كلِّ إنسانٍ أنْ يلتزم بالحق, وألا يلتزم بمنهجِ أيِّ جماعةٍ, وإذا انتسب إلى جماعةٍ ووافقهم على الحق, من دون غلوٍّ ولا تفريطٍ فلا بأس.
أما أن يلزمَ قولَهم ولا يحيدَ عنه فهذا لا يجوز, وعليه أن يدورَ مع الحق حيث دار, إن كان الحق مع هذه الجماعة أخذ به, وإن كان مع غيرهم أخذ به, يدور مع الحق, يُعين الجماعاتِ الأخرى في الحق, ولكن لا يلتزم بمذهبٍ معينٍ لا يحيد عنه ولو كان باطلا". ا.ه كلامه
فالحق -يا عباد الله- يُقبل من أيِّ أحد, لِكونه موافقاً للدليل، فلا أثر للمتكلم به في قبوله أو رفضه، ولهذا كان أهل السنة, يَقبلون ما عند جميع الطوائف من الحق، ويردون ما عندها من الباطل، بغض النظر, عن الموالي منها أو المعادي.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فمن هداه الله -سبحانه- إلى الأخذ بالحق حيث كان, ومع من كان، ولو كان مع من يُبغضه ويعاديه، وردَّ الباطل مع من كان, ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هدى اللهُ لما اختُلف فيه من الحق". ا.ه كلامه وقال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى). ومن العدل فيهم: قبول الحقِّ من أيِّ أحد, سواءٌ من أفرادٍ أو جماعات.
ولما دلَّ الشيطان أبا هريرة -رضي الله عنه- إلى آية الكرسي, لتكون له حرزاً من الشيطان، وذلك مقابل فكِّه من الأسر، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صدقك وهو كذوب". رواه البخاري. فليس هناك أكذب من الشيطان, ومع ذلك قبل منه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كلامه هذا, وأخبر أنه صادقٌ فيه.
وفي الصحيحين أنَّ امرأتين من اليهود, دخلتا على عائشة -رضي الله عنها- فَقَالَتَا: إِنَّ أَهْلَ القُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، قالت: فَكَذَّبْتْهُمَا، فأخبرتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلامهما فَقَالَ: "صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ البَهَائِمُ كُلُّهَا".
وقد قصَّ الله تعالى علينا ما قالت بلقيس, التي كانت كافرةً تعبد الشمس من دون الله: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً)، فقال تعالى تصديقاً لقولها: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ).
والواحد منا -يا أمة الإسلام- يجد غضاضةً وحرجاً في قبول الحق ممن يُخالفه, ويجد ثِقَلاً في نفسه أنْ يُقر لخصمه بأنه على صواب, بل ورُبَّما رَددْنا كلَّ ما يصدر منه, وما يصدر عن الجماعة الفلانية؛ لأننا نراها بدعيَّةً أو مُنحرفة, وهذا من الخلل والنقص, فلا يلزم من كونها كذلك ألا يكون عندها حقٌّ, فليس هناك أضلُّ من الشيطان الرجيم, ومن اليهودِ المنحرفين, ومع ذلك قبل نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- ما قالوه من الحق.
وليس هناك أضل من امرأةٍ تعبد وتسجدُ للشمس, ومع ذلك قَبِلَ ربُّنا -جل وعلا- منها ما قالته من الحق. فكيف لا يقبل أحدُنا الحقّ والصواب, من أناسٍ هم أقلُّ من ذلك, من أناسٍ أو جماعاتٍ يدينون بدين الإسلام.
هل يُعقل ألا يُوجد حقٌّ وصوابٌ, في جماعةٍ تختلف معها وهي تَنْتَسِبُ إلى الإسلام, وقد وُجد الحقُّ والصواب مع أشَرِّ خلق الله؟.
نسأل الله تعالى أْن يُرينا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتباعه, ويُرينا الباطلَ باطلاً ويرزُقنا اجتنابه, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: كان معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يقول: "اقبلوا الحق من كلِّ مَن جاء به، وإن كان كافراً أو فاجراً". وهذا شيخ الإسلام رحمه الله, على كثرةِ رُدوده على المعتزلة, وتشنيعه لعقيدتهم, وردِّه لضلالاتهم, إلا أنه قال: "إلا أنهم مع ذلك, قد يَدعون بعض العجم من الكفار إلى الإسلام, فيُسلمون على طريقة المعتزلة, فإسلامهم على طريقة المعتزلة خيرٌ من بقائهم على الكفر". ا.ه كلامه
وكان -رحمه الله- كثير الردّ على طائفة الأشعرية, ومع هذا قال -رحمه الله-: "ومع هذا كله, فإذا كان الأشعرية في بلدٍ ليس فيه إلا معتزلة، فهم القائمون بالسنة في هذا البلد".
هذا هو الإنصافُ والعدلُ الذي أَمَرنا الله تعالى به, وهذه هي الحكمةُ التي سار عليه علماءُ المسلمين قديماً وحديثاً, ولكن هناك نبتةً خبيثةً تحملُ ثماراً سامَّة, وأشواكاً حادَّة, تقع في أعراض الدعاة والْمُصلحين, وتَسِمُ مَن لا تهواه بألقابٍ وأسماءٍ بشعة, وتُهمٍ باطلة, ألْهتِ المسلمين بالتصنيفات, وأشْغلتِ الأمةَ بالاتهامات, حتَّى رأى الجميعُ تحيَّزهم مع الظالمين, وخذلانهم إخوانهمْ من المسلمين, ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين.
فلْنتق الله - يا أمةَ الإسلام- ولْنحذرْ مِنْ أنْ نتَّهم أحدًا بانتمائه لجماعةٍ أو حزب, إلا إذا صرح هو بذلك, أما أنْ نُطلق الاتهامات على الناس بدون بيِّنةٍ أو دليل؛ فهذا من العدوان على الآخرين, والسعيِ في التفرقة بين المؤمنين.
نسأل الله تعال أنْ يجمع شمل المسلمين, وأنْ يُبعد عنهم أسباب الفرقة, إنه على كل شيءٍ قدير.
التعليقات