الخطبة الأولى:

الْحمدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ ورسولَه فَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]. أما بعد:

آيةٌ مبشرةٌ نشهدُها في الشتاءِ أكثرَ من الصيفِ، إنها آيةٌ دعانَا مَولانا إلى التفكرِ فيها، لنزيدَ من إيمانِنا، ولِنُثْبِتَ أننا شاكرينَ لربِنا.

أتدرونَ ما تلكمُ الآيةُ المبشرةُ؟! إنها نزولُ المطرِ، حيثُ يَنشرُ اللهُ رَحْمَتَهُ، وهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيْدُ؛ فلنتفكرْ في جوِ السماءِ، فأيامٌ شَمْسٌ وقزعُ سحابٍ، وأيامٌ صَحْوٌ وزرقةٌ للسماءِ تزينُها، وبعضُ أيامٍ تحِسُ بهواءٍ رطبٍ ونسيمٍ يتحركُ برحماتٍ (مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)[الروم:46] فترى الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ؛ تُلْقِحُ السَّحَابَ، فيُنشيءُ الخلَّاق العليمُ سَحَابًا كَثِيفًا، مُتَلَاحِقًا، مُتَلَاصِقًا؛ فمَا أَحْسَنَ رُكامَه وَأَشَدَّ التئامَهُ.

ثم يُرِيْنا مَوْلانَا مقدماتٍ بين يديِ التَّهْطالِ الهَتّانِ سحَابًا يَنْطِقُ بالرَّعْدِ أَحْسَنَ الْمَنْطِقِ، وَيَضْحَكُ بالْبَرْقِ أَحْسَنَ الضَّحِكِ. وَيتَتَابَعَ لمَعَانُ البَرْقِ، حَيثُ تُشِيْمُهُ العُيونُ، بل: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)[البقرة:20].

وبعدَ المقدماتِ المرئيةِ والمسموعةِ يُفرِحُنا بطلائعِ النازلِ المحبوبِ: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ)[الروم:49] إيْ وربِّنا كما وصفْتَنا: نكونُ مُبْلِسِينَ آيسِينَ، ثم ننقلبُ بالوَدْقِ مُسْتَبْشِرينَ، وبالبرية متنزِّهينَ. حينَ يسَقينا الرزَّاقُ غَيْثًا مُغِيثًا، مَرِيئًا، مُرِيعًا، عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ، قد عَقَدَ مِنْهُ الثَّرَى، وَقَامَتْ مِنْهُ الْغُدَرُ.

"فَارجعِ البصرَ كرَّتينِ، وتَأَمَّلِ السَّحَابَ الْكَثِيفَ الْمُظْلِمَ كَيْفَ تَرَاهُ يَجْتَمِعُ فِي جَوٍّ صَافٍ لَا كُدُورَةَ فِيهِ، وَكَيْفَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا شَاءَ وَمَتَى شَاءَ، وَهُوَ مَعَ رَخَاوَتِهِ حَامِلٌ لِلْمَاءِ الثَّقِيلِ، وَمُمْسِكٌ لَهُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللهُ في إرسالِ كلِ قطرةٍ بالقَدْرِ الذي أرادَه اللهُ تعالى، لا تتصِلُ قطرةٌ منها بقطرةٍ ..فَلَوِ اجْتَمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، عَلَى أَنْ يعرِفُوا عددَ قطرِ الأمطارِ النازلةِ في قريةٍ واحدةٍ لعجَزُوا.

ثم تأملْ حالَ النزولِ التدريجيِ لملايينِ مكعباتِ الماءِ، من هذا السحابِ الثقالِ بالسماءِ، نازلاً من الأعلى للأسفلِ، فتشرَبُه النباتاتُ صعودًا عكسيًا من الأسفلِ للأعلى! فما الذى رقّى الماءَ المصبوبَ في أسافلِ الشجرِ، إلى أعالي الأغصانِ وهو ثقيلٌ بطبعِهِ؟!".

وحينَها ينغلِقُ عقلُك، وينعقدُ لسانُك إلا أن تسبحَ اللهَ وتقرأَ: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)[لقمان:10-11] إنهُ اللهُ الخلاقُ العليمُ الذي (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا )[سبأ:2].

أيُها المُعتبرونَ: اعتبِروا وتفكرُوا في أسماءِ السُحُبِ في القرآنِ، فمن أسمائِها:

1- الكِسَفُ، وهيَ السُحُبُ المتقطعةُ: (وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ)[الروم:48]

2- الرُكامُ: (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ)[النور:43]

3- الصَّيِّبُ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ)[البقرة:19]

4- السحابُ الثِقالُ: (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ)[الأعراف:57]

5- المُزْنُ: (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)[الواقعة:69]

6- الجِبالُ: ولا يَنزِلُ البَرَدُ إلا منها: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)[النور:43]

7- المُعْصِراتُ: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا)[النبأ:14]

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ مَعاذِنا ومَلاذِنا، والصلاةُ والسلامُ على داعِينا وهادِينا، أما بعدُ: فللأمطارِ أحكامٌ شرعيةٌ، وآدابٌ مَرعيةٌ؛ فمنها:

1- يتحرجُ بعض أئمةُ المساجدِ من الجمعِ للمطرِ بينَ المغربِ والعشاءِ: فيُقالُ ضابطُهُ: إذا كانَ على بعضِ المأمومينَ حَرَجٌ، وعلى بعضِهم يُسْرٌ، فلتقتدِ بأضعفِهم، ومَن شكَّ هلْ هذا المطرُ يُبيحُ الجمعَ أم لا؟ فيُقالُ: لا تَجْمَعْ حتى يَغلبَ على ظنِكَ.

2- مَن يَبحثُ عن مسجدٍ لأجلِ الجمعِ بين الصلاتينِ: فهذا –كما قالَ ابنُ عثيمينَ-: "إن لم تكنْ صلاتُهُ باطلةً فهيَ إلى البُطلانِ أقربُ..".

3- من السُننِ النبويةِ المهجورةِ عند رؤيتِك الغيثِ أن تقولَ كلمةً واحدةً، وهيَ قولُ: رَحْمَةٌ. أَيْ: هَذَا رَحْمَةٌ (رواه مسلم). وسُنةٌ أخرى أن تكشِفَ رأسَكَ أو ذراعَكَ أو ساقَكَ ليُصيبَه المطرُ، ولما سَألوا النبيَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى (رواه مسلم). يعنيْ: لأن اللهَ خلَقَه الآنَ.

اللهم لكَ الحمدُ يا مَن هو للحمدِ أهلٌ، أنت أهلُ الثناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ وكلُنا لك عبدٌ. اللهمَ لكَ الحمدُ على ما أنزلتَ من خيراتِ السحابِ، وأجريتَ من وديانٍ وشِعاب،ٍ اللهم ارزقنا بركةَ ما أنزلتَ، وتابِعْ علينا يا خيرَ الرازقينَ، وعُم بها أوطانَ المسلمينَ، واجعلنا لكَ شاكرينَ ذاكرينَ، وفي آلائكَ متفكرينَ.

اللهم احفظْ علينا دينَنا وأعراضَنا ومقدساتِنا وحدودَنا وحماتَنا.

اللهم احفظْ ولاةَ أمرِنا وارزقهم بطانةَ الصلاحِ، واكفِنا وإياهم وبلادَنا شرَّ الأشرارِ وكيدَ الفجار، والحاسدينَ والمتربصينَ. وصلِ اللهم وسلِم على عبدِك ورسولِك محمدٍ.