المحاورة وأثرها

سعود بن ابراهيم الشريم

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ افتقاد الوسائل الإعلامية الهادية إلى الحق 2/ أهمية أسلوب المحاورة بالتي هي أحسن 3/ مراعاة تفاوت أفهام الناس وأحوالهم النفسية 4/ تعريف المحاورة وجدواها 5/ حث الشريعة على المحاورة بالتي هي أحسن 6/ موضع المحاورة في تربية الأبناء
اهداف الخطبة

اقتباس

في خِضَمِّ الفتن والخلافاتِ التي تموجُ كموجِ البحرِ، وإعجابِ كل ذي رأيٍ برأيِه، وهيَجانِ الإسقاط الفِكريِّ، والعلميِّ، والثقافيِّ، والإعلاميِّ؛ يبحثُ العاقلُ فيها عن قَبَسِ نورٍ يُضِيءُ له ويمشي به في الناسِ، أو عن طوقِ نجاةٍ يتَّقِي به أمواجَ البحر اللُّجِّيِّ الذي يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من المُدلهِمَّاتِ والزوابِعِ التي تجعلُ الحليمَ حيرانًا ..

 

 

 

 

الحمد لله الكبير المُتعال، ذِي العِزَّة والملكوت شديدِ المِحال، أنزلَ علينا كتابًا مُبينًا ضربَ لنا فيه الأمثالَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، خيرُ من أُوتِيَ جوامِع المقال وأحسن الخِصال، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى أزواجه وأصحابه والآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فإن أحسنَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعة المُسلمين؛ فإن يدَ الله على الجماعة، والزَموا تقوى الله سبحانه؛ فهي الهدايةُ والنورُ، والسِّياجُ المنيعُ من الانحرافات والشُّرور: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور: 52].

أيها المسلمون: في الليلة الظَّلماء يُفتقدُ البدرُ، وفي يوم الحرِّ الشديدِ يُستجلَبُ الظلُّ، ويُستعذبُ المورِدُ، وفي خِضَمِّ الفتن والخلافاتِ التي تموجُ كموجِ البحرِ، وإعجابِ كل ذي رأيٍ برأيِه، وهيَجانِ الإسقاط الفِكريِّ، والعلميِّ، والثقافيِّ، والإعلاميِّ؛ يبحثُ العاقلُ فيها عن قَبَسِ نورٍ يُضِيءُ له ويمشي به في الناسِ، أو عن طوقِ نجاةٍ يتَّقِي به أمواجَ البحر اللُّجِّيِّ الذي يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من المُدلهِمَّاتِ والزوابِعِ التي تجعلُ الحليمَ حيرانًا.

وإننا في هذه الآوِنة نعيشُ زمنًا تكاثَرَت فيه الوسائلُ المعلوماتية، وبلَغت حدًّا من السرعة جعلَت المرءَ يُصبِحُ على أحدث مما أمسَى به، ثم هو يُمسِي كذلك. إنها ثورةُ معلوماتٍ وبُركانٌ من الثقافات والمقالات والمُطارَحات التي اختلَط فيها الزَّيْنُ بالشَّيْن، والحقُّ بالباطلِ، والقناعةُ بالإسقاطِ القَسريِّ، حتى أصبحَ الباحثُ عن الحقِّ في بعض الأحيانِ كم يبحثُ عن إبرةٍ في كومةِ قشٍّ، وهنا تكمُنُ صعوبةُ المهمةِ، وتخطُرُ التَّبِعَة.

وربما لم يعُد أسلوبُ الأمس يُلاقِي رواجًا كما كان من قبلُ؛ وذلك لطُغيان المُشاحَّة وضعفِ الوازِعِ، ما يجعلُ أُسلوبَ المُحاوَرة والمُجادَلة بالتي هي أحسنُ سبيلاً أقومَ في هذا الزمن، وبخاصَّةٍ في مجال التربيةِ والإعدادِ والنُّصحِ والتوجيهِ، والنقدِ والخُصومة.

فلكلِّ زمنٍ وسيلتُه التي تُوصِلُه إلى غايةِ الأمسِ واليوم، ولا يعني هذا أن ما مضى كان خللاً، كما أنه لا يُلزِمُ أن الحاضِرَ هو الأمثلُ، وإنما لكل مقامٍ مقالٌ، ولكل حادثٍ حديثٌ، ولقد أحسن شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حين قال: "إذا عُرِف الحق سُلِك أقرب الطرقِ في الوصولِ إليه".

ربما كان الإسقاطُ والإلزامُ دون مُحاورةٍ أو تعليلٍ أسلوبًا سائدًا في زمنٍ مضى قد فرضَ وجوده في الأسرة والمدرسة، ومنابر العلم والفِكر والإعلام، وربما كان مقبولاً إلى حدٍّ ما لمُلاءَمة تلك الطبيعة والمرحلة للمُستوى الخُلُقي والمعيشي والتربوي والعلمي. وما ذاك إلا لسريان مبدأ الثقة والاطمئنان بين المجموع، وهي في حِينها أدَّت دورًا مشكورًا، وسعيًا مذكورًا، كان مفهومُ التلقينِ فيها أمرًا إذا كان المُلقِّنُ هو الأعلى، وربما صار نُدبةً وطلبًا إذا كان المُلقِّنُ هو الأدنى، وقد يكونُ في حُكم الالتِماسِ إذا كان الطرَفَان مُتساوِيَيْن.

بَيْد أن المشارِبَ في زمننا قد تعدَّدت، والطرقَ المُوصِلة قد تفرَّعَت، ما بين مُوصِلٍ للغاية، أو هاوٍ بسالِكها إلى مكانٍ سحيقٍ، أو سالِكٍ وعرًا على شفَا جُرُفٍ هارٍ، قد بيَّن ذلكم بأوضح عبارة وأجمعِ كلِمٍ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه عنه ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: خطَّ لنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا خطًّا فقال: "هذا سبيلُ الله"، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينِ الخطِّ ويساره وقال: "هذه سُبُلٌ على كلِّ سبيلٍ منه شيطانٌ يدعو إليه"، ثم تلا: "(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153]"، يعني: الخطوط التي عن يمينه ويساره. رواه أحمد، والنسائي.

ومن هذا المُنطلَق كلِّه -عباد الله- يأتي الحديثُ بشَغَفٍ عن الحاجةِ إلى سيادةِ مبدأ المُحاوَرة والمُجادَلة بالتي هي أحسنُ في جميع شُؤون الحياة كما علَّمَنا ذلك دينُنا الحنيفُ، وكان رائدَنا فيها كتابُ ربِّنا وسنَّةُ نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-؛ فالمُحاورةُ أسلوبٌ راقٍ، ووسيلةٌ مُثلَى تُوصِلُ إلى الغايةِ بكل أمنٍ وطُمأنينةٍ وأدبٍ وتأثيرٍ.

لأن اختلافَ الناس وتفاوُت عقولِهم، وأفهامهم، وأحوالهم النفسيَّة، تفرِضُ طرقَ هذا المبدأ في زمنٍ كثُر فيه الجشَعُ، وشاعَت فيه الفوضَى، وأصبحَ التافِهُ من الناسِ يتكلَّمُ في أمر العامَّة.

المُحاورةُ -عباد الله- تبادُلُ حديثٍ بين اثنين أو أكثر، يُقصَدُ به: إظهارُ حُجَّةٍ، أو إثباتُ حقٍّ، أو دفعُ شُبهةٍ، أو رفعُ باطلٍ في قولٍ، أو فعلٍ، أو اعتقادٍ. وهي أسلوبٌ مُعتبرٌ في الكتابِ والسُّنَّة؛ فكتابُ الله به عشراتُ الآيات التي جاءت مُتضمِّنةً معنى المُحاورة، والسنَّةُ المُطهَّرة مليئةٌ بهذا الأُسلوبِ المُنبعِثِ من الخُلُق النبوي الهادفِ إلى هدايةِ الناسِ، والحِرصِ عليهم، والرحمةِ بهم، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].

وإن أي مُجتمعٍ يُربِّي نفسَه ونفوسَ بنِيه على إجادَة إيصال الفِكرة إلى الغير بإقناعٍ ناتجٍ عن مُحاورةٍ وشفافيَّة -كما يقولون-، ومُجادلةٍ بالتي هي أحسنُ لا بالتي هي أخشنُ، فستصِلُ الفِكرةُ بكلِّ يُسرٍ ووضوحٍ لا يشُوبُه استِكبارٌ، وإذا لم تكن نتيجةً إيجابيَّةً فلا أقلَّ من أن الحُجَّة قامَت، والذِّمَّة برِئَت، ولسانُ الحالِ حينئذٍ هو قولُ المؤمنِ: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 44].

والحُكمُ هو الحُكمُ، والحقُّ هو الحقُّ، لن يتغيَّر؛ سواءٌ أكان بمُحاورةٍ أم لا، ولكن التغيُّر إنما يكونُ في القناعةِ بالحُكم وفهمِه والرِّضا به، ومعرفةِ حِكَم الشارعِ ومقاصِدِه.

ثم إن المُحاورة لا تعنِي باللُّزومِ اقتسامَ النتيجة بين المُتحاوِرَيْن، كما أن الوسطيَّة لا تعني التوسُّطَ بين أمرَيْن؛ لأن الوسطيَّة هي العدلُ والخِيار الذي لا مَيْلَ فيه لطرفٍ دون طرفٍ؛ بل أنَّى وُجِد الحقُّ فهو الوسطُ، وإن كان أدعياؤُه طرَفين لا ثالثَ لهما.

وهذه هي الغايةُ المرجُوَّة من المُحاورة، ومن جادلَ بالباطلِ ليُدحِضَ به الحقَّ؛ فقد قال الله عنه: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر: 35].

لقد امتازَت المُحاورةُ في شريعتنا الغرَّاء بأنها عامَّةٌ في جميع شُؤون الحياة، ابتِداءً من أمور الاعتقاد، وانتِهاءً بتربية الأطفال؛ فمن أمثلة ما جاء في أبواب الاعتقاد: مُحاورة كل نبيٍّ لقومه، ومُجادلتهم بالحُسنى طمعًا في هدايتهم إلى صراط الله المُستقيم، وقد جاء في الحديث: أن قُريشًا اختلَفَت إلى الحُصين بن عِمران، فقالوا: إن هذا الرجلَ -يعنونَ محمدًا صلى الله عليه وسلم- يذكُرُ آلهَتنا، فنحن نحبُّ أن تُكلِّمَه وتعِظَه، فهب حُصينٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أوسِعوا للشيخِ". فأوسَعوا له، فقال حُصينٌ: ما هذا الذي يبلُغُنا عنك أنك تشتِمُ آلهَتنا وتذكُرُهم. فكان مما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا حُصين: كم إلهًا تعبُد؟!". قال: سبعةً في الأرض وإلهًا في السماء. قال: "فإذا أصابَك الضيقُ فمن تدعُو؟!". قال: الذي في السماء. قال: "فإذا هلَكَ المالُ فمن تدعُو؟!". قال: الذي في السماء. قال: "فيستجيبُ لك وحدَه وتُشرِكُهم معه؟!". إلى أن قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا حُصين: أسلِم تسلَم". قال: إن لي قومًا وعشيرةً؛ فماذا أقولُ لهم؟! قال: "قُل: اللهم إني أستهدِيك إلى أرشدِ أمري، وأستجيرُك من شرِّ نفسي، علِّمني ما ينفعُني، وانفعني بما علَّمتَني، وزِدني علمًا ينفعُني". فلم يقُم حتى أسلَمَ. رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وغيرُهم.

وقد دخل عديُّ بنُ حاتمٍ على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو نصرانيٌّ، فسمِعَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقرأ قولَ الله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) [التوبة: 31]. فقال عديٌّ: إنا لسنا نعبُدهم. قال: "أليس يُحرِّمُون ما أحلَّ الله فتُحرِّمُونَه، ويُحلُّون ما حرَّم الله فتُحِلُّونه؟!". قال: فقلتُ: بلى. قال: "فتلك عبادتُهم". رواه أحمد، والترمذي، وغيرُهما.

فهذه هي مُحاورةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمور العقائد؛ لتكون نبراسًا لكلِّ مُسلمٍ حريصٍ على هدايةِ غيره أن يقتدِيَ بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، واللهُ -جل وعلا- يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].

باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه.

وبعد:

فإن المُحاورةَ بالحُسنى خيرُ سبيلٍ مُوصِلٍ إلى الحقِّ والرِّضا لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيدٌ، فحينما تستحكِمُ الشهوةُ على فُؤاد المرء، ويشرئِبُّ قلبُه إلى المعصية؛ فإن مجرَّد النهرِ والزَّجرِ والكَهرِ بعيدًا عن أُسلوبِ المُحاورة الكَفيلِ بنزعِ فَتيلِ الإغراقِ في حبِّ الشهوات لا يحصُدُ من الفوائد ما تحصُدُه المُحاورةُ ذاتُها.

فقد جاء فتًى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله: ائذَن لي في الزِّنا. فأقبَلَ القومُ عليه، فزجَروه، وقالوا: مَهْ مَهْ. فقال: "اُدنُه"، فدنَا منه قريبًا، فجلسَ. قال: "أتحبُّه لأُمِّك؟!". قال: لا والله، جعلَني الله فِداءَكَ. قال: "ولا الناسُ يُحِبُّونه لأمهاتهم". قال: "أفتُحِبُّه لابنتِك؟!". قال: لا والله يا رسول الله، جعلَني الله فِداءَكَ. قال: "ولا الناسُ يُحبُّونه لبناتهم". قال: "أفتُحِبُّه لأُختِك؟!". قال: لا والله، جعلني الله فِداءَكَ. قال: "ولا الناسُ يُحِبُّونه لأخواتهم...". الحديث، إلى أن قال: فوضعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يدَه عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبَه، وطهِّر قلبَه، وحصِّن فرْجَه"، فلم يكن بعد ذلك الفتَى يلتَفِتُ إلى شيءٍ. رواه أحمد.

هذه هي المُحاورةُ، وهذا هو أثرُها في إيضاح الأمر وإزالةِ الشُّبهة، وسلِّ الشهوةِ العَمياء.

وللمُحاورة في إزالة غشاءِ الظنِّ والشكِّ المُفضِيَيْن إلى اتِّهام النوايا والأعراضِ ما يجدُرُ أن تكون محلَّ نظر كل صادقٍ مُنصِفٍ حريصٍ على سلامة قلبه وذمَّته؛ فقد جاء أعرابيٌّ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن امرأتي ولدَت غُلامًا أسود. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل لك من إبِلٍ؟!". قال: نعم. قال: "فما ألوانُها؟!". قال: حُمْرٌ. قال: "هل فيها من أَورَق؟!". أي: ما يَميلُ إلى السَّواد. قال: إن فيها لوُرقًا. قال: "فأنَّى ترى ذلك جاءَها؟!. قال: يا رسول الله: عِرقٌ نزَعَها. قال: "ولعلَّ هذا عِرقٌ نزَعَه". رواه البخاري، ومسلم.

فلا إله إلا الله؛ كم زالَ من الظنِّ السيِّءِ بأهله بهذه المُحاورة، فقطَعت دابِرَ الشكِّ، وأغلَقَت بابَ الفُرقَة الأُسريَّة، ولا إله إلا الله؛ كم هو عظيمٌ أثرُ الطمأنينة حينما يُحسِنُ المرءُ استِجلابَها بمُحاورةٍ هادِئةٍ هادِفةٍ حادِيها الإخلاص والبحثُ عن الحقيقة، بعيدًا عن التنابُزِ والتنابُذ.

وفي تربيةِ الأطفال يكونُ للمُحاورة من الأثر والوقعِ على النفسِ أكثرُ من مُجرَّد التلقين والإسقاط القَسريِّ؛ فقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- الحسنَ بن عليَّ -رضي الله تعالى عنهما- قد أخذَ تمرةً من تمر الصدقةِ فجعلَها في فِيهِ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَخْ كَخْ، ارْمِ بها، أما علِمتَ أنَّا لا نأكُلُ الصدقةَ؟!". رواه البخاري، ومسلم.

فهل تستوي التربيةُ مقرونةً ببيان السببِ والحِكمةِ بتربيةٍ مُجرَّدةٍ عن ذلك؟! ولو كان مُجرَّد النهيِ كَفيلاً في التربيةِ لاكتَفَى -صلى الله عليه وسلم- بقولِه: "كَخْ"، ولكن إضافةَ شيءٍ من المُحاورة بالتعليلِ مع هذا الصبيِّ تُوقِعُ في النفسِ معنى الفهمِ الصحيحِ حينما يكونُ مُعلَّلاً لا مفروضًا دون أدنى بيانٍ.

ومع ذلك كلِّه -عباد الله-؛ فإن المُحاورة لا تعني تهميشَ المرجعيَّة الشرعيَّة، كما أن الدعوةَ إليها لا تعني أن تكون كل مُحاورةٍ سَبهلَلاً بلا زِمامٍ ولا خِطامٍ؛ بحيث تطغَى على الحقوق والحُرُمات، وتكونُ مُحاورةُ تكْأَةً لكل مُتشفِّي، لاسيَّما حين يطالُ ذلكم مقاماتٍ لها في الاحترامِ والمرجعيَّة والتقديرِ ما يستقيمُ به الصالحُ العام، ولا يفتحُ بابًا للفوضى والرَّميِ بالكلامِ كيفما اتفق.

ويشتدُّ الأمرُ خطورةً حينما يكونُ ذلكم عند الحديثِ عن العُلماء والوُلاة الشرعيِّين، من خلال جعلِ بعضِ المُحاورات كلأً لمُنابَذتِهم ومُنابَزتهم، وقد جعل لهم الشارعُ الحكيمُ من الحُرمة والمكانة ما تعودُ مصلحتُه على أمنِ واستقرارِ المُجتمع، بعيدًا عن الإرباكِ والإرجافِ بالمنظومةِ العلميَّة والقياديَّة.

يتجلَّى ذلكم بوضوحٍ فيما ثبتَ في الصحيحين من أن جماعةً ألحُّوا على أسامة -رضي الله تعالى عنه- أن ينصحَ عثمان -رضي الله عنه- أميرَ المؤمنين علانيةً في شأن الوليد بن عُقبة، فقال: "قد كلَّمتُه، ما دُون أن أفتحَ بابًا أكونُ أوَّلَ من يفتحُه".

قال الحافظُ ابنُ حجر: "أي: يفتحُ بابَ الإنكار على الأئمةِ علانيةً خشيةَ أن تفترِقَ الكلمةُ، ثم عرَّفَهم أسامةُ أنه لا يُداهِنُ أحدًا ولو كان أميرًا؛ بل ينصحُ له في السرِّ جُهدَه".

إنها مُحاورةٌ لطيفةٌ مع من يُلِحُّ عليه تُوصِلُ للحقيقةِ دون غُلُوٍّ أو جفاءٍ.

ولقد أحسنَ ابنُ عبد البرِّ في نقلِه عن بعضِ السَّلَف قولَه: "أحقُّ الناسِ بالإجلالِ ثلاثةٌ: العُلماء، والإخوان، والسلطان؛ فمن استخفَّ بالعُلماء أفسدَ مُروءَته، ومن استخفَّ بالسلطان أفسدَ دُنياه، والعاقلُ لا يستخِفُّ بأحدٍ".

(إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [غافر: 56].

هذا؛ وصلُّوا -رحمكم الله- على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ قد بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون-، فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أصلِح أحوال إخواننا المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم، اللهم كُن مع إخواننا المُضطهَدين في سُوريا، اللهم كُن مع إخواننا المُضطهَدين في سُوريا، اللهم انصُرهم على من ظلَمَهم ومن عادَاهم، اللهم اجعل شأن من ظلَمهم في سِفال، وأمرَه في وَبال، يا ذا الجلال والإكرام.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

 

 

 

 

المرفقات
المحاورة وأثرها.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life