عناصر الخطبة
1/ أحوال الناس في التوبة 2/ تسويف التوبة وأسبابه 3/ الأشقياء لا يوفقون لتوبة 4/ أهمية المبادرة بالتوبةاهداف الخطبة
اقتباس
الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجِّيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت وأيس من الحياة أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل عملاً صالحًا فلا يجاب إلى ذلك، فتجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت ..
الحمد لله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويزيد نعم المحسنين من فضله ويرفعهم درجات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده خزائن الأرض والسموات. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان في آخر عمره لا يقوم ولا يقعد إلا استغفر وتاب، وهو أقرب الخلق إلى الله منزلة ومآب. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد خرَّج الترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من أحد يموت إلا ندم" قالوا: وما ندامته؟ قال: "إن كان محسنًا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب". وقال الأوزاعي -رحمه الله-: ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة، يومًا فيومًا وساعة فساعة، ولا تمر ساعة لم يذكر الله تعالى فيها إلا تقطعت نفسه عليها حسَرات، فكيف إذا مرت به ساعة مع ساعة، ويوم مع يوم، وليلة مع ليلة؟!.
عباد الله: الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجِّيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت وأيس من الحياة أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل عملاً صالحًا فلا يجاب إلى ذلك، فتجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت. هذا حال الكثير من الناس.
وقد حذَّر الله عباده من ذلك ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح، قال الله تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [الزُّمَر:54] قال ابن المبارك: احذر السكرة والحسرة! أن يفجأك الموت وأنت على الغرة، فلا يصف واصف قدر ما تلقى، ولا قدر ما ترى.
عبادَ الله: والناس في التوبة والعمل الصالح على أقسام: فمنهم من لا يوفَّق لتوبة نصوح؛ بل يُيَسَّرُ له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مُصِرَّا عليها، وهذه حالة الأشقياء، نعوذ بالله من حالهم!.
وأقبح من ذلك من يُسِّر له في أول عمره عمل الطاعات، ثم خُتم له بعمل سيء حتى مات عليه، ففي الحديث الصحيح: "إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها". وفي بعض رواياته "فيما يبدو للناس" يعني أن نيته بخلاف ذلك.
وقسم يُفني عمره في الغفلة والبطالة، ثم يوفَّق لعملٍ صالح فيموت عليه، وهذه حالة من "يعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها".
وأخرج البزار عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا بعَثَ إليه ملَكًا... فيسدِّدُه ويُيَسِّرُه، فإذا كان عند موته أتاه ملَك الموت فقعد عند رأسه فقال: أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان؛ فذلك حين يحب لقاء الله ويحب الله لقاءه. وإذا أراد بعبده شرَّا بعث إليه شيطانًا من عامة الذين يموت فيه، فأغواه، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه فقال: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرق في جسده، فذلك حين يبغض لقاء الله، ويبغض الله لقاءه".
وفي المسند، عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: "من تاب قبل موته عامًا تِيب عليه، ومن تاب قبل موته شهرًا تيب عليه، حتى قال يومًا، حتى قال ساعة، حتى قال فُواقًا. قال له إنسان: أرأيتَ إن كان مشركًا فأسلم؟ فقال: إني أحدثكم ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وفي المسند، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الشيطان قال: وعزَّتِك يا ربّ لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الربُّ -عز وجل-: "وعِزَّتِي وجلالي! لا أزال أغفر لهم ما استغفروني". وفي الحديث الصحيح: "ان الله عز وجل يقبل توبة العبد، ما لم يغرغر".
وقد دل القرآن على مثل هذا، قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النِّساء:17] وعمل السوء إذا أُفرد يدخل فيه جميع السيئات صغيرها وكبيرها، والمراد بالجهالة الإقدام على السوء وإن علم صاحبه أنه سوء؛ فإن كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من أطاعه فهو عالم.
فمن كان عالمًا بالله وعظمته وكبريائه وجلاله فإنه يهابه ويخشاه، فلا يقع منه -مع استحضار ذلك- عصيانه؛ ومن آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهلُه، وظنه أنها تنفعه عاجلاً باستعجال لذتها، وإن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره، وهذا جهل محض؛ فإنه تعجَّل الإثمَ والخزْي، ويفوته عزُّ التقوى، وثواب الآخرة، وعلو درجاتها، ولذة الطاعة؛ وقد يتمكن من التوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت، فهو كجائع أكل طعامًا مسمومًا لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلص من ضرره بشرب دواء.
وممن أفنى عمره في الغفلة والبطالة ما روى الواحدي في كتاب "قتلى القرآن": أن رجلاً من أشراف أهل البصرة كان منحدرًا إليها في سفينة، ومعه جارية له، فشرب يومًا، وغنته جاريته بعود لها، وكان معهم في السفينة فقير صالح، فقال له: يا فتى! تحسن مثل هذا؟ قال: أحسن ما هو أحسن منه- وكان الفقير حسن الصوت- فاستفتح وقرأ: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء:77-78] فرمى الرجل ما بيده من الشراب في الماء، فقال: أشهد أن هذا أحسن مما سمعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم فتلا عليه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف:27] فوقعت في قلبه، فرمى ببقية الشراب في الماء وكسَر العود.
ثم قال: يا فتى! هل ههنا فرج؟ قال: نعم. (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزُّمَر:53]. فصاح صيحة عظيمة، فنظروا إليه فإذا هو قد مات- رحمه الله.
وخرَّجَ أبو نعيم بسنَده، عن سعيد الجريري، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد! الرجل يُذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب، حتى متى؟ قال: ما أعلم هذا إلا أخلاق المؤمنين.
وبقي هنا قسم آخر وهو أشرف الأقسام وأرفعها، وهو من يفني عمره في الطاعة، ثم يُنَبَّهُ على قرب الأجل ليجِدَّ في التزوُّد، ويتهيأ للرحيل بعملٍ صالح للقاء، ويكون خاتمة للعمل. قال ابن عباس: لما نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النّصر:1- 3]. نُعيت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة.
وقالت أم سلمة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده"، فذكرت ذلك له، فقال: "إني أمرت بذلك"، وتلا هذه السورة.
وكان من عادته أن يعتكف في كل عام في رمضان عشرًا، ويعرض القرآن على جبريل مرة؛ فاعتكف في ذلك العام عشرين يوما، وعرض القرآن مرتين، وكان يقول: "ما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي" ثم حجَّ حجة الوداع، وقال: "أيها الناس! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي، فأجيب" ثم أمر بالتمسُّك بكتاب الله، ثم توفي بعد وصوله إلى المدينة بيسير -صلى الله عليه وسلم.
إذا كان سيد المحسنين يؤمَر أن يختم عمره بالزيادة والإحسان، فكيف يكون حال المسيء؟ وفي الدعاء المأثور: "اللهم اجعل خير عملي خواتمه، واجعل خير عمري آخره، وخير أيامي يوم لقاك".
وكان السلف الصالح -مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال- يجددون التوبة والاستغفار، ويختمون أعمالهم بالاستغفار وكلمة التوحيد.
وقال عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- عند موته: أجلِسوني، فأجلَسوه، فقال: أنا الذي أمرتَني فقصَّرْت، ونهيتني فعصيت؛ ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحد النظر، فقالوا: إنك تنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين. فقال: أتاني حضرة ما هم بإنس ولا جن، ثم قُبِض -رحمه الله-، وسمع تاليًا يتلو: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القَصَص:83].
فاتقوا الله عبادَ الله، والتوبةَ التوبةَ! قبل أن يصلنا من الموت النوبة، فيحصل المفرِّط على الندم والخيبة، والإنابةَ الإنابةَ! قبل غلق باب الإجابة، والإفاقةَ الإفاقةَ! قبل وقت الفاقة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8].
الخطبة الثانية:
أما بعد: عبادَ الله! مبادرة الإنسان بالتوبة في حال صحته قبل نزول المرض به هي أفضل أنواع التوبة، حتى يتمكن حينئذ من العمل الصالح، ولذلك قرن الله التوبة بالعمل الصالح في مواضعَ كثيرةٍ من القرآن.
فالتوبة في الصحة ورجاء الحياة تشبه الصدقة بالمال في الصحة ورجاء البقاء، والتوبة في المرض عند حضور أمارات الموت تشبه الصدقة بالمال عند الموت؛ خرَّج ابن ماجه من حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب فقال في خطبته: "أيها الناس! توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشغَلوا" فأمر بالمباردة قبل الموت، وكل ساعة تمر على ابن آدم فإنه يمكن أن تكون ساعة موته، بل كل نَفَس.
قال لقمان لابنه: يا بنيَّ! لا تؤخِّر التوبة، فإن الموت يأتي بغتة؛ وقال بعض الحكماء: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل؛ وقال بعض السلف: أصبِحوا تائبين، وأمسوا تائبين، فمن أصبح أو أمسى على غير توبة فهو على خطر؛ لأنه يُخْشى أن يلقى الله غير تائب فيحشر في زمرة الظالمين، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحُجرَات:11].
إن تأخير التوبة في حال الشباب قبيح، ففي حال المشيب أقبح وأقبح. قال عمر بن هانئ: تقول التوبةُ للشاب: أهلاً ومرحبًا! وتقول للشيخ: نقبَلُكَ على ما كان منك. فاختموا عباد الله أعمالكم اليومية بالتوبة والاستغفار، فإن كان العملُ سيِّئًا كان كفَّارةً له، وإن كان حسنًا كان كالطابع عليه.
التعليقات