عناصر الخطبة
1/أشرفُ العلومِ وأجلُّها العلم بالله 2/بعض صفات الكمال والجلال لله سبحانه وتعالى 3/معرفة الله منار السائر وهداية الحائراقتباس
تهفو له القلوبُ، وتسكن إليه النفوسُ، وتلتذُّ بمعرفته العقولُ، وتفتقر إليه المخلوقاتُ بأَسْرِها؛ كيف لا وهو مُنشِئوها وباريها، ومُعِيدُها وباديها، تَصمُدُ إليه في رغائبها، وتلوذ به في مصائبها، وتفزع إليه عند نوائبها، وما ذاق طعمَ العيش مَنْ لم يكن له حبيبٌ إليه يطمئنُّ ويسكنُ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله ظهَر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبَهم بمَشاهِد صفات كماله، وتعرَّف إليهم بما أسداه من إنعامه وإفضاله، أشهد ألَّا إلهَ اللهُ وحدَه، لا شريكَ له في ذاته وصفاته وأفعاله، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أعظَم اللهُ المنةَ على خلقه ببعثته وإرساله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى صحبه وعِترته وآله، والسائرينَ على نهجه ومنواله.
أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -سبحانه-، فلا كرمَ أعلى من التقوى، ولا شرفَ يعدِل الإسلامَ، ولا شفيعَ فوق التوبة، ولا لباسَ أجملُ من العافية، طوبى لمن عَلِمَ فكَفَّ، وعَمِلَ فَجَدَّ، وخاف الحسابَ فأعدَّ واستعدَّ؛ (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)[الْمُزَّمِّلِ: 20].
أيها المؤمنون: شرفُ العلمِ في شرفِ المعلومِ، وأشرفُ العلومِ وأجلُّها العلم بالله -تعالى-، الله هو المألوه المعبود، الربُّ المشكور المحمود، الْمَلِك المعظَّم المقدَّس، الحي القيوم، ذو الجلال والإكرام، والألوهية والعبودية على خلقه أجمعينَ، هو الأول بلا ابتداء، الآخِر بلا انتهاء، جلَّ عن مِثْل ومَثَل ومِثَال، وتعالى عن حِكْم فِكْر وخيال، لا تبلغه الأوهامُ، ولا تُدرِكه الأفهامُ، ولا يُشبِهه الأنامُ؛ (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)[الْبَقَرَةِ: 255]، (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)[طه: 110]، وفي الحديث: "سبحانك، لا أحصي ثناءً عليكَ، أنتَ كما أثنيتَ على نفسك"(أخرجه مسلم).
الله هو المستحِقُّ لصفات الكمال، المنعوتُ بنعوت الجلال، تَأْلَهُهُ الخلائقُ تعظيمًا وخشوعًا، وخوفًا وخضوعًا؛ (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)[الْإِسْرَاءِ: 111].
سبَّحت لعظمته الأفلاكُ، وخرَّت لِمُلكه الأملاكُ؛ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)[الْإِسْرَاءِ: 44]، (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[الْحَدِيدِ: 1]، له نُصلِّي ونسجد، وإليه نسعى ونَحفِد، وإيَّاه نُوحِّد ونعبد؛ (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الْأَنْعَامِ: 162-163].
تهفو له القلوبُ، وتسكن إليه النفوسُ، وتلتذُّ بمعرفته العقولُ، وتفتقر إليه المخلوقاتُ بأَسْرِها؛ كيف لا وهو مُنشِئوها وباريها، ومُعِيدُها وباديها، تَصمُدُ إليه في رغائبها، وتلوذ به في مصائبها، وتفزع إليه عند نوائبها، وما ذاق طعمَ العيش مَنْ لم يكن له حبيبٌ إليه يطمئنُّ ويسكنُ.
يحفظ -سبحانه- ما خلَق، ويقي ما أوجَد، يصون أولياءه من الوقوع في الذنوب والهَلَكات، ويرأف بهم في الحركات والسكنات، لطيف أحاط علمه بالسرائر والخفايا، عليم أدرك البواطن والخبايا، وكيل لا يُتوكل إلا عليه، ولا تُناط الآمالُ إلا به، ولا تلجأ الظهور إلا إليه؛ (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا)[الْمُزَّمِّلِ: 9]، جبَّار يَجبُر القلوبَ والأجسادَ، بسدِّ الخلةَ ومحو الذلة، وإفاضة الأجر والثواب، على الكسير والفقير والمصاب؛ ولذا كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- بينَ السجدتينِ: "ربِّ اغفِرْ لي وارحمني واجبرني"(أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي).
يُدبِّر الأمرَ، يخلق ويرزق، ويأمر وينهى، ويميت ويحيي، ويقضي وينفذ، ويقلب الليل والنهار؛ (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرَّحْمَنِ: 29]، أحصى كل شيء عددًا، وَوَسِعَ كلَّ شيء رحمةً وحكمةً وحِلمًا.
أيها الناس: الله يُغني السائل، ويكفي العائل، يبدأ النعمة قبل الاستحقاق، ويجود بالإحسان من غير استثابة، لا تُحجَب عنه دعوةٌ، ولا تَخِيب لديه طِلبةٌ، ولا يضلُّ عندَه سعيٌ، هو القريب في عُلوِّه، العليُّ في دُنُوِّه، إذا ناديتَه سَمِعَ نداكَ، وإذا ناجيَته عَلِمَ نجواكَ، فأفضيتَ له بحاجتك، وأبثَثْتَه ذاتَ نفسك، وشكوتَ إليه همومَكَ، واستكشَفْتَه كروبَكَ، واستعنتَه على أمورك، وسألتَه من خزائن رحمته، ما لا يَقدِر عليه إعطائه غيرُه، من زيادة الأعمار، وصحة الأبدان، وسعة الأرزاق، وفتح الأغلاق، ثم جعَل في يدك مفاتيحَ خزائنه، بما أَذِنَ لكَ من مسألته، فمتى شئتَ استفتحتَ بالدعاء أبوابَ نعمته، واستمطرتَ شآبيبَ رحمته، فلا يُقنِّطْكَ إبطاءُ إجابته؛ فإن العطية على قدر النية، وربما أُخِّرتِ الإجابةُ ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل.
هُوَ الْغِيَاثُ لِمَنْ سُدَّتْ مَذَاهِبُهُ *** هُوَ الدَّلِيلُ لِمَنْ ضَاقَتْ بِهِ الْحِيَلُ
فتَح لكَ بابَ المتاب، وهداك لسبيل الاستعتاب، ولم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه، ولم يُلجِئْكَ إلى مَنْ يشفع لكَ إليه، ولم يمنعكَ إن أسأتَ من التوبة، ولم يُعاجِلْكَ بالنقمة، ولم يُعيِّركَ بالإنابة ولم يفضحكَ، جعَل نزوعك عن الذنب حسنةً، وَعَدَّ سيئتك واحدة، وَعَدَّ حسنتَكَ عشرًا، سبحانك يا الله، سبحانك مِنْ مَلِيكٍ ما أمنعَكَ، سبحانكَ مِنْ رفيعٍ ما أرفَعَكَ، ذو البهاء والمجد، والكبرياء والحمد، لكَ يا اللهُ الذلُّ، وبكَ العزُّ، وإليكَ الشوقُ، ومنكَ الخوفُ، توحيدكَ الاعتقاد، وعليكَ الاعتماد، وعفوك الرجاء، ورضاك البُغية؛ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الْفَاتِحَةِ: 5].
أقول ما سمعتُم، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفِروه، إنه كان للأوابينَ غفورًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم وبارَك عليه، وعلى الآل والصحب والتابعينَ، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن معرفة الله -تعالى- منار السائر، وهدى الحائر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "اللذة والفرحة، وطِيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبيرُ عنه إنما هو في معرفة الله -سبحانه وتعالى- وتوحيده والإيمان به" انتهى كلامه.
إنَّ العبدَ إذا عَلِمَ ما لمولاه من صفات الكمال والجلال، ودلائل العظمة والجَمال، وشواهد الإنعام والإفضال، أحبَّه محبةً عظيمةً تفوق محبةَ النفس والأهل والولد، وتلك مرتبة عظمى، ومنزلة كبرى، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)[الْبَقَرَةِ: 165]، وقال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وَجَدَ حلاوةَ الإيمانِ: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأَنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّهُ إلا لله، وأَنْ يكرهَ أن يعود في الكفر كما يكرهُ أن يُقذَف في النار"(أخرجه البخاري ومسلم).
ومن لوازم حُبِّ العبد لربه -تعالى-: عبادته وحدَه لا شريكَ له، والإخلاص له، وفِعْل أوامره وترك زواجره، ومنها إدامة ذِكْره -عز وجل-؛ لأن مَنْ أحبَّ شيئًا أكثرَ مِنْ ذِكْره، وفي الحديث القدسي يقول الله -تعالى-: "وأنا معه إذا ذكرني"(أخرجه البخاري ومسلم).
هل بعد معرفة الإله زيادة إلا استدامة ما يديم رضاه؟!
هذا وصلُّوا وسلِّموا على محمد بن عبد الله، النبي القرشي الهاشمي، فاللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى الآل والأصحاب، التابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب، وعنا معهم بمنك وكرمك يا كريم يا وهاب.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد يا رب العالمين، اللهم سَدِّدْ جندَنا المرابطينَ على الحدود والثغور، كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيِّدًا ونصيرًا.
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا صالحًا متقبَّلًا، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 53]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النَّحْلِ: 90-91].
التعليقات