عناصر الخطبة
1/الله لطيف بعباده 2/تأملات في معاني اسم الله اللطيف 3/من صور لطف الله تعالى بخلقه.اقتباس
لو عَلِمَتَ ما يُدَبِّرُ اللطيفُ لك؛ لاسْتَحْييتَ منه حقَّ الحياء, فكم من مرضٍ أصابك فأزاله!، وكم من مصيبةٍ حَلَّتْ بك فحوَّلها عنك!، وكم من دَيْنٍ قضاه!، وكم من هَمٍّ فرَّجه!, ليس بحولٍ منك ولا قوة, وإنما بِلُطفٍ منه وكرم. فإذا ألَمَّ بِكَ المرض...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أمَّا بعد: قال الله -تعالى-: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)[الشورى: 19]، واللُّطف في اللغة هو: البرُّ, والحفاوة, والإكرام, والتَّرفُّق, والعلم بدقائق الأمور. فإذا اجتمع الرِّفقُ في الفِعل واللُّطف في الإدراك تَمَّ معنى اللطيف.
فربُّنا اللَّطيفُ؛ الذي لا ألطفَ منه, رفيقٌ بعباده؛ لا يُعاجلهم على الذنب, لا تخفى عليه الأشياء؛ وإن دقَّت ولطف وتضاءلت.
واللهُ -تعالى- تَفَضَّلَ على عِبادِه ورَفَقَ بهم من حيث لا يعلمون: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ)[الشورى: 19], وهو الذي رزقهم من حيث لا يحتسبون. وهو الذي لا تُدِرُكه الحواسُّ, ولا تراه الأبصارُ: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الأنعام: 103].
قال قتادةُ في قوله -تعالى-: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ)[يوسف: 100]: "لَطَفَ بِيُوسُفَ, وَصَنَعَ لَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَجَاءَ بِأَهْلِهِ مِنَ الْبَدْوِ، وَنَزَعَ مِنْ قَلْبِهِ نَزْغَ الشَّيْطَانِ, وَتَحْرِيشَهِ عَلَى إِخْوَتِهِ".
إنه الكريمُ اللَّطيف؛ الذي يُوصِلُ إليك إحسانَه بِلُطْفٍ ورِفْقٍ, وهو أعلم بحالك منك, وألْطَفُ بك من نفسك. فإذا أراد اللطيفُ أنْ يرحَمَك؛ أرسَلَ إلى نفسِك نورَ الإيمان, فيبقى صدرُك مُشرِقاً بنوره, كارِهاً للفواحش والفِتن, مُجْتنِبًا للمعاصي, (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
وإذا أرد اللطيفُ أنْ ينصُرَكَ؛ أمَرَ ما لا يكون سببًا في العادة, فكان أعظمَ الأسباب لِنُصْرَتِك؛ إنه (اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). وإذا أراد اللطيف أنْ يشفيك؛ أرسل لك أغرَبَ سبب, وربما أضْعَفَ سبب؛ إنه (اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
وإذا أراد اللطيفُ أنْ يرزقك؛ يسَّر أُموراً، ربما خفيت عليك, لكنَّ اللهَ عَلِمَها؛ فقد يُرْسِلُ فقيراً إليك فتبذل له, فيدعو؛ فتفتح لدعوته أبوابُ السماء, فيُساق الرِّزقُ إليكَ, وتتم إرادتُه على ما يشاء, وأنتَ غَيرُ مُدرِكٍ؛ إنه هو (اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
أخي الكريم: لو عَلِمَتَ ما يُدَبِّرُ اللطيفُ لك؛ لاسْتَحْييتَ منه حقَّ الحياء, فكم من مرضٍ أصابك فأزاله!، وكم من مصيبةٍ حَلَّتْ بك فحوَّلها عنك!، وكم من دَيْنٍ قضاه!، وكم من هَمٍّ فرَّجه!, ليس بحولٍ منك ولا قوة, وإنما بِلُطفٍ منه وكرم. فإذا ألَمَّ بِكَ المرض, وأثقلكَ الدَّيْن, وحَزِنْتَ على غائب, وخفت على الولد, وأتعبك الفقرُ؛ فتذكَّر أنه هو (اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
ومن لُطْفِ اللهِ بك: أنْ هداك إلى الخير هدايةً لا تخطر ببالك. ومن لُطْفِه بك؛ أنْ قيَّضَ لك كُلَّ سببٍ يحول بينك وبين المعاصي، حتى إنه -تعالى- إذا عَلِمَ أنَّ الدنيا والمال تقطعك عن طاعته، أو تَحْمِلُكَ على الغفلة عنه، أو على معصية صَرَفَها عنك، وقَدَرَ عليك رِزْقَه، ولهذا قال: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ)[الشورى: 19]، بحسب اقتضاء حِكمَتِه ولُطْفِه (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) الذي له القوة كلُّها.
ومِن لُطْفِه بك: أنه يرحمك مِن طاعة نفسِكَ الأمَّارة بالسوء، فيوفقك لِنَهْيِ النفس عن الهوى، ويصرف عنك السوءَ والفحشاءَ، فإذا تعرضْتَ لأسباب الفتنة, وجواذِبِ المعاصي؛ أرسلَ إليكَ بُرهانَ لطفه، فانشرحتْ نفسُك لتركها.
ومِن لُطْفِه بك: أنه يُقَدِّرُ عليك أنواعَ المصائب والابتلاء بالأمر والنهي الشاق؛ رحمةً بك ولُطفاً؛ لِتُساقَ إلى كمالك في الدنيا, وكمالِ نعيمك في الآخرة: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216].
ومن لَطِيفِ لُطْفِه بك: أنْ أذاقك حلاوةَ بعضِ الطاعات؛ فَتَنْجَذِبَ إليها وترغَبَ فيها, وتَصِير لك عادة, وتُقَوِّيكَ بعد ذلك على طاعاتٍ أجلَّ منها وأعلى، ولم تكن تحصل عليها وتترقَّى فيها؛ لولا لُطْفُ الله بك وإنعامُه عليك.
ومِن لُطفه بك: أنْ نشأتَ بين أبَوَين صالِحَين، وأقارِبَ أتقياء، أو في بلدِ صلاحٍ، أو وفَّقكَ لِصُحبَةِ أهل الخير، أو لتربية العُلماء الرَّبَّانيين؛ فإنَّ هذا مِن أعظم لُطفه بك.
ومِن لطف الله بك: أنْ جعلَ رزقكَ حلالاً وقَنَّعَكَ به، ولم يشغَلْكَ عَمَّا خُلِقْتَ له من العبادة والعلم والعمل، وربما طمحت نفسُك -لسببٍ من الأسباب الدنيوية التي تظنُّ فيها إدراكَ بغيتِك- فيَعْلَمُ اللهُ -تعالى- أنها تَضُرُّكَ وتَصُدُّك عَمَّا ينفعك؛ فيحولَ بينَك وبينها، فتظلُّ كارهاً ولم تدرِ أنَّ ربَّكَ قد لَطَفَ بِكَ؛ حيث أبقى لكَ الأمرَ النافع, وصرفَ عنك الأمرَ الضَّار، ولهذا كان الرِّضا بالقضاء من أعلى المنازل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أخي الحبيب: ومن لُطفِ اللهِ بكَ: أن أعطاك من الأولاد والأموال ما تقرُّ به عينُك في الدنيا، ثم يبتليك ببعض ذلك، ويأخذه ويُثِيبكَ عليه الأجرَ العظيم إذا صبرتَ واحتسبتَ، فنِعْمَةُ اللهِ عليك بأخْذِه أعظمُ من نِعمتِه عليك في وجوده, فهذا من عظيم لُطْفِ اللهِ بك؛ إذْ قيَّضَ لك أسباباً أعاضك عليها الثوابَ الجزيل، والأجرَ الجميل.
ومن لُطف الله بك: أنِ ابتلاكَ ببعضِ المصائب، ووفَّقَكَ للصبر عليها, وأنالَكَ درجاتٍ عالية لا تُدركها بعملك، وقد يُشدِّد عليك الابتلاء, ثم يوجِدُ في قلبك حلاوةَ رُوحِ الرجاء، وتأميلَ الرحمة، وكشفَ الضُّر، فيُخَفِّف ألَمَك، وتَنْشَطُ نفسُك، فمِنْ لُطْفِ الله بالمؤمنين: أنْ جَعَلَ في قلوبهم احتسابَ الأجر؛ فخفَّت مصائبُهم، وهان ما يَلْقَون من المَشاقِّ في حصول مرضاته.
ومن لُطْفِ الله بعبده المؤمِنِ الضَّعيف: أنْ يُعافِيَه من أسباب الابتلاء التي تُضْعِفُ إيمانَه، وتُنْقِصُ يقينَه. كما أنَّ من لُطفه بالمؤمن القوي: تهيئةَ أسبابِ الابتلاء والامتحان ويُعِينه عليها، ويَحْمِلها عنه ويزداد بذلك إيمانُه، ويعظم أجرُه. فسبحان اللطيفِ في ابتلائه وعافيته، وعطائه ومَنْعِه!
ومن لُطْفِ اللهِ بك: أنْ جعل ما يبتليك به من المعاصي سبباً لرحمته، فيفتح لك عند وقوع ذلك بابَ التوبةِ والتَّضرع، والابتهالِ إلى ربك، وازدراءَ نفسِك واحتقارَها، وزوالَ العُجْبِ والكِبْرِ من قلبك ما هو خيرٌ لك من كثيرٍ من الطاعات.
ومن لُطْفِه بك: إنْ مالَتْ نفسُك مع شهوات النفس الضَّارة، واسترسَلَتْ في ذلك؛ نغَّصَها وكدَّرها، فلا تكاد تتناول منها شيئاً إلاَّ مقروناً بالمُكدِّرات، محشواً بالغَصَص؛ لِئلاَّ تميلَ معها كلَّ المَيل، كما أنَّ مِن لُطفه بك أن يُلذِّذ لك الطاعات؛ لِتَمِيلَ إليها كُلَّ المَيل.
وألْطَفُ من هذا: أنْ يُقدِّرَ اللهُ لك ويَبْتَلِيَكَ بوجود أسباب المعصية، ويُوفِّرَ لك دواعيها - وهو -تعالى- يعلم أنك لا تفعلها؛ ليكون تركُكَ لتلك المعصية التي توفَّرَتْ أسبابُ فِعْلِها مِن أكبر الطاعات، كما لَطَفَ بيوسفَ -عليه السلام- في مراودة المرأة، وأحدُ السَّبعةِ الذين يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّهِ يوم لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّه: رجلٌ دعته امرأةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمال فقال: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ.
عباد الله: وإنْ شِئْتُمْ أنْ تَعْرِفوا شيئاً من لُطْفِ الله في خَلْقِه: فانظروا إلى خَلْقِ الأجِنَّةِ في الأرحام, حيث خَلَقَنا اللَّطيفُ الخبيرُ في الأرحام خَلْقاً من بَعدِ خَلْقٍ في ظُلمات ثلاث, وكيف يتنامى الجنينُ في الرَّحم شيئاً فشيئاً, وكيف تُشَكَّلُ أجهزتُه, وتأمَّلوا -إخوتي- لُطْفَ اللهِ بعباده في حاجتهم إلى الأُكسجين الذي في الهواء, فهذا غَيضٌ من فَيضٍ من ألطاف الله الخَفِيَّة, وأما ألْطافُه الظاهِرَةُ فهي في كُلِّ نِعمةٍ من نِعَمِه -سبحانه- التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى؛ مِمَّا يُشاهَدُ في الآفاق والأنفس, ولو ذَهَبْنا نستعرض لُطْفَه -سبحانه- في نِعَمِه الظاهرة؛ لَفَنِيَت الأعمارُ ولم نُدْرِكْ لها عَدًّا.
ويكفي أنْ نَذْكُرَ لُطْفَه -سبحانه- في تيسير لُقْمَةٍ واحدةٍ: يتناولها المرءُ من غير كُلْفَةٍ يتجشَّمها, وقد تعاوَنَ على إصلاحها خَلْقٌ كثير؛ من مُصِلِحِ الأرض, وزارِعِها, وساقيها, وحاصِدِها, ومُنقيها, وطاحِنِها, وعاجِنِها, وخابِزِها, وتيسير مَضْغِها مما وَضَعَ اللهُ في الفَمِ من أسنانٍ طاحِنَةٍ وقاطِعَةٍ, ولِسانٍ يُدِيرُ اللُّقمةَ ويسهلها للبَلْعِ, ولُعابٍ يُسَهِّلُ مُرورَها إلى المَرِيء إلى آخِرِ هذه الألطاف الربانية؛ فسبحان اللَّطيفِ الخبير.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
التعليقات