عناصر الخطبة
1/ شرف الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته 2/ منزلة ومكانة المدينة النبوية 3/ اللحظات الأولى لقدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة واستقبال أهلها له 4/ أول خطبة خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- عند قدومه المدينة 5/ السعادة والنجاة في متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتخلق بأخلاقهاقتباس
خرجوا على عادتهم، فلما حَمِي الحر، رجعوا إلى دُورهم يستظلون من حر الشمس وضوئها، فصعد رجل من اليهود على أُطم من آطام المدينة، على واحد من حصونها المرتفعة، وذلك لبعض شأنه، فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فصرخ بأعلى صوته: يا معشر العرب...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله، نَحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: إنَّ الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وعن سيرته الشريفة، مما تطيب به النفوس، وتهنأ به الأرواح، وتطمئن به القلوب؛ ذلك لأنَّ فيها الخير والهدى، وفيها من بيان الطريق الذي ينبغي أن نسلكه ونقتدي فيه بنبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- ما هو واضح وبيِّن، وقد قال رب العزة -سبحانه-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
وفي هذا المقام أنتقل بكم -أيُّها الإخوة المؤمنون- إلى تلك البدايات الكريمة لدخول نبينا محمدٍ -عليه الصلاة والسلام- للمدينة النبوية المنورة، لقد شَرُفت المدينة بهجرةِ النبي -عليه الصلاة والسلام-، وصارت مأرِزًا لأوليائه، ومكانًا ومأوًى للصالحين، ومعقلًا وحصنًا منيعًا للمسلمين، ودار هدًى للعالمين، إنها مدينة النور، إنها عاصمة النور بالحقِّ والحقيقة؛ فمنها شعَّ الهدى، ومنها عمَّ الخير إلى كلِّ الناس، ولا يزال العالم ينهلُ من آثارِ وبركات مُهاجر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى هذه المدينة المنورة، فحين يُقال: عاصمة النور، يُراد بها مدينة معينة في عالم اليوم؛ فإنَّ الحق والحقيقة أنَّ عاصمة النور هي المدينة النبوية.
وعند التأمل في سيرة نبينا -عليه الصلاة والسلام-، بعد أن أذِن الله له بالهجرة من مكة، بعد أن أقام بها ثلاثة عشر عامًا، بعد أن أقام بمكة المكرمة ثلاثة عشر عامًا يدعو إلى دينِ الله، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور -بإذن ربه-، أذِن الله له بعد أن استنكفت قريش عن قَبول هذا الهدى، وبعد أن تمادت في صَلَفها في أذيَّة هذا النبي الكريم، ورفض دعوته ومحاربة شرعته، أذِن الله له -جل وعلا- أن يهاجر إلى المدينة النبوية.
وكانت قبل ذلك تُدعى: "يثرب"، فلما دخلها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، عمَّها النور والخير والهدى للعالمين.
وفي هذه الدقائق نقف وإياكم -أيها الإخوة المؤمنون- عند اللحظات الأولى، والأيام الأولى لمقدم النبي الكريم للمدينة النبوية، وذلك كما ذكره الإمام البخاري في صحيحه، وابن إسحاق في سيرته، والحاكم في مستدركه، وغيرهم، فإنه لما بلغ الأنصار مخرج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من مكة مهاجرًا إلى المدينة، وكانوا يتراؤون هذا الحدث، بعد أن كان منهم البيعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنُصرته عند مجيئه إليهم، ولَمَّا يعلموا بعدُ متى يكون هذا القدوم لهذا الركب الميمون؟
لكن لَمَّا جاءت بعض الإرهاصات بمقدم النبي الكريم، وعلموا بخروجه من مكة، كانوا يتراؤون قدومه -عليه الصلاة والسلام-، فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار، والحرة هي الحجارة السود التي تحيط بالمدينة، وبالمدينة حرتان معروفتان، فكانوا يخرجون خارج المدينة؛ ليكونوا في استقبال النبي الكريم، فإذا اشتد الحر رجعوا إلى منازلهم، فلما كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة أربع عشرة من البعثة الشريفة، وهي السنة الأولى من الهجرة الموافق للثالث والعشرين من أيلول سبتمبر سنة اثنتين وعشرين وستمائة من الميلاد، خرجوا على عادتهم، فلما حَمِي الحر، رجعوا إلى دُورهم يستظلون من حر الشمس وضوئها، فصعد رجل من اليهود على أُطم من آطام المدينة، على واحد من حصونها المرتفعة، وذلك لبعض شأنه، فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فصرخ بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدُّكم الذي تنتظرون.
نعم، يقول هذا اليهودي: هذا هو محمد، هذا جدُّكم؛ يعني: نصيبكم وحظكم الذي به فخرُكم، جاءكم الخير، جاءكم عزُّكم، جاءكم شرفُكم، وذلك لما يَعلمه هذا اليهودي من الأخبار في الكتب الأوائل، وما يكون من بَعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من الخير والهدى، فحين سمع المسلمون هذا الخبر من اليهودي، بادروا وثاروا جميعًا إلى السلاح؛ وذلك لإظهار الحفاوة بهذا الركب الميمون، فتلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظهر الحرة، وسمعت الرجَّة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبَّر المسلمون فرحًا بقدومه -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولذلك كان هذا المقدم عظيمًا كريمًا في نفوسهم، نعم كبَّر الغلمان والجواري، وعامة أهل المدينة: "الله أكبر، جاء محمد"، سُمِعت هذه التكبيرة وهذا الانبعاث والأصوات فرحًا بالنبي الكريم -عليه الصلاة والسلام-، وخرجوا للقائه يتتابعون في ذلك، فتلقوه وحيَّوه بتحية النبوة
وكان من لم يرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قبلُ يُحيِّي أبا بكر؛ ظنًّا منهم أنه الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فلما اشتدَّ الحر بادَر أبو بكر -رضي الله عنه- يُظلل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بردائه، فعرَفوا الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وأحدقوا به طائفين حوله والسكينة تغشاه، والكل متهلل فَرِحٌ بهذا النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهؤلاء الغِلمان والصبيان والخدم وغيرهم، يصيحون وينادون: "جاء محمد، جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد".
ويذكر بعض أهل كتب السِّير ما كان منهم من هذا النشيد المعروف:
طلَع البدرُ علينا *** من ثنيات الوداع
وجَب الشكرُ علينا *** ما دعا لله داع
هكذا فرِحوا -رضي الله عنهم- وحُقَّ لهم أن يَفرحوا.
ثم سار النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن كانت هذه الحفاوة وهذا الاستقبال للنبي الكريم، حتى نزل في قباء، في دار هي دار بني عمرو بن عوف، وهم من الأوس، على كلثوم بن الهدم، وذلك مدة أربعة عشر ليلة أَسَّس فيها مسجد قباء، وهو أول مسجد أُسِّس بعد الهجرة.
وفي هذا يذكر الإمام البخاري -رحمه الله- عن الزهري عن عروة: أنه -عليه الصلاة والسلام- نزل في بني عمرو بن عوف بقباء، وأقام فيهم بضع عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء تلك الأيام، ثم ركب ومعه الناس، حتى بركت راحلته في مكان مسجده، وكان مربدًا لغلامين يتيمين، هما سهل وسهيل، فكان أن قدَّما هذا المكان تبرعًا منهما، إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقبل ذلك وابتاعه منهما، واتخذه مسجدًا، وذلك في دار بني النجار -رضي الله عنهم-.
وهكذا نشاهد حفاوة الصحابة -رضي الله عنهم- بهذا النبي الكريم الذي ما يمر بدار ولا في قبيلٍ وقوم، إلا وهم يدعونه -عليه الصلاة والسلام- ليشرفهم بذلك.
وبعد هذا ركب رسول الله -صلى الله عليه سلم- بأمر الله -جل وعلا- منتقلًا من قباء، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار أخواله -رضي الله عنهم-، فجاؤوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمَّع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل، وكانت أول جمعة داخل المدينة، وسأسوق خطبته الشريفة -عليه الصلاة والسلام-، وهي أول خطبة في المدينة النبوية المنورة.
وقد كان نزول النبي -صلى الله عليه وسلم- على بني النجار تشريفًا لهم، وذلك منقبةٌ عظيمةٌ لم يكن لأحد من أهل المدينة غيرها، وهذا من الفضل الذي أُوتوه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ذكر بني النجار، وأراد أن يخصَّهم بذلك، وقال: إنهم أخوال عبدالمطلب، فنزل عليهم -رضي الله عنهم-، وهي منقبةٌ عظيمة، وتشريفٌ لهم، وتشريف أيضًا لأهل المدينة جميعًا، فإن الله -جل وعلا- قد أثنى عليهم في كتابه الكريم بنُصرتهم للنبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-، وحسب أهل المدينة من الأنصار جميعًا، وكانت دُورهم عديدة تبلغ تسعًا، وفيهم من القبيل والعدد والعدة، وكلٌّ مستعد لنُصرته -عليه الصلاة والسلام-، وأيضًا في دُورهم من النخيل والمؤن الشيء الكثير، لكنه -عليه الصلاة والسلام- خصَّ بني النجار بهذه المنقبة العظيمة.
والله -جل وعلا- قد أثنى على جميع الأنصار؛ كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
وأثنى الله -جل وعلا- أيضًا على هؤلاء القوم من الأنصار بقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) [الحشر:9].
والمقصود: أن هذا الاستقبال العظيم الذي كان من الصحابة -رضي الله عنهم- يبيِّن شدة حبِّهم له -عليه الصلاة والسلام-، وما جعل الله لهم من الفضل بهذا الاستقبال.
وتأملوا صورة أخرى في هذا الاستقبال لهذا الركب النبوي الكريم؛ كما روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، وكان إذ ذاك صبيًّا وغلامًا صغيرًا، قال: "إني لأسعى مع الغلمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئًا، ثم يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئًا، قال حتى جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر، فكمنَّا في بعض حرار المدينة؛ يعني: اختبأنا ننظر على طرف خفي، وذلك بالنظر إلى صغرهم، قال -رضي الله عنه-: ثم بعثا رجلًا من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار؛ وذلك لأنه وهو خارج المدينة رأى قدوم رسول الله بصحبة أبي بكر -رضي الله عنه-، قال أنس: فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار، حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين، فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة، حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه، يَقُلْنَ: أين هو؟ أين هو؟ فما رأينَ منظرًا شبيهًا به يومئذ، قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض، فلم أر يومين مشبهًا بهما" يعني بذلك ما حصل من النور الذي عمَّ المدينة بمقدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما كان أيضًا من الحزن العظيم الذي أظلمت معه الدنيا عند وفاته -عليه الصلاة والسلام-.
هذا -أيها الإخوة الكرام- يبيِّن جانبًا من حَفاوة الصحابة -رضي الله عنهم- بالنبي الكريم، ويبيِّن كيف كانت البدايات لعاصمة النور المدينة النبوية المنورة.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فكما تقدَّم -أيها الإخوة الكرام- كان مقام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أول ما قدم إلى المدينة كان مقامه في قباء، ثم إنه -عليه الصلاة والسلام- لما خرج متوجهًا إلى المدينة، أدركته الجمعة في دار بني عمرو بن عوف، وهنالك صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين أول جمعة بالمدينة المنورة، وخطب فيهم خطبةً شريفةً كريمة، وكان نص هذه الخطبة قوله -عليه الصلاة والسلام-:
"الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاعٍ من الزمان، ودُنوٍّ من الساعة، وقربٍ من الأجل، مَن يُطع الله ورسوله فقد رشد، ومَن يَعصهما فقد غوى وفرَّط، وضل ضلالًا بعيدًا.
وأُوصيكم بتقوى الله؛ فإنه خير ما أوصى به المسلمُ المسلمَ؛ أن يحضَّه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله؛ فاحذروا ما حذَّركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحةً، ولا أفضل من ذلك ذكرًا.
وإن تقوى الله لمن عمِل به على وَجَلٍ ومخافة من ربه، عونُ صدقٍ على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية، لا ينوي بذلك إلا وجهَ الله - يكن له ذكرًا في عاجل أمره، وذخرًا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدًا بعيدًا: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].
والذي صدق قوله وأنجز وعده، لا خلف لذلك؛ فإنه يقول عز وجل: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق:29].
فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية؛ فإنه من يتقي الله يكفِّر عنه سيئاته، ويعظم له أجرًا: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].
وإن تقوى الله -جل وعلا- تقي مَقته، وتقي عقوبته، وتقي سخطه، وإن تقوى الله تبيِّض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تُفرطوا في جنب الله؛ قد علَّمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله؛ ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.
فأحسِنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين؛ ليهلك من هلك عن بيِّنة، ويحيا مَن حيَّ عن بينة، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله، يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العظيم".
هذه خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- الأولى بالمدينة النبوية المنورة، وقد ألقاها -عليه الصلاة والسلام- في هذا المسجد، وهو قائم إلى اليوم في دار بني عمرو بن عوف، وموضعه لا زال قائمًا إلى يومنا هذا، وقد أورد هذه الخطبة الإمام ابن جرير في تاريخه، وكذلك ابن كثير في البداية، وقال: "إن سندها مرسل، ولكنها تتقوَّى بشواهدها"، وهذه الخطبة النبوية الكريمة واضح فيها البلاغة وجزالة الألفاظ، وما أُوتي -عليه الصلاة والسلام- من جوامع الكَلِم.
وبعد -أيها الإخوة المؤمنون- فهذه بدايات نبيِّنا -عليه الصلاة والسلام- في المدينة النبوية المنورة، وحقٌّ على كل مسلم إن أراد سعادة نفسه ونجاتها أن يقتفي آثار هذا النبي الكريم، وأن يعرف من سيرته وسُنته ما يخرج به عن عداد الجاهلين به؛ فإن الله أنكر على مَن تنكَّب هذا السبيل، ولم يرفع رأسًا بمعرفة النبي الكريم، فقال عز من قائل: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [المؤمنون: 69].
وإنه لقبيحٌ بالإنسان أن تكون عنده هذه النعمة العظمى والمنحة الكبرى، ثم بعد ذلك لا يرفع بها رأسًا، ولا يعظِّم هذا الشأن، مع أنه فضل من الله عظيم.
وقبيحٌ من الإنسان أيضًا أن تكون معرفته بعدد من الناس من آحادهم، ممن ليس لهم مقام ولا أثر كريم: أن يعرف من شأنهم ما يعرفه، ويحفل به، ثم بعد ذلك يعرض عن معرفة سيرة نبيه وهديه وسُنته، ولا يرفع بذلك رأسًا، فهذا علامة على الخِذلان، وعلامة على البعد عن الصراط المستقيم، نعوذ بالله من كل ذلك!
فحقيق بالمسلم أن يكون عالمًا بسيرة وسنة نبيه، مزدادًا من ذلك، فهذا هو الفضل العظيم والخير والبر الكبير، وأن يتدارس هذا الأمر مع مَن يجالسهم من أصدقائه وزملائه، ومع أهل بيته وأولاده، ومع كل من يجالسهم، فذلك خير عظيم.
ألم تروا كيف أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قد قال: "ما جلس قوم مجلسًا، ثم لم يذكروا الله تعالى، ولم يصلوا على نبيه -عليه الصلاة والسلام-، إلا كان مجلسهم ذلك عليهم تِرة من الله" (يعني: حسرة وندامة أن لم يكونوا على هذه الحال) -فعياذًا بالله من الإعراض ومن الخِذلان-، ونسأله سبحانه أن يُكرمنا بالاستقامة على شرعه، والقرب من هدي نبيه، والقرب من مجلسه يوم القيامة، والشرب من حوضه الشريف، إن ربي سميع قريب مجيب.
ألا وصلوا وسلِّموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا الله بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم احفظ علينا في بلادنا الأمنَ والطمأنينة، ووفِّقنا لما تحبه يا رحمن.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّقهم للخير وأبعدهم عن الشر، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبعد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكْفِهم شرارهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارًا.
اللهم أصلح لنا نيَّاتنا وذريَّاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا هَمًّا إلا فرَّجته، ولا كربًا إلا نفَّسته، ولا دَينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا سائلًا إلا أعطيته برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم عبادك المستضعفين من المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم عجِّل بالفرج والتثبيت لإخواننا في فلسطين وفي الشام، وفي غيرها من البلاد يا رب العالمين.
اللهم احقن دماء المسلمين، واكفهم الشرور والفتن، اللهم ارحم ضَعف إخواننا المبتلين في حلب في الشام، اللهم احقن دماءهم، اللهم أَدِرِ الدائرة على أعدائهم.
اللهم يا قوي يا عزيز، نسألك اللهم أن تنتصر لعبادك المستضعفين من طاغية الشام، اللهم عجِّل بهلاكه، واشفِ غيظ قلوب المؤمنين منه ومن أعوانه يا قوي يا عزيز.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 181-182].
التعليقات