عناصر الخطبة
1/ معالم الرجولة ومبانيها 2/ الأخلاق أساس لبناء الرجال والأمم 3/ أهمية كتمان السر والحفاظ عليه 4/ المجالس أمانات 5/ أقسام كتمان السر وأحكامه 6/ نماذج من كتمان السر في الجيل القرآني الفريداهداف الخطبة
اقتباس
إن مجالسنا اليوم في الغالب هي مجالس هتك للأستار، ونقل للأسرار حتى أصبح مما يستلذ ويُستطاب، وكأنه لا همّ لنا ولا شغل إلا أخبار الناس حتى غدا الكتوم للأسرار نادرًا كالغراب الأعقم، فلا تكاد تجد أمينًا حافظًا للأسرار مستأمنًا عليها.. وكم خربت من بيوت ومُزقت من أُسَر، بل وكم نشأت من حروب بسبب نقل الأسرار وعدم الحفاظ عليها.. فأين الأحرار يا عباد الله؟ أين الأحرار؟ أين الرجال الذين يحفظون الأسرار، ولا يشيعونها ولو تعرضوا للضغط أو..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
معاشر الصالحين الأبرار: إن المؤمن المتقي الراغب في الترقي والحريص على التوقي لا بد له من النهج والتلقي، لا بد له من الاستفادة من العلم النافع.. يقبل عليه ويشرب من ينابيعه ويحني الرُّكَب في حِلقه، ويبحث عن أهله؛ لأنه لا سبيل للخروج من هذه الدركات والصعود منها إلا بالعلم.
فأنتم ترون معاشر الأحباب: ما وصلت إليه الأمة من الانحطاط في جميع الجهالات، وخصوصًا ما يتعلق بالدين والفكر، غفلة مستحكمة، ونفوس للهوى مستسلمة، ولم يسلم من العدوى أحد إلا من سلمه الله وأمده، حتى الرجولة التي هي من مقومات الالتزام لم تسلم من السهام السافرة التي تُصوَّب إليها من كل جانب وبألوان شتى.
ومن ثم كان لزامًا على كل منتسب إلى الدين، غيور على ميراث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أن ينهض من ثُبَاته، وأن يعيد صياغة وجدانه كي لا يكون قصة في العبث والباطل..
يجب على كل صادق راغب في الرجوع إلى الله أن يعيد بناء نفسه، وتشكيل رجولته، وذلك بالإقبال على العلم النافع الذي ينير أمامه الطريق، ويلقي في حياته شواهد التحقيق حتى يكون بكل خير حقيق.
وإن هذه السلسلة نحن بصددها من معالم الرجولة ليس الغرض منها أن تذكر لتضمر وتغمر، أو تروى لتطوى، ولكن الغرض أن تذكر لتُستثمر وتكون عنوانًا بارزًا في حياتنا عسى الله أن ينفعنا بذلك...
فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى وصدق الله إذ يقول: (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا) [الأنفال: 70].
معاشر الأحباب: إن أزمتنا الحقيقية هي أزمة أخلاق، فهذه هي معضلتنا الأولى بلا شك ولا ريب، إن معاملاتنا وأحوالنا تبين بالدلائل أن هناك فجوة وشرخًا كبيرًا بيننا وبين ديننا حتى المنتسبين إلى الالتزام مع الأسف يشتكون من هذا الخلل، وهذا النتوء الخُلقي ويعانون منه فيما بينهم.
إن التزامًا لا يثمر أخلاقًا فاضلة هو التزام معلول، وأنا سائل إخواني بكل صدق هل أخلاقنا اليوم هي أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم؟ هل أخلاقنا هي أخلاق السلف الكرام؟
لا والله...لا والله...إذا فنحن مطالبون بإعادة البناء من جديد ولن يستقيم البناء إلا على قواعده وأساساته التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم..
إن الرجولة اليوم تشكو في ظل هذه الأخلاق المهترئة والمعاملات المهزوز، وتبعث بنداءات استغاثة علها تجد آذانًا صاغية من أهلها وأصحابها، فيقيموا معالمها ويعيدوا إليها اعتبارها.
وبعد أن تكلمنا معاشر الأحباب عن ثلاث معالم من معالم هذه الرجولة؛ والمتمثلة في التعلق بالمساجد، والغيرة، والوفاء بالوعد، نتكلم اليوم إن شاء الله عن المعلم الرابع وهو معلم بالغ الأهمية بل هو عنوان بارز من عناوين الرجولة انهزم أمامه الكثير من الناس ولم يتحلَّ به إلا الخلص الكُمل من الرجال إنه "كتمان السر والحفاظ عليه".
معاشر الأحباب: إن مجالسنا اليوم في الغالب هي مجالس هتك للأستار، ونقل للأسرار حتى أصبح مما يستلذ ويُستطاب، وكأنه لا همّ لنا ولا شغل إلا أخبار الناس حتى غدا الكتوم للأسرار نادرًا كالغراب الأعقم، فلا تكاد تجد أمينًا حافظًا للأسرار مستأمنًا عليها..
وكم خربت من بيوت ومُزقت من أُسَر، بل وكم نشأت من حروب بسبب نقل الأسرار وعدم الحفاظ عليها.. فأين الأحرار يا عباد الله؟ أين الأحرار؟ أين الرجال الذين يحفظون الأسرار، ولا يشيعونها ولو تعرضوا للضغط أو الإغراء؟! وقديما قيل: "صدور الأحرار قبور الأسرار".
عن أبي بكر بن محمد بن بكر بن حزم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، لا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره» رواه عبد الرزاق في المصنف.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم جعل المجالس وما يدور فيها من حديث أمانة، فلا يجوز أن ينقل ما جرى فيها إلا ما كان خيرًا ولا يجوز نَقْله ونَشْره.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المجالس بالأمانة إلا ثلاثة؛ مجالس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي.
والمعنى أن ما يحدث في المجالس أمانة إلا ما يؤدي إلى إراقة دم مسلم بغير حق، أو استحلال فرج حرام على وجه الزنا، أو استحلال مال بغير حق سواء من مسلم أو ذمي.
فمن قال في مجلس مثلاً أريد قتل فلان، أو الزنا بفلانة، أو أخذ مال فلان أو ما شابه ذلك من وجوه الإساءة والضرر فلا يجوز للحاضرين حفظ سرره بل عليهم إفشاءه؛ دفعًا للمفسدة.
وقد قسم العلماء الكتمان إلى قسمين: كتمان محمود, وكتمان مذموم؛ فالأول وهو المحمود: هو درب من الأمانة ونوع من الوفاء، وعلامة على الرجولة، وهو كتمان سر الغير أو النفس وهو مناط هذه الصفة ومعقدها.
أما الثاني وهو المذموم: كتمان الشهادة وقد ذمه المولى في قوله (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ...) [البقرة: 283], وقال أيضًا: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) [البقرة: 140]، وكذلك كتمان ما أنزل الله قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة: 159].
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: "وكتمان ذلك -أي العلم- وسيلة إلى تضييع أحكام الله وما يتعلق به من طاعة".
وقد ذكر ابن عبد البر الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أسر إلى أخيه سرًّا لم يحل له أن يفشيه عليه".
ويبلغ التحذير منتهاه عندما يتعلق الأمر بالمؤسسة الزوجية؛ لأن الشرع الحكيم غلف هذه المؤسسة بغلاف من الستر والوقار، فلا يجوز فيها نشر الأسرار، ولا هتك الأستار..
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال صلى الله عليه وسلم: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها" رواه مسلم.
ولقد كان من نتائج ما نعيشه من انحطاط خُلقي أن الكثير من الناس مع الأسف ينشرون الأسرار الزوجية الخفية على رءوس الأشهاد دون خجل ودون حياء، وذلك تحت عنوان التحرر عياذًا بالله من ذلك.
ولقد كان المجتمع الإسلامي في عهد سيدنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم متسمًا بفضائل الأخلاق ومعالم الرجولة ومنها هذا المعلم "كتمان السر".
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع عمر بن الخطاب يحدث حين تأيمت حفظة [أي مات زوجها] حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب: "أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة بنت عمر"، وهذا أصل في جواز عرض البنت على الصالحين أو ما يرى فيهم الصلاح..
فعرضت عليه حفصة فقال: "سأنظر في أمري" فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت زوّجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إليّ شيئًا، وكنت أوجد عليه مني على عثمان [أي تألمت] فلبثت ليالي.
ثم خطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر قلت: نعم.. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ إلا أني كنت علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو تركها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قبلتها. رواه البخاري
يا لها من تربية، يا لها من رجولة، أرأيتم كيف تصرف الرجال وكيف تحفظ الأسرار؟ فأين نحن من هذه الأخلاق يا عباد الله؟! أين نحن من هذه التربية الرائقة الرائعة.
تستأمن اليوم الرجل على سرك فتجده في المجالس والأسواق ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولله در القائل:
إذا المـرء أفشـى سـره بلسانـه *** ولام عليـه غيـره فهـو أحمـق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسـه *** فصدر الذي يستودع السر أضيـق
جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين.. آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بعث رسوله لإتمام مكارم الأخلاق أحمده حمد معترف، وأشكره شكر مغترف، وأسأله المزيد من فضله وهو العليم الخلاق والصلاة والسلام على باني صرح الفضائل سيدنا محمد كثير الشمائل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأبرار وعلى من سار على نهجهم إلى يوم الدين.
معاشر الأحباب: قد بالفضائل أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الأصحاب على اختلاف أعمارهم حتى الأطفال كان لهم حظ ونصيب من هذه المكارم ومنها كتم الأسرار.
فعن ثابت عن أنس رضي الله عنهما قال: "أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلّم علينا فبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئتُ قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة، قالت: ما حاجته؟، قلت: إنها سر!!، قالت: لا تخبرنّ بسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدًا، قال أنس: والله لو حدثتُ به أحدًا لحدثتك به يا ثابت ". رواه مسلم.
انظروا إلى هذا التكامل الرائع بين جميع الفئات حتى الأم تشجّع ابنها على حفظ السر وكتمه ولو حصل مثل هذا الموقف في زماننا لكان نصيب الابن الضرب المبرح حتى يفصح عن السر ويفضحه إلا من رحم ربي.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فلما رآها رحب بها فقال: مرحبًا بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارَّها فبكت بكاء شديدًا فلما رأى جزعها سارَّها الثانية فضحكت..
فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما كنت أفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [آل عمران: 34].
قالت فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: أما الآن فنعم، أما حين سارّني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين وأنه عارضه الآن مرتين وقال: أني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك..
قالت فبكيت بكائي الذي رأيتِ، فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: يا فاطمة أما ترضي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة؟ قالت فضحكت ضحكي الذي رأيت. رواه البخاري ومسلم.
معاشر الأبرار: إن إفشاء الأسرار وعدم الحفاظ عليها وكتمانها خيانة وجناية، وهو حرام على كل مكلف، قال الإمام السّفّارينيّ: "يحرم على كل مكلف إفشاء السر"، وقال الإمام الغزالي: "هو منهي عنه؛ لما فيه من الإيذاء والتهاون بحق المعارف والأصدقاء، وهو حرام إذا كان فيه إضرار وهو من قبيل اللؤم إن لم يكن فيه إضرار".
وقد اختلف أهل العلم في مسألة إفشاء السر بعد موت صاحبه، قال ابن بطال: "الذي عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة، وأكثرهم يقول: إنه إذا مات لا يلزمه كتمانه ما كان يلزمه في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة".
وقال ابن حجر: "الذي يظهر أن الإفشاء بعد الموت ينقسم إلى أربعة أقسام: أولا: ما يحرم إذا كان فيه غضاضة على صاحبه، ثانيا: ما يكره مطلقا، ثالثا: ما يباح، رابعا: ما يستحب ذكره وإن كرهه صاحب السر كأن يكون فيه تزكية أو منقبة أو نحو ذلك". وقال العز بن عبد السلام: "الستر على الناس شيمة الأولياء ".
عباد الله: إن هذه الخصلة قد تصل بصاحبها إلى أن تغفر ذنوبه كلها بسببها ولا عجب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت، قال صلى الله عليه وسلم: "من غسّل ميتًا فأدى فيه الأمانة، ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» رواه أحمد في المسند وأقره الذهبي.
يا له من دين يراعي حرمة الأحياء والأموات ويشيع الفضائل في دنيا الناس، ولله در القائل:
ومستودعي سرًا تضمنت سره *** فأودعته من مستقر الحشا قبرا
ولكنني أُخفيه عني كأنني *** من الدهر يومًا ما أحطت به خُبرا
وما السر في قلبي كميت في حفرة *** لأني أرى المدفون ينتظر النشرا
ويقول الآخر:
ويكتم الأسرار حتى إنه *** ليصونها على أن تمر بباله
قال صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ بِمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّضْرَةِ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ لِآتِيَكُمْ بِهِ، فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ بِهِ لَأَكَلَ مِنْهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يُنْقِصُونَهُ شَيْئًا، ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، فَلَمَّا وَجَدْتُ سَفْعَهَا [أي حرها] تَأَخَّرْتُ عَنْهَا، وَأَكْثَرُ مَنْ رَأَيْتُ فِيهَا النِّسَاءُ اللَّاتِي: إِنْ اؤْتُمِنَّ أَفْشَيْنَ -إن أؤتمن على الأسرار أفشينها- وَإِنْ يُسْأَلْنَ بَخِلْنَ، وَإِنْ يَسْأَلْنَ أَلْحَفْنَ قَالَ حُسَيْنٌ..» رواه الإمام أحمد.
عباد الله: إن من الناس اليوم يقتات من تتبع الأسرار ونشرها، ويرضى لنفسه بهذا الدور المنحط الخسيس الذي لا يرضى به إلا من انطمست فطرته وضعفت مروءته واهتزت رجولته..
ولو سألني كل شخص من الحاضرين معنا عن تجربته مع هذا الأمر لسمعنا الغرائب والعجاب عن أناس وضعت فيهم الثقة وأخبروا بالأسرار واؤتمنوا عليها فنشروها وأشاعوها، بل وحشوها بالأكاذيب والأباطيل في صورة من صور الهبوط والتدني..
بل من الناس اليوم من يظن أن تعرفه على أسرار ونشرها ذكاء وفطنة، وهي والله غباء وخيانة، قال الحسن البصري رحمه الله: "إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك ".
إن من الناس اليوم مع الأسف من يندس بين الناس ويتقرب إليهم، ويرتاد مجالسهم حتى يلتقط الأخبار والأسرار ويملئ محصلته ليمارس بعد ذلك هوايته وبئست الهواية، فينشر الأخبار ويشيع الأسرار، ومثل هذا قد انطلق من الآدمية فضلاً عن الرجولة، وللأسف ما أكثر هذه النماذج المخزية في دنيا الناس اليوم.
ومنهم من يكتم الأسرار عند العطاء ويشيعها عند المنع وهؤلاء فيهم شبه بالمنافقين الذين قال الله عنهم (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) [التوبة: 58].
ومنهم من ينشر الأسرار عند الغضب، يقول ذو النون المصري رحمه الله: " لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصومًا، ومن أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم؛ لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها".
إن أمناء الأسرار أشد تعذرًا وأقل وجودا من أمناء الأموال، وكثير منهم حفظ المال عنده أيسر من حفظ الأسرار؛ لأن حصون الأموال منيعة وحصون الأسرار بارزة يذيعها لسان الناطق ويشيعها كلام سابق.
يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه: "القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها فليحفظ كل امرئ مفتاح سره ".
لذلكم معاشر الكرام فإني أنصح إخواني ألا يطلعوا أحدًا على أسرارهم؛ لانعدام من هو أهل لذلك إلا من رحم الله، ومن ضاقت عليه الحال وأراد أن يفرغ صدره ويضع الأحمال من على كاهله فليتوجه إلى الله الستير الذي لا يفضح عباده الذي يراهم على المخالفات والعصيان فيسترهم وإذا رجعوا إليه يقبلهم ويبدل سيئاتهم حسنات.
الله الكريم الذي يدني عبده منه يوم القيامة ويلقي عليه كنفه وستره ويحاسبه، ويسأله حتى إذا أيقن بالبوار، وظن أنه من أصحاب النار ناداه الملك الستير «سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم».
فلا تمكّن أحدًا من أسرارك، فمن ملك سرك ملك رقبتك..
اللهم أصلح أحوالنا..
التعليقات