عناصر الخطبة
1/موقف المؤمن الصادق من الأوامر الشرعية 2/صور من مواقف الرضا والتسليم 3/القبول والإذعان من صفات أهل الإيمان 4/ما الفرقُ بينَ الملائكةِ وإبليسَ؟اقتباس
فَهذه الآيةُ عَامةٌ في جَميعِ الأمورِ، وذَلكَ أنَّه إذا حَكمَ اللهُ ورسولُه بشيءٍ، فليسَ لأحدٍ مُخالفتُه، ولا اختيارَ لأحدٍ هَهنا، ولا رَأيَ ولا قَولَ"، وصَدقَ -رحمَه اللهُ-؛ لأنَّهُ لا تثبتْ قدمُ الإسلامِ، إلا على ظهرِ القَبولِ والاستسلامِ....
الخطبة الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ تقدَّسَ ذاتًا وصِفاتٍ وجمالاً، وعزَّ عظمةً وعلوًّا وجلالاً، وتعالى مَجدًا ورِفعةً وكَمالاً، أحمدُه سبحانَه برَى الخلائقَ فلا نقصَ يعرُوها ولا اعتِلالاً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له تَفرَّدَ في خَلقِه وأبدَعَ، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أفضلُ مُقتدًى به وأكملُ مُتَّبَع، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه أهلِ الفَضلِ والتّقَى والورَعِ، والتَّابعينَ ومن تبِعَهم بإحسانٍ ولنهجِ الحقِّ لَزِمَ واتَّبَع، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعدُ: أيُّها الحبيبُ!! أخبرني عن شُعورِكَ وما تجدهُ في قلبِكَ عندما تسمعُ قولَه -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)[الأحزاب:36]، واسمعْ لابنِ كَثيرٍ وهو يُصوِّرُ لنا موقفَ المؤمنِ الصَّادقِ تِجاهَ هذه الآيةِ، فيقولُ: "فَهذه الآيةُ عَامةٌ في جَميعِ الأمورِ، وذَلكَ أنَّه إذا حَكمَ اللهُ ورسولُه بشيءٍ، فليسَ لأحدٍ مُخالفتُه، ولا اختيارَ لأحدٍ هَهنا، ولا رَأيَ ولا قَولَ"، وصَدقَ -رحمَه اللهُ-؛ لأنَّهُ لا تثبتْ قدمُ الإسلامِ، إلا على ظهرِ القَبولِ والاستسلامِ. ألا تعجبونَ من إحياءِ اللهِ -تعالى- لِذكرى هاجرَ القِبطيةِ أمِ إسماعيلَ -عليه السَّلامُ- في كلِّ سعيٍّ بين الصَّفا والمروةِ، وكلما شَربنا ماءَ زمزمٍ، مع أنَّكَ لو بحثتَ في التَّاريخِ فلن تجدَ لها إلا ثلاثةَ مواقفٍ: الموقفُ الأولُ في مِصرَ: عندما أعطى الملكُ الجبَّارُ سارةَ امرأةَ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ- هاجرَ لتخدمَها بعدَ أن ردَّ اللهُ -تعالى- كَيدَه وأنجاها منه. الموقفُ الثَّاني في بيتِ المقدسِ: عندما أهدتها سارةُ لإبراهيمَ لعلَّ اللهَ -تعالى- أن يرزقَه ما يتمنى من الولدِ. الموقفُ الثَّالثُ في مكةَ المُكرمةَ: عندما أخرجَها إبراهيمُ فِراراً من غِيرةِ سارةَ حتى وضعَها وابنَها في وادٍ غيرِ ذي زرعٍ، وليسَ بمكةَ يَومئذٍ أَحدٌ، وليسَ بها ماءٌ، ووضعَ عِندَهما جِرابًا فيه تَمرٌ، وسِقاءً فيه مَاءٌ، تركهمَا في جِبالٍ سودٍ لا زرعَ فيها ولا مِياه، ولا إنسَ فيها ولا حياةَ. بل الصُّورةُ في معاييرِ البشرِ: أنَّهُ تركهَا ورضيعَها مع الموتِ المُحقَّقِ، ثُمَّ قَفَّى إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا. فتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقالَتْ: "يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي، الذي ليسَ فيه إنْسٌ ولَا شيءٌ؟، فَقالَتْ له ذلكَ مِرَارًا، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقالَتْ له: آللَّهُ الذي أَمَرَكَ بهذا؟، قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا"، ثُمَّ رَجَعَتْ، اللهُ أكبرُ، هذا هو السِّرُّ في خلودِ ذكرِها، إنَّه القَبولُ لأحكامِ ربِّها. هل تعجبونَ من جيلِ الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ عنهم-، وكيفَ رفعَ اللهُ -تعالى- في العالمينَ ذِكرَهم؟، اسمعوا إلى اللهِ -تعالى- ماذا يقولُ عنهم في آخرِ سورةِ البقرةِ؟، هذه السُّورةُ التي سُميتْ بالبقرةِ للتَّنبيهِ على ما كانَ من بني إسرائيلَ في ذبحِ البقرةِ من المماطلة والتَّأخيرِ، والتَّعنتِ في تنفيذِ حُكمِ اللهِ -تعالى- الخبيرِ، وهي السُّورةُ التي قالَ فيها ابنُ العربي -رحمَه اللهُ-: "سمعتُ بعضَ أشياخي يقولُ: فيها ألفُ أمرٍ، وألفُ نهيٍ، وألفُ حُكمٍ، وألفُ خبرٍ"، فماذا كانَ موقفُ الصَّحابةِ من هذه الأحكامِ والأوامرِ والنَّواهي والأخبارِ؟ لقد شَهدَ اللهُ -تعالى- لهم شهادةً يُخلِّدُها التَّاريخُ، فقالَ -سُبحانَه-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة:285]، إنَّه القَبولُ والاستسلامُ الصَّادقُ، الذي يُعرفُ به المؤمنُ من المنافقِ. أتعجبونَ من فَضلِ أبي بكرٍ الصِّديقِ -رضيَ اللهُ عنه- وما له من المكانةِ العاليةِ، والمنزلةِ الغاليةِ؟، اسمعوا إلى عَائشةَ -رَضِيَ اللهُ عنها-، وهي تقولُ: لما أُسريَ بالنَّبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- إلى المسجدِ الأقصى؛ أصبحَ يتحدثُ النَّاسُ بذلك؛ فارتدَّ نَاسٌ ممن كانَ آمنوا به، وسَعى رِجالٌ من المشركينَ إلى أبي بَكرٍ -رَضيَ اللهُ عنه-، فقَالوا: هل لكَ إلى صاحبِكَ يَزعمُ أنَّه أُسريَ به الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ؟، قَالَ: لئن قَالَ ذلك لقد صَدقَ، قَالوا: أو تصدقه أنَّه ذهبَ الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ، وجاءَ قبلَ أن يُصبحَ؟، فقالَ: نعم، إنِّي لأصدقُه فيما هو أَبعدُ من ذلك، أُصدِّقُه في خَبرِ السَّماءِ في غَدوةٍ أو رَوحةٍ، اللهُ أكبرُ، إنَّه القبولُ. يقولُ محمدٌ بنُ خازمٍ: "كُنتُ أقرأُ الحديثَ على أميرِ المؤمنينَ هارونَ الرشيدِ، فكلما قُلتُ: قَالَ رسولُ اللهِ، قَالَ هَارونُ: صلى اللهُ على سَيدي ومولاي، حتى ذَكرتُ له حَديثَ: "التقى آدمُ وموسى"، وكَانَ بجانبِ هارونَ الرشيدِ عمُّه، فقَالَ عَمُّه: كَيفَ هذا وبينَ آدمَ وموسى ما بينهما؟، كَأنَّه يُنكرُ الخبرَ، فغَضبَ الرشيدُ غَضباً شَديداً، وقَالَ: أَتعترضُ على الحديثِ؟، عَليَّ بالنِّطعِ والسَّيفِ، فقَامَ النَّاسُ يَشفعونَ فيه، فقَالَ الرَّشيدُ: هذه زَندقةٌ، ثم أَمرَ بسجنِه وأَقسمَ أن لا يَخرجَ حتى يخبرَه من أَلقى إليه هذا، فأقسمَ عَمُّه بالأيمانِ المغلظةِ ما قَالَ هذا له أَحدٌ، وأَنَّه يَستغفرُ اللهَ منها، فهل رأيتُم كيفَ كان قَبولُ الخُلفاءِ؟ أقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ. الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، مَالكِ يومِ الدينِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسَلمَ تَسليماً كَثيراً، أما بعدُ: أيها المؤمنُ، أخبرني ما الذي يكونُ في قلبِكَ عندما تسمعُ: قالَ اللهُ -تعالى-، قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، هل يقشعِّرُ البدنُ؟، هل تُنصتْ الأذنُ؟، هل يشتاقُ القلبُ؟، هل تدمعُ العينُ؟، هل تتأهبُ الجوارحُ جميعاً لسماعِ الكلامِ، والاستجابةِ للأحكامِ؟، كما قالَ -تعالى-: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ)[المائدة:83-84]. هل تعلمُ ما الفرقُ بينَ الملائكةِ وإبليسَ؟، اسمعوا: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)[ص:71-73]، تلقَّوا أمرَ اللهِ -تعالى- بالقبولِ والرِّضا، والمبادرةِ دونَ تردُّدٍ أو اعتراضٍ، ثُمَّ قالَ: (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)[ص:73-76]، لم يَقبلْ، وعارضَ، وناقشَ الأمرَ بعقلِه، والنتيجةُ: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)[ص:77-79]. ولذلكَ كانَ من أعظمِ ما يؤلمُ الشَّيطانُ، هو أن يرى القبولَ والإذعانَ، في صِفاتِ أهلِ الإيمانِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَمَ-: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ؛ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلِي، أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ". اللهم يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلوبَنا على دينِك وصراطِك المستقيمِ، اللهم أَرنا الحقَّ حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطلَ بَاطلاً وارزقنا اجتنابَه يا ربَّ العالمين. اللهم وفق ولاةَ أمورِنا لما تحبُّ وترضى وأَعنهم على البرِّ والتَّقوى، واجعلهم هداةً مُهتدينَ غيرَ ضَالينَ ولا مُضلينَ، وارزقهم البطانةَ الصَّالحةَ النَّاصحةَ يا ربَّ العالمينَ. اللهمَّ نَسألُكَ الهُدى والتُّقى والعَفافَ والغِنى. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. عبادَ اللهِ اذكروا اللهَ العظيمَ يَذكركُم واشكروه على عُمومِ نِعمِه يَزدكم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يَعلمُ ما تَصنعونَ.
التعليقات