الفرج بعد الكرب

سليمان الحربي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/عظم ثقة المؤمن بربه 2/نماذج من ثقة الأنبياء بربهم 3/التحذير من اليأس والقنوط.

اقتباس

إنَّ العَبْدَ إذا اشتدَّ عليه الكَرْبُ فإنه يحتاجُ حينئذٍ إلى مُجَاهَدَةِ الشيطانِ؛ لأنه يأتيه فَيُقَنِّطُهُ ويُسَخِّطُه، فيَحتاجُ العَبْدُ إلى مُجَاهَدَتِه ودَفْعِه؛ فيكونُ ثَوابُ مُجاهَدَةِ عَدُوِّهِ ودَفْعِهِ دَفْعَ البَلاءِ عنه ورَفْعَه, ولهذا ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَديثِ أبي هُريْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَىٰ أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله -أيها المسلمون- حق تقاته، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

مَعْشَرَ الإِخْوَةِ: إنَّ مِن صِفاتِ العارِفِينَ باللهِ الواثِقينَ بِه أنهم يُحْسِنون الظنَّ بمولاهُمْ وربِّهم، بل كُلَّما زاد الكَرْبُ ازدادتْ ثِقَتُهم، فَعِلاقَتُهم بِرَبِّهم ليسَتْ عِلاقَةَ تجْرِبةٍ واختبارٍ، بل عِلاقَةَ ثِقَةٍ ويَقِينٍ ثابتٍ، لا يتزعْزَعُ مَهْمَا اشتدَّ البَلَاءُ وعَظُمَ الهَمُّ وكَبُرَت المُصيبةُ، هُمْ مع اللهِ بِإيمانٍ وَاتِّكالٍ.

 

ومَا أَعْظَمَ يقِينَ يعقوبَ -عَلَيْهِ السَّلامُ-!, أَصَابَتْه الـمُصيبةُ الأُولى بِيُوسُفَ فقال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)[يوسف: 18]؛ فوظِيفَتي سأحرِصُ على القيامِ بها، وهي أَنِّي أَصْبِرُ عَلى هذه الـمِحْنَةِ, صَبْرًا جَمِيلًا سالـمًا مِنَ السَّخَطِ والتَّشكِّي إلى الخَلْقِ، وأستعينُ اللهَ على ذلك، لا على حَوْلي وقُوَّتي.

 

وَلَمَّا أُخِذ ولدُه الثَّاني، وازدادَتْ مصيبتُه ازدادَ إيمانُه، وازدادَ يَقِينُه بِفَرَجِ اللهِ، تَأَمَّلْ ماذا قال لَمَّا أخبروه بولَدِه الثاني؟: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يوسف: 81 - 83], إلى أن قال: (يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87]، فلم ييأَسْ مِن لِقاءِ يُوسُفَ، ولم يَقُلْ: عَظُمَتْ مُصيبَتي واشْتَدَّ بَلائِي وتَسخَّطَ، بل عَظُمَ رَجاؤُه.

 

بِخِلاف مَن لم يُؤمن بِرَبِّه؛ فإنه آيِسٌ مِن رحمةِ اللهِ وفَرَجِه, قال السَّعْدِيُّ -رحمه الله- عند قوله: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ): "فإنَّهُم لِكُفْرِهم يَسْتَبْعِدُون رَحْمَتَه، ورَحْمَتُه بَعِيدَةٌ منهم، فلا تَتَشَبَّهُوا بالكافرين، ودَلَّ هذا على أنه بِحَسَبِ إيمانِ العَبْدِ يَكُونُ رَجَاؤُه لِرَحْمَةِ اللهِ ورُوحِه"(تفسير السعدي).

 

وَمُوسى -عليه السلام- لَحِقَهُ فِرْعَوْنُ وهو يَظُنُّ أنه نَاجٍ منه، وأنَّ اللهَ سَيُنْزِلُ عُقُوبَتَهُ عليه أَثْنَاءَ مُطَارَدَتِهِ، وكَذَلِكَ قَوْمُه، لكنهُم بَلَغُوا البَحْرَ الذي ليسَ بَعْدَهُ فَرَجٌ مَادِّيٌّ، فقال أصحابُهُ: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء: 61]، وفِرْعَوْنُ قَدِ امْتَلَأَ عَلَيْنا غَيْظًا وغَضَبًا، لكنَّ موسى -عليه السلام- أَدْرَكَ أنه لَـمَّا عَظُمَتِ الـْمُصِيبَةُ، فإنَّ فَرَجَهُ يقتربُ، فقال: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 62].

 

اللهُ أكبرُ! مُطمئنُّ القَلبِ، ساكنُ البَالِ، قد وَثِقَ بِوَعْدِ رَبِّه، وَهَذِهِ الـمَعَانِي جَاءَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عِنْد أحمدَ وغيره أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يَا غُلَامُ -أَوْ يَا غُلَيِّمُ-! أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ", فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"(أخرجه أحمد والترمذي).

 

فتَأَمَّلْ قَوْلَه: "وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ"؛ وهو بمعنى قولِه -تعالى-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح: 5، 6]؛ بِشَارَةٌ عظيمةٌ، أنه كُلَّما وُجِدَ عُسْرٌ وصُعُوبَةٌ، فإن اليُسْرَ يُقارِنُه ويُصَاحِبُه، "حتى لو دَخَلَ العُسْرُ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلَ عليه اليُسْرُ، فَأَخْرَجَهُ"(الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي)؛ كما قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-:  (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطلاق: 7].

 

قال ابنُ رَجَبٍ: "ومِن لَطَائِفِ أَسْرَارِ اقترانِ الفَرَجِ بِاشْتِدَادِ الكَرْبِ: أَنَّ الكَرْبَ إذا اشْتَدَّ وعَظُمَ وتَنَاهَى وُجِدَ الإيَاسُ مِن كَشْفِهِ مِن جِهَةِ المخلُوقِ، ووَقَعَ التَّعَلُّقُ بالخَالِقِ وَحْدَهُ، ومَنِ انقَطعَ عن التعلُّقِ بالخلائق، وتَعَلَّقَ بالخالقِ استجابَ اللهُ له، وكَشَفَ عَنه؛ فإنَّ التَّوَكُّلَ هو قَطْعُ الاستِشْرَافِ بِاليَأْسِ مِنَ المخلُوقِينَ"(مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي).

 

أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرجيمِ: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 40].

 

بَارَكَ اللهُ لِي ولَكُمْ في القُرآنِ العَظِيمِ، ونَفَعَنِي وإيَّاكُم بما فيه مِن الآياتِ والذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ ما سَمِعْتُمْ، وأَستغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولَكُم ولِسائر المسلمين مِن كُلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاسْتغفِرُوه وتُوبوا إليْهِ؛ إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على تَوفيقِه وامتِنانِه، وأشهَدُ ألَّا إله إلا اللهُ؛ تَعظيمًا لِشَانِه، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه الدَّاعي إلى جنَّته ورِضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه، أَمَّا بعْدُ:

 

مَعْشَر الإِخْوَةِ: إنَّ العَبْدَ إذا اشتدَّ عليه الكَرْبُ فإنه يحتاجُ حينئذٍ إلى مُجَاهَدَةِ الشيطانِ؛ لأنه يأتيه فَيُقَنِّطُهُ ويُسَخِّطُه، فيَحتاجُ العَبْدُ إلى مُجَاهَدَتِه ودَفْعِه؛ فيكونُ ثَوابُ مُجاهَدَةِ عَدُوِّهِ ودَفْعِهِ دَفْعَ البَلاءِ عنه ورَفْعَه.

 

ولهذا ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَديثِ أبي هُريْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ ربي فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي"(متفق عليه).

 

بَلِ الأَوْلى له أَلَّا يُسِيءَ الظنَّ بِرَبِّه، بَل عليه أَنْ يُسِيءَ الظنَّ بِنَفْسِه، فيُلقِي باللَّائِمَة على نَفْسِه ويقولُ لها: "إنما أُتِيتُ مِن قِبَلِكِ، ولو كان فِيكِ خَيْرٌ لَأُجْبْتِ".

 

وهذا اللَّوْمُ أحبُّ إلى اللهِ مِن كثيرٍ مِن الطاعاتِ؛ فإنه يُوجِبُ الانكسارَ لِرَبِّه، واعتِرَافَهُ له بأنه ليسَ بِأَهْلٍ للإجَابَةِ، وهذه الحالُ هي التي تُوجِبُ إجابةَ الدُّعاءِ، فإنه -سبحانه وتعالى- عند المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهم، وعلى قَدْرِ الكَسْرِ يكونُ الجَبْرُ.

 

فَيَا مَنِ ابْتُلِيَ بِمُصِيبَةٍ مِن مَرضٍ، أو دَينٍ، أو بَلاءٍ، أو هَمٍّ، ثِقْ بِرَبِّكَ وإنْ طَالَ أَمَدُ بَلائِكَ، وأَلِحَّ عليه بالدُّعاءِ، وطَلَبِ المُعَافَاةِ.

 

فَلْنَثِقْ بِرَبِّنا، ولْنُحْسِنِ الظنَّ بِمَوْلانا، واللهُ يقول: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[الطلاق:2], وتَأَمَّلْ، فالـمَخْرَجُ بَعْدَ التَّقْوى، وليسَ قَبْلَهَا، فَكَمْ مِن سَائِلٍ عن الـمَخْرَجِ وهُو لم يَتَّقِ.

 

اللَّهُمَّ قَدْ فَوَّضْنَا أُمُورَنَا إِلَيْكَ، فَلا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا إِلَّا إِلَيْكَ، نَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إِلَيْكَ، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

المرفقات
الفرج-بعد-الكرب-1.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life