عناصر الخطبة
1/ تفشي داء الغضب 2/ المقصود بالغضب 3/ أقسام الغضب وحكم كل قسم 4/ بعض آثار الغضب وأضراره على الفرد والأسرة والمجتمع 5/ فوائد وثمرات ترك الغضب 6/ علاج الغضب ومُسَكناتهاهداف الخطبة
اقتباس
مع خصلة أخرى من قبيح الخصال، وخلق من مساوئ الأخلاق، من تلبّسَ به وتحَكمَ فيه صار كالمجنون يتصرّف بدون وَعي ولا إدراك، لا يَدري ما الذي يقوله أو يفعله، ولا يميز بين ما ينفعه أو يضره، كم أوذي بسببه من أبرياء؟ وكم تفرقت بسببه من أسَر؟ وكم عانت وعُذبت بسببه من مجتمعات؟ إنه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
ثم أما بعد:
إخوتي الكرام: مع خصلة أخرى من قبيح الخصال، وخلق من مساوئ الأخلاق، من تلبّسَ به وتحَكمَ فيه صار كالمجنون يتصرّف بدون وَعي ولا إدراك، لا يَدري ما الذي يقوله أو يفعله، ولا يميز بين ما ينفعه أو يضره، كم أوذي بسببه من أبرياء؟ وكم تفرقت بسببه من أسَر؟ وكم عانت وعُذبت بسببه من مجتمعات؟ إنه داء الغضب، وما أدراكما الغضب؛ داء يوغر الصدور، ويقسي القلوب، ويوقع في مساوئ الأخلاق وقبيح الفِعال.
والغضب هو ثوَرَان في النفس، يَحمِلها على الرغبة في البطش والانتقام.
الغضب غليانُ دم القلب طلباً لدفع المؤذي عندَ خشية وقوعه، أو طلباً للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعدَ وقوعه، يقول ابن عرفة -رحمه الله-: "الغضب من المخلوقين شيء يُداخِل قلوبَهم، ومنه محمود ومذموم، فالمذموم ما كان في غير الحقّ، والمحمود ما كان في جانب الدّين والحقّ. وأمّا غضب الله -تعالى- فهو من صفات الأفعال لله -عزّ وجلّ- حقيقة على ما يليق بجلاله، وأمّا لازم الغضب فهو إنكارُه على من عصاه ومعاقبته إيّاه".
والغضب قسمان: محمود، ومذموم؛ أما الغضب المحمود؛ فهو ما كان لله ولِحُرُماته، ولم يكن للنفس فيه نصيب؛ فالمؤمن يغضب إذا انتهكت حرمات الله، واعتدي على حقوقه، وتعدى الناس حدوده، ووقعوا فيما حرّمه الله عليهم من شرك أو معصية أو بدعة، أو تعطيلِ واجبٍ، أو قتل نفس بريئة، أو أخذ مال بغير حق، أو اعتداء على أرض، أو انتهاك عرض، وغير ذلك مما حرمه الله على عباده، ففي مثل هذه الحالات يكون الغضب واجبًا ومحمودًا؛ إذ هو الدليل على إيمان العبد وغيرته على دين الله وحرماته، مع وجوب الالتزام بآداب الإسلام وأخلاقه وأحكامه في حالة الغضب، حتى لا يُفسِدَ المرءُ من حيث يريد الإصلاح، وحتى لا يَهدمَ من حيث يريد البناء.
فالله -تعالى- يغضب ممن تعدى حدوده وتجرأ على حرماته، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى: 16]، وقال عز وجل: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة: 60]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأنبياءُ الله ورسله يغضبون ممن يعصون الله ويصدون عن سبيله، قال تعالى عن موسى -عليه السلام-: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) [الأعراف: 150]، وقال عن يونس -عليه السلام-: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
ونبينا -صلى الله عليه وسلمَ- وهو القدوة والأسوة لنا في أمورنا كلها، لم يغضبْ لنفسه قط، ولم يضع للدنيا في خاطره شيئًا يساوم فيه الناس ويُحاكمهم، وإنما كان غضبه إذا تجاوز أحد حدًا من حدود الله أو تعدى إنسان على حرمة لله؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما خيّرَ النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرُمات الله فينتقم لله" (رواه البخاري).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذتُ عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيّما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة" (رواه مسلم).
وعن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا؟ فما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلمَ- غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: "يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أمّ الناس فليُوجزْ، فإنّ من ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذا الحاجة" (رواه مسلم).
والمؤمنون يغضبون ممن يفسدون في الأرض ويصدون عن سبيل الله ويعتدون على عباده وينتهكون حرماته، لكن من غير إثم ولا ظلم ولا عدوان، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37].
أما الغضب المذموم؛ فهو ما كان في غير الحق ولغير الله، وإنما انتقاما للنفس في أمور تافهة وحظوظ دنيوية زائلة، مما تترتب عليه نتائج خطيرة ومفاسد عظيمة، على الإنسان ذاته وعلى أسرته وعلى مجتمعه، وهو الذي حذرنا منه الرسول الأمين -صلى الله عليه وسلمَ- في أحاديث كثيرة، ومناسبات عدة.
والغضب في غير الحق مفتاح كل شر، مفتاح للقتل، والنزاع والشقاق، والطلاق، والظلم بجميع أنواعه؛ ظلم للزوجة، وظلم للأبناء، وظلم للوالدين، وظلم للأقارب، وظلم للمستخدمين، وظلم للناس أجمعين.
قال ابن القيّم -رحمه الله تعالى-: "دخل النّاسُ النّارَ من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكّا في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان على خلقه".
ومن كان سريعا في غضبه كان سيئا في خلقه ومعاملته؛ إذ للغضب أثارٌ سيئة وخطيرة على قلب الغاضب ولسانه وجوارحه، ومجتمعه.
فمن آثار الغضب على القلب: الحقد، والحسد، والكراهية، والبغضاء، والحزن، والقلق، وإضمار السوء للمغضوب عليه.
ومن آثار الغضب على اللسان: السب، والشتم، والفحش في القول، والشماتة، والاستهزاء، والغيبة، وإفشاء السر، وهتك الستر عن المغضوب عليه.
ومن آثار الغضب على الجوارح: الضرب، والقتل، والإهانة والتعذيب، فإن عجز الغاضب عن خصمه رجع الغضب عليه؛ فيضرب نفسه، ويلطم خده، ويشق جيبه، ويتصرف بدون وعي، ويعدو بدون شعور، وقد يرجع الغضب على من لا ذنب له؛ كالزوجة، والأبناء، والدابة، والجماد؛ فهذا حال من سَلّم لغضبه القيادة؛ فإنه سيقوده للإبادة.
ومن آثار الغضب على المجتمع: الخصام والنزاع، والعداوة والبغضاء بين الناس؛ فالغاضب عند الانفعال لا يتحكم في أقواله وأفعاله التي تخرج غالبًا عن الآداب العامة، فيثير الطرف الآخر ويقابله بالمثل، مما يؤدي في النهاية إلى حقد دائم ونزاع مستمر، فيعيش المجتمع في قلق واضطراب وتمزق وشتات؛ لذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- عن الغضب في وصيته الوجيزة البليغة الجامعة؛ فعن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلا قال للنبي -صلى الله عليه وسلمَ-: أوصني؟ قال: "لا تغضب" فردد مرارا، قال: "لا تغضب" (رواه البخاري) أي اجتنب أسباب الغضب، ولا تستسلم لدواعي الغضب، ولا تنفذ ما يدعو إليه الغضب، وخذ بزمام نفسك، وكف لسانك، وأمسك جوارحك عن كل سوء.
قال ابن رجب -رحمه الله تعالى- في شرحه لهذا الحديث: "فهذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- أنْ يُوصِيه وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ، ليحفظها عنه، خشيةَ أنْ لا يحفظها لكثرتها، فوصَّاه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- أنْ لا يغضب، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مراراً، والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- يردِّدُ عليه هذا الجوابَ، فهذا يدلّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ، وأنَّ التحرّز منه جماعُ الخير".
إذا كانت للغضب آثارٌ سيئة وأضرار كثيرة على الفرد والأسرة والمجتمع؛ فإن لتركه واجتنابه فوائد كثيرة ونتائج جليلة؛ ففي ترك الغضب واجتنابه اتقاء لغضب الله –سبحانه-، فإذا أردت أن تكون بعيدا عن غضب الله -تعالى- فلا تغضب على خلقه؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: ماذا يباعدني مِن غضب الله -عز وجل-؟ قال: "لا تغضب" (رواه أحمد).
وفي ترك الغضب واجتنابه عطاء وكرَم من الله -تعالى- لعباده يوم القيامة؛ فعن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "من كظم غيظا وهو قادر على أن يُنفذه، دعاه الله -عز وجل- على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره الله من الحور ما شاء" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع).
وفي ترك الغضب واجتنابه قوة وعزة؛ فالإنسان القوي هو الذي يستطيع التغلب على نفسه، أما الذي ينساق وراء النفس وأهوائها وشرورها فهو ضعيف لا يمكنه الصمود في الأزمات والشدائد؛ لذلك قال نبينا -صلى الله عليه وسلمَ-: "ليس الشديد بالصّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (متفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "ما نقصَتْ صدقة مِنْ مال، وما زاد الله عبدا بعَفو إلا عِزّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" (رواه مسلم).
وفي ترك الغضب واجتنابه اقتداءٌ بالنبي -صلى الله عليه وسلمَ- واتباعٌ له؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهَك شيء من محارم الله فينتقِمُ لله عز وجل" (رواه مسلم).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- عشر سنين، والله ما قال لي أفّ قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟ (متفق عليه).
وعلاج الغضب ومُسَكناته عديدة منها:
أولا: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ فالشيطان يثير الغضب في نفس الإنسان، ويُشعِل فيها نار الانتقام، ليعُمّ لهيبها كل مكان، وهذه رسالة الشيطان ومهمته في الحياة، أن يوقع بين الناس العداوة والبغضاء، وقد أمرنا الله -تعالى- بالالتجاءِ إليه سبحانه والتعوذِ به من شر الشيطان وكيده، فقال عز وجل: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت: 36].
وعن سليمان بن صُرَدٍ -رضي الله عنه- قالَ: "اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عند النبي -صلى الله عليه وسلمَ- ونحن عنده جلوس، وأحدُهما يسبّ صاحبه، مُغضَبا قد احمرّ وجهه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقالوا للرجل: ألا تسمعُ ما يقول النبي -صلى الله عليه وسلمَ-؟ قال: إني لستُ بمجنون" (رواه البخاري ومسلم)، فانظر كيف منعه الغضب من قبول النصيحة من خير الناصحين -صلى الله عليه وسلمَ-.
ثانيا: السكوت وضبط اللسان عن الكلام أثناء الغضب؛ لأن الغاضب لا يتحكم في كلماته، لا يدري ما يقول، ولا يتأمل في عواقب كلامه، فالسكوت أسلم له من الكلام حتى يهدأ غضبه؛ لذا قال عليه الصلاة والسلام: "علموا، ويسروا، ولا تعسروا، وإذا غضب أحدكم فليسكتْ" (رواه أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
ثالثا: تغيير وضعية الغاضب أثناء غضبه؛ فإن كان الغاضب واقفًا أثناء غضبه فليجلِسْ، وإن كان جالسا فليَضطجعْ؛ لأن القائم متهيئ للشر، والقاعد دونه، والمضطجع أبْعَد. وذلك ما أمرَ به رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- حين قال: "إذا غضبَ أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" (أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان عن أبي ذر -رضي الله عنه-).
رابعا: تذكرْ قدرة الله عليك عند قدرتك على غيرك؛ فإذا أغضبك أحد من الناس فلا تتسرّع في الانتقام والإهانة والتعذيب، وإذا غرتك قوتك فتذكر قوة الله فوقك.
روى مسلم في صحيحه عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: "كنت أضرب غلاما لي بالسوط، فسمعتُ صوتا من خلفِي: "اعلم أبا مسعود" فلم أفهَم الصوتَ من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ-، فإذا هو يقول: "اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود" قال: فألقيتُ السّوْط من يدي، فقال: "اعلم أبا مسعود أنّ الله أقدَرُ عليك، منك على هذا الغلام" قال فقلتُ: لا أضربُ مملوكا بعده أبدا"، وفي رواية: "فقلت: يا رسول الله هو حُرّ لوجه الله، فقال: "أما لو لم تفعل للفحَتْك النار، أو لمَسّتك النار" فمن تذكرَ قدرة الله لم يستعملْ قدرته وقوته في ظلم عباد الله.
خامسا: تذكرْ ثواب العفو عند المقدرة؛ فكظمُ الغيظ مع العفو وترك الانتقام يقضي على بذور الفتن، ويفتح أبواب المحبة والتسامح بين الناس، ويسد أبواب الشيطان التي يمكن من خلالها أن يدخل بين المسلمين فيثير العداوة والبغضاء في صفوفهم.
ثم إن لهذا الكظم والعفو أجراً عظيما عند الله، ورضواناً منه ومغفرة، يقول الله -تعالى- في تعداد صفات عباده المتقين المتسابقين إلى الخيرات: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].
وبكظم الغيظ ومقابلة الإساءة بالإحسان تنقلب العداوة إلى صداقة؛ كما قال ربنا -عز وجل-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت: 34 - 36].
فهذه النصوص (وغيرها كثيرة) تحثّ الغاضب على العفو والتسامح، والابتعاد عن التشفي والانتقام، وهي ضوابط إيمانية يلتزم بها المؤمن الصادق؛ لأنها تجعله صاحبَ نفس قوية، تستطيع الانتقام ولكنها تمتنع عنه طاعة لله وامتثالاً لقول نبيه -صلى الله عليه وسلمَ-، فتُرْسَى بهذه الضوابط دعائمُ الوحدة بين أبناء المجتمع، وترْسَخ فكرة التسامح والعفو التي تسمو بالنفس البشرية إلى أعلى مدارج السموّ والرّقي، إضافة إلى سدها منافذ الشيطان وإغلاقها مقاصدَه.
فاتقوا الله -عباد الله- واجتنبوا أسباب الغضب، من عجب، وافتخار، ومراء، ومزاح، واستهزاء، وتحاسد، وشهوة في الانتقام، وغير ذلك من دواعي الغضب ومثيرات الفتن، وخذوا بأسباب المحبة والمودة والإخاء: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
وإذا غضبتَ فكنْ وَقورا كاظما *** للغيظِ تبصّرْ ما تقولُ وتسمعُ
فكفى به شرفاً تبُصّرُ ساعةٍ *** يَرْضَى بها عنك الإلهُ ويَدْفَعُ
نسأل الله -تعالى- أن يجنبنا الغضب وأسبابه، وأن يحفظنا من عواقبه ونتائجه، وأن يجعلنا من عباده الصالحين الكاظمينَ الغيظ العافينَ عن الناس.
وصل اللهم وسلم وبارك على حبيبنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].
التعليقات