اقتباس
وأي صنف من الأطعمة أكلتَ، وأي نوع من المشروبات شربتَ، فإن أشهاها وأحلاها مذاقًا بلا شك هو ما كسبته بعملك وعرقك وكدك؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد طعامًا قط، خيرًا من أن يأكل من عمل يده...
مخطئ من ظن أن الدنيا في الإسلام منفصلة عن الآخرة وأن للآخرة طريقًا غير طريق الدنيا، أبدًا؛ بل إن طريقهما واحد، وإنما الفرق في القصد والنية وطريقة السعي؛ فكل يسعى ويكد ويعمل، لكن هناك من نيته في ذلك الدنيا، ومنهم من قصده الآخرة، ولقد نصح العلماء قارون قائلين: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[القصص: 77]، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها"(رواه مسلم).
وطريق الدنيا في الإسلام موصل إلى جنة الله ورضاه؛ فعن كعب بن عجرة قال: مر على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، فرأى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من جلده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء وتفاخرًا فهو في سبيل الشيطان"(رواه الطبراني في الأوسط والكبير).
وأباح القرآن لمن أدى فريضة الله -تعالى- أن يخرج ساعيًا على عمله ورزقه: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)[الجمعة: 10]، يقول السعدي: "لطلب المكاسب والتجارات"، وكان عراك بن مالك -رضي الله عنه- إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: "اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين"(تفسير ابن كثير).
وقسم الله -تعالى- اليوم نصفين؛ نصف للعمل ونصف للنوم والراحة: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا)[النبأ: 10-11].
وجعل -عز وجل- السعي في الأرض للعمل والكسب عذرًا في جمع الصلوات وفي الاكتفاء باليسير من تلاوة القرآن: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)[المزمل: 20].
كذلك جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العمل طريقًا إلى التصدق؛ فقد قال يومًا: "على كل مسلم صدقة"، فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق"(متفق عليه).
وأي صنف من الأطعمة أكلتَ، وأي نوع من المشروبات شربتَ، فإن أشهاها وأحلاها مذاقًا بلا شك هو ما كسبته بعملك وعرقك وكدك؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد طعامًا قط، خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام-، كان يأكل من عمل يده"(رواه البخاري).
***
ولما شرع الإسلام للناس العمل وحثهم عليه، حرَّم عليهم التسول وسؤال الخلق إلا للضرورات، فإن في سؤال الناس ذلًا ومهانة وضعة لفاعله، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم"(متفق عليه).
ومهما كان العمل في مهنة متواضعة أو مرهقة فهي خير وأحب إلى الله -تعالى- من سؤال الخلق: فيقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلًا فيسأله أعطاه أو منعه"(متفق عليه)، وقد قيل:
لا تخضعن لمخلوق على طمع *** فإن ذلك نقص منك بالدين
واسترزق الله مما في خزائنه *** فإنما هي بعد الكاف والنون
وأنشدوا:
لحمل الصخر من قمم الجبال *** أحب إلى من منن الرجال
يقول الناس لي في الكسب عار *** فقلت العار في ذل السؤال
***
وللكد في طرقات الدنيا والعمل فيها وإعمارها ضوابط وآداب إسلامية، فأولها:
أن يبتغى بالعمل وجه الله -سبحانه وتعالى- ورضاه، مصداق ذلك قول الله -عز وجل-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ)[الأنعام: 162-163]، فيعمل ويكد في دنياه ومراده ومبتغاه إرضاء الجليل -سبحانه وتعالى-.
وثانيها: ألا يلهيه عمله عن عبادة ربه -عز وجل-: ولقد عتب القرآن الكريم على الصحابة -رضي الله عنهم- لما انصرفوا عنه ولملاقاة القافلة التجارية القادمة قائلًا لهم: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[الجمعة: 11]، وفي نفس الوقت أثنى القرآن الكريم على آخرين لا يلهيهم ذلك: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)[النور: 37-38].
وثالثها: التبكير إلى عمله: وهذا سر من أسرار البركة والغنى؛ لموافقة دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن صخر الغامدي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم بارك لأمتي في بكورها"، وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم من أول النهار، "وكان صخر رجلًا تاجرًا، وكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله.(رواه أبو داود).
ورابعها: أن يكون العامل صادقًا قويًا أمينًا: فقد ذكرت ابنة شعيب صفات العامل الحق قائلة: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص: 26]، ومن أمانته أن يصدق ولا يغش، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟"، قال أصابته السماء يا رسول الله، قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني"(رواه مسلم).
وخامسها: أن يتقن عمله: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه"(رواه الطبراني في الأوسط).
ولأهمية العمل في الإسلام وحثه عليه، ولكون العمل من الضرورات لإعفاف النفس والأهل عن الحاجة وذل السؤال، ولكونه من المحتمات لإغناء الأمة الإسلامية عمن سواها من الأمم... فقد جمعنا هذه الباقة من الخطب لتكون دافعًا نحو العمل.
التعليقات