عناصر الخطبة
1/ مفهوم العزلة والاختلاط 2/ العزلة في القرآن والسنة 3/ الأصل في المسلم الاختلاط وليس العزلة 4/ الأحوال التي تستحب فيها العزلةاقتباس
الأصل في المسلم أن يعاشر الناس ويخالطهم ويكون معهم، ولكن هناك ظروف وأحوال فضل فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- العزلة على الاختلاط، وهذه الظروف هي إذا اختلطت الأمور والتبس الحق بالباطل ولم يتميز أهل الحق من أهل الباطل، وإذا كثر أهل الباطل وصارت لهم شوكة وقوة ولا يستطيع صاحب الحق أن يظهر الحق...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
عباد الله: نريد اليوم أن نتحدث عن موضوع شائك، ربما بعضنا يسمع به لأول مرة، إنه موضوع العزلة والاختلاط.
والمقصود بالعزلة: أن يتجنب الإنسان الشيء ويعتزله بقلبه وبدنه براءة منه وهجراً له، والاختلاط المقصود به هنا هو عكس العزلة.
لقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- العزلة في كتابه العظيم في عدد من السور والآيات؛ ففي سورة الكهف ذكر الله -جل وعلا- عن أصحاب الكهف أنهم اعتزلوا قومهم وهجروهم، وهجروا ما يعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام، وفروا إلى الكهف خشية الوقوع في الفتنة والارتداد عن الدين؛ كما قال الله عنهم: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف:16].
وذكر الله -سبحانه وتعالى- عن سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أنه اعتزل قومه وما يعبدون من دون الله كما قال الله عنه: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًّا) [مريم:48-49].
أيها الناس: إننا نستشف من خلال هذه النصوص أن الأصل في المسلم هو أن يختلط بالناس ويندمج بهم، وليس أن يعتزل الناس ويبتعد عنهم، إلا في بعض الظروف المستثناة، ولذلك لم يذكر الله -جل وعلا- عن هؤلاء الأنبياء والصالحين أنهم اعتزلوا الناس وابتعدوا عنهم إلا في بعض المواطن، بل جاء الشرع بالأمر بالجماعة في الصلوات وفي الجمعة والفرائض والعيدين والكسوف وغيرها.
يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "المُؤْمِنُ الَّذي يُخَالِطُ النَّاسَ ويَصْبِرُ عَلى أَذاهُمْ، أَفْضَلُ مِنَ المُؤْمِنِ الَّذي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ ولاَ يَصْبِرُ عَلى أَذَاهُمْ" [المعجم الكبير للطبراني:13767]. وفي رواية يقول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" [ابن ماجه:4032].
ثانياً: هناك ظروف وأحوال تشرع فيها العزلة وربما تجب، ومن تلك الأحوال حالة اختلاط الأمور والتباس الحق بالباطل، وعدم التمييز بين أهل الحق وأهل الباطل، فهنا ينبغي للمسلم إذا وصلت الأمور عنده إلى هذه الضبابية بحيث اختلط عليه الحق بالباطل ولم يستطع التمييز بينهما أن يعتزل تلك الفتن كلها، ويبقى بعيداً عن تلك المحن حتى تنجلي وتظهر الحقائق.
يقول حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ -رضي الله عنه-: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي...-والحديث طويل ومشهور وفي آخره يقول حذيفة-: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ"، فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ" [البخاري:3606، مسلم:1847]. فالشاهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشده عندما تهيج الفتن، وتختلط الأمور، ويلتبس الحق بالباطل، ولم يكن للناس قائد يقودهم ولا جماعة واضحة يمشون خلفها أن يعتزل تلك الفرق كلها.
وهذا الاعتزال -يا عباد الله- يكون في حق من لم تتبين له الأمور، ولم تتجلَ له الحقائق، أما العلماء، والدعاة، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقادة الأمة، وأهل الطائفة المنصورة فيها، فلا ينبغي لهم التخفي والاعتزال؛ لأنهم في الغالب يبصرون الحقائق ويعرفون أغوار الفتن فلا تنطلي عليهم، ولا يلتبس حقها وباطلها عنهم، خاصة وأن الناس يهتدون بهم ويقتدون بأقوالهم وأفعالهم، فإذا اختفى هؤلاء فمن للأمة إذن؟.
روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا، فَقَالَ: لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ، فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الجَنَّةَ، اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ" [الترمذي:1650].
وهذا دليل واضح على أن العزلة لا تكون لكل الناس، وإنما هي خاصة ببعض الظروف والأحوال، ولبعض الناس وليست لكلهم، ولذلك لم يرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الصحابي بالاعتزال.
ولعلكم تعرفون قصة عبد الله بن المبارك -رحمه الله- عندما أرسل أبياتاً من الشعر إلى بعض النساك والمتعبدين الذي شغلهم التفرغ للعبادة عن الجهاد في سبيل الله، فأرسل -رحمه الله- قصيدته لهم يقول فيها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه *** فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل *** فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا *** رهج السنابك والغبار الأطيب
فهذا السيد من سادات الأمة وعلمائها وصالحيها أنكر على هؤلاء عزلتهم، وبعدهم عن الواقع وما تعيشه الأمة من جهاد وملاحم، وفضّل لهم المشاركة فيها على ما فضلوه لأنفسهم من العزلة والتفرغ.
قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأكبِّره تكبيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين-، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون: ومن الأحوال التي تستحب فيها العزلة: إذا كثر أهل الباطل وصارت لهم شوكة وقوة؛ ولا يستطيع صاحب الحق أن يظهر الحق في تلك الأجواء القاتمة التي ملئت بالباطل والظلم والفساد، فهنا يستحب للمرء أن يفر بدينه ويعتزل ذلك الواقع المرير.
يقول عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلاً؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ بِشِعْبٍ، يُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ، يَعْتَزِلُ شُرُورَ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشْرِ النَّاسِ مَنْزِلاً؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: رَجُلٌ يُسْأَلُ بِاللهِ وَلاَ يُعْطِي" [مسند الطيالسي:2783]. فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- خير الناس من يعتزل شرور الناس ويبتعد عن فتنهم ومصائبهم؛ إذا كثرت الفتن، وعمّ الفساد، وانتشر الشر.
ومن الأحوال التي تستحب فيها العزلة أن تكون وحدك ولا معين لك في مجتمع يعج بالفساد والمنكرات، وأنت ضعيف تخاف على نفسك من الوقوع في الفواحش وممارسة المنكر، فمن الأفضل لك هنا أن تعتزل هذا المجتمع الفاسد إذا خفت على نفسك ولم تستطع التغيير، يقول عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ "يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةِ الْجَبَلِ يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ يَخَافُ مِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ". [أبو داود:1203].
أيها الناس: نخلص من هذا كله إلى أن الأصل في المسلم أن يعاشر الناس ويخالطهم ويكون معهم، ولكن هناك ظروف وأحوال فضل فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- العزلة على الاختلاط، وهذه الظروف هي:
أولا: إذا اختلطت الأمور والتبس الحق بالباطل، ولم يتميز أهل الحق من أهل الباطل.
ثانيا: كثرة أهل الباطل وقوة شوكتهم مع عدم استطاعة صاحب الحق أن يظهر الحق،
ثالثا: أن تكون وحيدا ولا معين لك في مجتمع يعج بالفساد والمنكرات وأنت ضعيف تخاف على نفسك من الوقوع في الفتنة والمنكر، ففي هذه الأحوال تُفضل العزلة على الخلطة وتستحب، كما سمعتم ذلك في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم -جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أعزنا بالإسلام، وقوِّنا بالإيمان، وجنبنا مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين.
التعليقات