عناصر الخطبة
1/حتمية المدافعة بين الإسلام والكفر 2/بعض الأساليب الجديدة في غزو المسلمين 3/زيف دعاوى عدل الكفار 4/خطورة ترك الجهاد 5/تأمل السنن الكونية 6/وجوب نصرة المسلمين 7/بقاء الجهاد إلى يوم القيامة 8/وجوب كف اللسان في الفتن 9/التحذير من اليأس والقنوطاهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: إن الناظر في واقع العالم اليوم إن كان ذا لب وبصيرة، فإنه لن يتمالك من قوة الفهم، إلا أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه اليوم بالأمس، فها هو التاريخ يعيد نفسه، تتغير مراكز القوى، وتنقلب معايير النفوذ والاتساع، حتى أصبحت متمركزة...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: إن المدافعة بين الإسلام والكفر ضرورية لحياة الشعوب وبقائها، وكل شعب فَقَدَ استشعار المدافعة فقد الحياة ولا محالة، فأكلته شعوب الكفر، وطحنه تنازع البقاء، وذهب أقسامًا بين أشتات المطامع والأهواء، قال الله -تعالى-: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[البقرة: 251].
وقال تعالى: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء)[آل عمران: 140].
أيها المسلمون: يخطئ كثيراً من يظن أن هزائم المسلمين في عصرهم الحاضر كانت بدعاً في تاريخهم الطويل، كلا، فالأمر ليس كذلك، بل إن أمر المسلمين قد يعلو تارة، وينحدر أخرى، بمقدار قربهم من ربهم وإحيائهم لسنة الجهاد في سبيل الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يغز أو يجهز غازيًا أو يخلُف غازيًا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة"[رواه أبو داود وابن ماجة بسند جيد].
والقارعة، هي: الداهية، لذا فقد هبط أمر المسلمين في قرون مضت، حتى اغتُصب الحجر الأسود بضعَ سنين، فما عاد إلى موضعه إلا بعد مناجزة وقوة، ولكن هذا التاريخ الذي انحدر فيه أمر المسلمين سرعان ما انقضى، وهكذا أصبح تاريخ المسلمين يتأرجح بين مد وجزر، في صورة حقيقة لا تنكر.
أيها المسلمون: إن الناظر في واقع العالم اليوم إن كان ذا لب وبصيرة، فإنه لن يتمالك من قوة الفهم، إلا أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه اليوم بالأمس.
فها هو التاريخ يعيد نفسه، تتغير مراكز القوى، وتنقلب معايير النفوذ والاتساع، حتى أصبحت متمركزة في معسكرات الكفر، بحيث لا تفسر إلا بالقوة التي كان يمارسها الجاهليون ضد الإسلام، وإن كان دور أهل الكفر الذين سيطروا على المسلمين في قرون مضت لا يتجاوز سيوفاً ضربوا بها هام المسلمين ففلقوها، واحتزوا الرقاب فقطعوها، وضربوا منهم كل بنان حتى يقول الكافر للمسلم: "قف مكانك حتى آتي بسيفي لأقتلك" فيقف المسكين مكانه لا يحرك ساكنًا، حتى يأتي ذلك الرجل فيقتله، كما حدث ذلك عندما سقطت حاضرة الخلافة بغداد في يد التتار المجرمين.
نقول إن كان ذلك هو أسلوب أهل الكفر في ذلك الحين، فإن أسلوبهم في هذا العصر ينطلق من محاور متعددة، أورثت لدى المسلمين جبنًا وخوراً.
انطلقوا يغزونهم في عدة ميادين، تمثلت في إذكاء التخلف العلمي، والتخلف الاقتصادي والإعلامي، والتحدي الثقافي، في مجال الدراسات الإسلامية، والدراسات التاريخية والأدبية واللغوية، والتحديات الاجتماعية، وإثارة الحروب الأهلية، والنعرات الطائفية ومع ذلك بقيت أساليب العصور الوسطى تمارس إلى اليوم، ومن دول كانت تتدعي الديمقراطية والعدالة، وإلا فأين العدالة بما يحصل هذه الأيام في العراق.
لقد تحولت إلى فلسطين أخرى، اليهود هناك، والنصارى هنا، تُمارس القوات المحتلة المعتدية أبشع صور انتهاك حقوق الإنسان.
هذا هو اليوم الخامس أو السادس وهناك حصار قذر على مدينة الفلوجة، قطع عن أهلها الغذاء والدواء والماء، وضربت المساجد بالطائرات، وقصفت البيوت فوق رؤوس الأطفال والنساء، والعجيب هذا الإقرار من العالم كله ولا أحد يتكلم، حتى مجرد الكلام ويقول للظالم: بأن هذا ظلم، على الأقل يقال: هذا عيب!.
إن أملنا بعد الله -عز وجل- في رجال الفلوجة الأبطال.
إن شعوباً لا تعرف إلا الله لن يغلبها من لا يعرف الله، وإن من لا يعرف إلا الحق، لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل.
معاشر المسلمين: إن أهل الكفر هم أبعد الناس عن العدالة، وأنأى الناس عن الرحمة، وإن زعموا العدل في محاكمهم الدولية، أو مجالسهم ومقرراتهم الدستورية، لقد صار غبيًا عندهم من يحاول أن ينال حقه باسم العدالة أو الرحمة الدولية، أو القوانين الخاصة أو العامة، أو باسم المدنية والإنسانية، وصار المغبون حقاً هو ذلك الضعيف المهزول، الجاثي على ركبتيه المهزولتين أمام تلك القوى الكافرة الظالمة، يستجديها حقَّه، ويسألُها إنصافَه، ويطلبُ إليها بمدْمَعه لا بمدفَعه، ويناديها باسم المدنية، وباسم الحقوق الإنسانية، فصار لا يوجد العدل إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السلم إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الكافرة الظالمة لا تذكر العدالة ولا الحقوق الإنسانية إلا إذا تحدثوا إلى الأقوياء الباطشين أمثالهم.
أما الضعيف العاجز عن المدافعة فما له عندهم إلا التلويح بالعصا الغليظة، والقصف والسحق.
كل ذلك -أيها المسلمون- مصداقٌ لقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل"[أخرجه أبو داود وأحمد].
هجمت على المسلمين الدنيا فتنافسوها، فقلبت موازين الحياة عندهم، نسوا قول الله -عز وجل-: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[الأنفال: 60].
ونسوا قول الله -تعالى-: (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ)[آل عمران: 175].
وقول الله -عز وجل-: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ)[آل عمران: 160].
ونسوا قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينـزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"[رواه أبو داود وأحمد].
لما نست الأمة كل ذلك، وتركت الجهاد، أدال الله الأمم عليها، وسلط عليها الفتن.
أيها المسلمون: إن الله -سبحانه وتعالى- فرض الجهاد على المسلمين، وجعله ذروة سنام هذا الدين، ناشر لوائه، وحامي حماه، بل لا قيام لهذا الدين في الأرض إلا به، فإن هذا الدين لا يقوم إلا كما قام أول مرة تحت ظلال السيوف.
به نال المسلمون العز والتمكين في الأرض، وبسبب تعطيله حصل للمسلمين الذل والهوان والصغار، واستولى علينا الكفار، بل تداعت علينا أرذل أمم الأرض كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وأصبحنا مع كثرتنا غثاءً كغثاء السيل، نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا، ووضعها في قلوبنا، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا.
لقد حث الله المؤمنين على القتال، وحذرهم من التقاعس عن الجهاد والركون إلى الدنيا الفانية، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التوبة: 38 - 39].
إن الجهاد هو الجهاد، بذل لكل ما يمكن من الجهود في سبيل الله، ومدافعة أعداء الله وأعداء رسوله بكل ما يستطاع من القوة: قوة البدن، وقوة السلاح، وقوة المال، وقوة العلم والمعرفة، على هذا استقر الإسلام يوم استقر، وبعيداً عن هذا الفهم الجامع لمعنى الجهاد نزلت بنا الكوارث، وفُعلت بنا الأفاعيل.
معاشر المسلمين: إنها فتن لا عاصم منها بعد الله -عز وجل- إلا النظر في سنن الله -عز وجل- الكونية، ومعرفة أصول الدين الكلية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل.
من هذه الأصول، والذي ينبغي أن لا يغيب عنك -أيها المؤمن-: أن كل ما أصاب هذه الأمة من ضعف أو ذل أو هزيمة أو فقر، فبذنوبها ومن عند أنفسها، مع أن الله لطيف بها فلا يسلط عليها من يستأصلها، ولا يكون بلاؤها كلَّه عذاباً، بل منها: الشهيد المصطفى، ومنها: المقتول المكَفَّر عنه بالقتل، ومنها: المصاب المخفَّف عنه العقوبة في الآخرة.
أما إذا اعتصمت بحبل الله، وأنابت إليه، وتركت الذنوب، فلها النصر والعزة والتمكين في كل ميدان.
وما أعداؤها الكتابيون أو المشركون وحكامها الجائرون، ومنافقوها الماكرون إلا بعض ذنوبها، ثم الله يسلط عليهم جميعاً بذنوبهم من يسومهم سوء العذاب من داخل الأمة، أو من خارجها.
ومن هنا كان أولى خطوات التغيير: التوبة والضراعة، وقد خرج أهل العراق على الحجاج ليقاتلوه، فقال الحسن البصري -رحمه الله-: "يا أهل العراق إن الحجاج عذاب الله سلطه عليكم بذنوبكم، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن توبوا إليه يرفع عذابه عنكم، فإنه يقول: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)[المؤمنون: 76]".
أيها المسلمون: ومن الأصول حقيقة قرآنية نص عليها ربنا -جل وعلا-، لا بد أن يضعها المسلم نصب عينيه، وهي: أنه مهما فعل المؤمن، ومهما قدم من تنازلات، فإنه لا يمكن أن يرضي أعداء الله -عز وجل- إلا في حالة واحدة، بينها ربنا لنبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)[البقرة: 120].
فبين -جل وعلا- لنبيه وهو سيد الخلق، وأرحمهم وأعلمهم بالسياسة، وأحكمهم وأحسنهم حكمة وتعاملاً مع عباد الله: أنه لا يمكن له أن يرضي اليهود والنصارى، مهما فعل إلا إذا اتبع دينهم وملتهم، ثم بين -جل وعلا- أنهم ليسوا على دين، وليسوا على ملة، فقال: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)[البقرة: 120].
تأمل -يا عبد الله- لا ينصره الله، ولا يتولاه إن هو أطاع أهواء أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
ومن الأصول: أن نصرة الدين وتولي المؤمنين فرض عين على كل مسلم، وهو مقتضى العقيدة والدين الذي ضمَّنتَه قلبك، وعبدت به ربك، وأن هذه النصرة ليس لها صورة محددة بل تشمل ما لا يدخل تحت الحصر من الوسائل، ولا تقتصر على القتال وحده، فالجهاد بالمال نصرة، وكذلك بالإعلام وبالرأي والمشورة، وبنشر العلم، وبالعمل الخيري، وبنشر حقائق الإيمان، وقضايا العقيدة، ولا سيما عقيدة الولاء والبراء، والدعاء للمسلمين، وموالاتهم ومحبتهم ونحو ذلك، كل ذلك نصرة.
وليست النصرة في البدن فقط، ولا القنوت فقط، ولا المال فقط، بل إذا لم تتيسر النصرة بإحدى الصور ففي صور النصرة الأخرى فسحة.
وإن المسلمين في العراق اليوم ينتظرون النصرة من إخوانهم المسلمين، فقد نزل بهم بلاء شديد عصيب -نسأل الله -تعالى- أن يفرج عنهم-، فقد تسلط عليهم رعاة البقر، وأقذر شعوب الأرض ممن تاريخهم تاريخ أسود في القهر والظلم والإبادة.
أيها المسلمون: إن جراحات المسلمين اليوم في العرق قد تعددت وكثرت، فهذه امرأة تصرخ بهدم الكفار بيتها عليها وعلى أولادها، وهذا شيخ عجوز يقتل أولاده أمامه، وهذه طفلة مشردة فقدت أهلها بسبب قتل الكفار لعائلتها، فقد عرضت وسائل الإعلام صور عائلة من 26 شخصاً ماتوا جميعاً عن بكرة أبيهم جراء القصف ولم يبقى منهم إلا طفلاً له ستة أشهر.
فيا طفلة العراق: لماذا يقتلك الكفار؟ ما ذنبك؟ هل تخبئين في حقيبتك وبين لعبك أسلحة الدمار الشامل؟ لماذا يطلقون عليك القنابل؟ مسكينة طفلة العراق:
تحدرت دمعتاها *** لما تمادا أساها
تكفكف الدمع حيرى *** ضاقت به وجنتاها
تمضي إلى أين تمضي *** والبؤس رهنُ خطاها
كفلقة البدر نوراً *** يذوب فيها سناها
كظبية الروض حسناً *** سبحان من قد براها
كبرعم الزهر ألقت *** به الحروب رحاها
صاحت بها القاذفات *** فجرعتها لظاها
أحالت الليل صبحاً *** ملطخاً بدماها
تسائل الصمت عمّا *** جرى وماذا دهاها
والجوع قد شل منها *** أركانها وطواها
والبرد سلّ سياطاً *** من الأسى قد براها
تأوي لبعض ركامٍ *** تأوي به في دجاها
أيها المسلمون: ومن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة، مع كل من حمل الرايةَ لنصرة الدين، وصدِّ عدوان الكافرين، براً كان أو فاجراً.
ومن الهزيمة النفسية: أن ترتفع الأصوات من هنا وهناك في تحريف مفهوم الجهاد أو تضييقه، وحصره في مراحل تاريخية ماضية، أو بشروط قد لا تتحقق إلى يوم القيامة.
أيها المسلمون: ومن الأصول والثوابت أن يقال: إن من أدب الإسلام في الفتن كفُّ اللسان وحبسه، وعدم إطلاقه للخوض في المسائل الكبار التي فيها نصوص قاطعة لا تقبل تحريف الجاهلين، ولا انتحال المبطلين.
لا يتكلم فيها إلا العلماء العاملون والدعاة والمخلصون، ولذا فإنا نتوجه بالمناشدة إلى الكتاب والمذيعين والمتحدثين: أن يتقوا الله فيما يقولون، فربما أعانوا على قتل مسلم بكلمة أو بشطر كلمة، فأوبقت دنياهم وآخرتهم، وأحبطت أعمالهم عند الله، فإن: "الرجل يقول الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً" كما أخبر الصادق المصدوق.
إن أمة تعيش حالة الحرب الشاملة: يجب أن تكون أبعد الناس عن اللهو والترف، وأن تصرف جهودها وطاقتها للتقرب إلى الله ورجاء ما عنده، وأن تحرص على التأسي بالأنبياء الكرام، والسلف الصالح في الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله، فهي في رباط دائم، وثغور متوالية، ولا قوة لها إلا بالله.
ويجب أن يصحب أعمالها كلَّها: إخلاصٌ لله -تعالى-، وصدقٌ في التوجه إليه، وتوكل عليه، ويقين في نصره.
وعلى أهل العلم والدعوة: أن يكونوا قدوة للناس في هذا كله، وأن يضعوه في أولويات برامجهم الدعوية.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد:
عباد الله: وإن مما ينبه إليه في الوقت الذي يسام فيه المسلمون سوء العذاب على أيدي الكفار: أنه ينبغي للمرء المسلم في خضم هذه الأحداث الكبيرة والقاسية، على المسلمين أن لا يصاب بشيء من الاسترسال مع مشاعر القنوط واليأس، فإن الثقة بنصر الله -عز وجل- لا تكون في وقت الرخاء فقط، فهذا أمر يستطيعه كل أحد، إنه من السهولة بمكان والإنسان ينعم بأمن وآمان، ويسر وسهولة ورخاء أن يقول: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ)[آل عمران: 126].
وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه.
ولكن الإيمان الحقيقي أن تدرك -أيها العبد المؤمن وأن تؤمن وتستشعر- أن النصر قادم لا محالة، وأنت في الشدة، بل وفي قمة الشدة، وأن تؤمن بقضاء الله وحكمته البالغة، وما يدريك فلربما كانت محنة في ثناياها منحة؟
فلقد كشف الله بها المنافقين ومرضى القلوب وعبدة الدرهم والدينار والوظيفة والجاه عند الخلق، وهذا خير عظيم كما حدث يوم أحد ويوم الأحزاب، وما بقي إلا معالجة السماعين لهم من العوام، قال تعالى: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)[آل عمران: 179].
ولا شك أن المسلم يستبشر لنعمة الله التي أنعم بها على عموم المسلمين من وضوح السبيل، ونمو الوعي، وذلك ما نراه من خلال إجماع العامة على الولاء للمسلمين، والبراء من الكافرين، وإدراكهم لمخططات العدو الماكر، وهو ما كان مشوشاً في أزمات سابقة: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)[الأنفال: 42].
إن اليأس ينبغي أن لا يكون له طريق على قلوبنا، وعندنا كتاب الله، فيه وعده ووعيده، فلا بد أن نصدق الوعد، ونتقي الوعيد.
أيها المسلمون: نسأل الله -تعالى- أن يتقبل كل مسلم قتل على أرض العراق على أيدي النصارى، ونحسبهم شهداء عند الله، ففي الوقت الذي يتقطع قلوبنا ونحن نسمع الأخبار، أو يشاهد بعضنا الصور المؤلمة عبر الشاشات، وهي تنقل أخبار وصور المآسي، أقول في الوقت الذي نتألم لما نرى، ونسمع من سقوط عشرات ومئات القتلى، فإننا في نفس الوقت نفرح لهم؛ لأنهم لقول الله مقبلين غير مدبرين، وأنهم على خير.
ومن وعد الله فيمن قتل في منازلة أعداء الله: أنه شهيد في سبيله، نعم الشهادة في سبيل الله، رتبة عظيمة، ومنـزلة جسيمة، لا يلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم، ولا ينالها إلاّ من سبق له القدر بالفوز المقيم، وهي الرتبة الثالثة من مقام النبوة، كما قال تعالى: (فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: 69].
فهم أحياء عند ربهم يرزقون.
يا شهيداً نسج المجد وساما *** وسقانا من كؤوس العز جاما
وتراءى في سماء النصر برقاً *** راحلاً يُلقي على الدنيا السلاما
وجهك الوضّاء ما زال يرينا *** عاشقاً قد ذاق بالعشق الحِماما
عمريّ العزم لاحت في رؤاه *** همة تسمو وأفعال تتساما
أيها المسلمون: لقد أريقت دماء طاهرة على مدار تاريخ هذه الأمة، أريقت دماء الشهداء في أحد والخندق واليرموك ونهاوند، وأريقت دماء على ربى حطين، وعين جالوت، والزلاقة، وأريقت دماء الشهداء على جبال قندهار، وفي أودية البوسنة، وعلى مرتفعات طاجاكستان، وفي أراضي الشيشان، ولا يزال قوافل من جنود الله -عز وجل- ينتظر الحصول على هذا الوسام النفيس، وسام الشهادة في سبيل الله: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)[التوبة: 52].
هؤلاء الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله قد أمنوا من عظيم الأهوال والكربات، وسكنوا في أجل المحالّ في أعلى الغرفات، وكرعوا من النعيم أكوابا، وادّرعوا من التنعيم أثوابا، ومُتعوا بجنان الفردوس مستقراً ومآبا، وتمتعوا بحورٍ عينٍ تقلن له:
فديتك روحاً تراءت ضياء *** تعالت فضجّت ملاك السماء
وراح يحلق تحت الإله *** يطير بفردوسه حيث شاء
ويلقى الأحبة في جنة *** يناغي بها ثلة الشهداء
قال صلى الله عليه وسلم: "إن للشهيد عند ربه سبع خصال: أن يغفر له في أول دفعة في دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلية الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه".
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعبادك الصالحين.
التعليقات