عناصر الخطبة
1/المنح في طيات المحن 2/سقوط الغرب وانهزامه أخلاقيا في حرب العراق 3/ثبات سنة الله في إهلاك الأمم الباغية 4/زيف الإعلام الغربي وعدم مصداقية 5/بعض حكم الابتلاء وفوائده 6/أبدية الصراع بين الإسلام والكفر 7/حاجة المسلمين إلى المراجعة الشاملة لأوضاع الأمة الإسلامية 8/تلاحم الشعوب الإسلاميةاهداف الخطبة
اقتباس
ليس هناك شراً محضاً، نعم إن هذا الغزو الذي حصل على بلاد العراق فيه من الآلام والجراح ما فيه، وقد قتل فيه الآلاف من الأبرياء والمدنيين، وحصل بسببه تخريب لممتلكات ضعفاء وفقراء، لكن مع كل هذا نعتقد نحن المسلمون أن ليس هناك شراً محضاً في...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: وما تزال أحداث العراق دامية ومؤلمة، لقد مرّت أحداثها وكأنها طيف خيال، لا تعلم أكانت مسرحية؟ أم مؤامرة؟ أم خيانة؟
وأياً كانت، فإن الأيام القادمة كفيلة بكشف المخبوء، لكن الأهم من هذا وذاك هو أن مثل هذا الحدث الضخم لا ينبغي أن يمر علينا كسحابة صيف، دون أن نقف أمامها طويلاً وطويلاً جداً على كافة المستويات، الدول والحكومات، والعلماء والدعاة، والمصلحين والمفكرين والكتاب وعامة الناس، نستلهم بعض فوائد هذه الحرب، ونستوضح بعض العبر، ونستفهم بعض المفاهيم، تحسباً للمستقبل: (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[القصص: 60].
فهذه بعض الفوائد والعبر:
أولاً: ليس هناك شراً محضاً، نعم إن هذا الغزو الذي حصل على بلاد العراق فيه من الآلام والجراح ما فيه، وقد قتل فيه الآلاف من الأبرياء والمدنيين، وحصل بسببه تخريب لممتلكات ضعفاء وفقراء، لكن مع كل هذا نعتقد نحن المسلمون أن ليس هناك شراً محضاً في هذا الكون، إننا نجزم ونوقن بأن ما يدور الآن من حرب وقتل وهجوم شرس على بلدان المسلمين إنما هو بعلم الله -تعالى-، وقدره وحكمته، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)[البقرة: 253].
إن ما يحدث في هذه الأيام العصيبة إنما هو بإرادته سبحانه الكونية والقدرية، وله الحكمة البالغة في ذلك، وتقدير الله -عز وجل- لذلك إنما هو وفق سننه سبحانه التي لا تتبدل ولا تتحول، ومنها: سنة التغيير: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد: 11].
وسنة الابتلاء والتمحيص وغيرها.
والأمة مطالبة بأن تدفع قدر الله -عز وجل- بقدره، وذلك بأن الله أراد منا ديناً وشرعاً أن نرجع إليه، ونأخذ بالأسباب الشرعية التي ندفع بها قدره الكوني، فإن نحن انطلقنا إزاء هذه الأحداث من السنن الربانية التي ذكرها الله -عز وجل- في كتابه الكريم، فإننا سننتفع من هذه الأحداث، وتكون عاقبتها خيراً للإسلام والمسلمين، وهذا ما نرجو من الله أن يوفق المسلمين إليه، ويجعل في أعطاف هذه المحنة العصيبة منحة عظيمة، وعاقبة حميدة، قال الله -تعالى-: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)[النــور: 11].
فلا حركة ولا سكون في هذا الكون إلا بما أراد الله، فهذا الذي يُخطط له الأعداء، ويبيتون له بالليل والنهار، لا يمكن أن ينفذ ويقع إلا إذا أراد الله، وإذا قدّر الله وقوع شيء فلِحِكم، قد ندرك بعضها وقد لا ندركه، ولذا وجب التعامل مع مثل هذه الملمات بشيء من الحلم والاتزان، من غير تـهويل ولا تـهوين.
فأعداؤنا أقوياء بسبب ما تملكوا من معدات وأدوات، وبما أخذوا من مظاهر القوة التي بسطها الله للكافر، والمؤمن وجعل معيار التحكم فيها يخضع للجهد والاجتهاد والعمل الدؤوب، لكن إرادة الله أقوى وأعظم مهما خططوا وأعدوا وأحكموا، وأنـهم إذا كانوا يتصورون بأنـهم سيحققون كل ما يطمحون إليه بجرة قلم، أو بإطلاق حمم القذائف والصواريخ والقنابل، فإنه يجب علينا أن نوقن بأنه: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ)[التوبة: 51].
وبأن: "ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك".
وبأنـهم يمكرون: (وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال: 30].
وبأن الله يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)[القلم: 45].
(سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)[القلم: 44].
(حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا)[يونس: 24].
(وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا)[إبراهيم: 45]،
ولا بد مع ذلك من اليقين بأنه وراء المحن منح، ومع العسر يسراً، ومع الشدة والكرب، فرجاً ومخرجاً: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطلاق: 7].
(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح: 6].
(فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19].
فلا مكان للوهن، ولا مجال للاتكال، وإن العمل وتركيز الجهد يدفع المكروه بالمقدور، وصد العدوان بالصبر والثبات: (وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)[محمد: 35].
فما ضاع حق وراءه مطالب: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)[التوبة: 52].
ثانياً: من فوائد هذه الحرب: انهزام أمريكا أمام العالم، نعم انهزامها أخلاقياً، فهي وإن انتصرت بعض الانتصار عسكرياً، لكنها انهزمت كلياً أخلاقياً، فبعد أن أعلنت أمريكا بأنها ستنـزع أسلحة الدمار الشامل، ثم قالت العراق بأنها لا تملك من ذلك شيئاً، ثم سمحت للمفتشين الدوليين بالدخول والتفتيش، ثم أعلن المفتشون بأنهم لم يجدوا شيئاً، وبعد كل هذا دخلت أمريكا العراق بالقوة، ولم تسمع لأحد، وفعلت ما فعلت أمام سمع وبصر العالم، ضاربة بكل القيم، وبكل الأعراف، وبكل الأديان، وبكل القوانين، عرض الحائط، وانتهكت كل القيم الأخلاقية، فاستهدفت الآمنين، وضربت المدنيين، وتقصدت المؤسسات الإعلامية المحايدة، فانكشف أمرها أمام العالم، وكشفت الحرب عن الوجه الأسود الكالح.
فالولايات المتحدة الأمريكية المدعية بأنها حامية حقوق الإنسان والداعية للحرية والعدالة والديمقراطية، هي أكبر قوة في العالم تتعدى على هذه المبادئ وتتجاوزها، بل تعدت ذلك بأن تفرض على المؤسسات العالمية أن تعطل دورها، وترضخ لأطماعها وعجرفتها، بل إن تلك المؤسسات العالمية قد سُلبت من قبل الولايات المتحدة، حتى قدرتها على التساؤل والانتقاد، فانكشاف أمريكا، وظهور زيف شعاراتها عن العدالة والحرية والإنسانية والحضارة، وحق الشعوب في تقرير المصير من أعظم فوائد هذه الحرب، فكان الأمر؛ كما قال الله -تعالى-: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ)[آل عمران: 118].
وبناءً عليه، فإن العالم لن يكون كما تريده الصهيونية بشقيها اليهودي والمسيحي.
إن العالم دائماً ينبذ الأشرار ويكره المجرمين، وكثيرين من الاستبداديين لُفظوا إلى مزابل التاريخ، فأمريكا لن تكون القطب الأوحد كما تريد هي أن تكون.
ثالثاً: نريد أن نعرف الآن ما هو موقف العلمانيين في العالم الإسلامي من دولتهم التي طالما تحدثوا عن ديمقراطيتها وحريتها وعدالتها؟ طالما طنطنوا وكتبوا وأزكموا أنوفنا بكتابات ومقالات تشيد بالحضارة الغربية، ويطالبون أن تحذوا الدول الإسلامية حذو أولئك، فلا ندري هل سيستمرون على إعجابهم وتقديرهم للغرب عموماً وأمريكا، خصوصاً بعدما انكشف حقيقة ديمقراطيتها وحريتها وعدالتها؟ أم سيستحون بعض الوقت؟ أم يبررون لها ما فعلت؟
والأيام كفيلة بفضح هؤلاء كما فضحت أولئك.
رابعاً: لكل أمة أجل، قال الله -تعالى-: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34].
فكما أن للأفراد آجال فكذلك للأمم آجال، ولها نهوض وسفول، ولها شباب وهرم، لكن هذه الأمة تختلف عن غيرها من الأمم بخصائص ميزها الله -تعالى- عن سائر الأمم، وهو أن أجلها لا ينتهي إلا بقيام الساعة، نعم قد تمرض هذه الأمة لكنها لا تموت كغيرها من الأمم.
وأما الأمة الأمريكية، فانهيارها قادم -بإذن الله- ومن داخلها، وهي تجلس الآن على فوهة بركان ممكن أن ينفجر في أية لحظة، وهذا يدفع العالم للتوحد ضد مجرمي الإدارة الأمريكية التي أعلنتها حرباً لتدمير البشرية تحت اسم مكافحة الإرهاب، أو نزع أسلحة الدمار الشامل، ولو أضفنا إلى هذا زيادة انتشار ثقافة الجريمة وثقافة المخدرات وثقافة الجنس وثقافة الشواذ، ومعلوم أن المجتمعات التي تحتوي على مثل هذه الثقافات لا يمكن أن تستمر كما لا يمكن أن تسود العالم ومصيرها إلى الهاوية.
وبناءًا على ذلك، لا يمكن لأمريكا أن تكون شرطياً، أو مصرفة لشؤون العالم، كما لا يمكن لها أخلاقياً وأدبياً وثقافياً ودينياً أن تتهم أحداً أو منظمة أو دولة بالإرهاب؛ لأنها أصبحت هي الآن بلد الإرهاب الأعظم، ومصدر الإرهاب العالمي، وداعمة أكبر دولة إرهابية في العالم إسرائيل، وانكشاف هذا الأمر من أعظم فوائد هذه الحرب.
فأبشروا، فإن الله -عز وجل- ناصر دينه لا محالة، والمستقبل للإسلام، فلا يرهبنكم الغرب الكافر بقيادة أمريكا الطاغية، فإنها في بلاء أشد من البلاء الذي يتعرض له المسلمون، وأي بلاء أعظم من الكفر والظلم الذي هو فيه، ثم إنه الآن يعيش في سنة الإملاء والإمهال من الله -عز وجل- والتي يعقبها المحق والتدمير؛ لأن الله -عز وجل- لا يجعل الظالم يظلم إلى ما لا نهاية، بل إن له نهاية محتومة في علم الله -عز وجل- يدفعه الله -عز وجل- إليها دفعاً بإمهاله والإملاء له، حتى يزداد غطرسة وظلماً وإثماً، فتحق عليه سنة المحق من الله -عز وجل-.
وأمريكا الظالمة تقترب الآن من نهايتها لما هي عليه من الكفر والتمادي في الظلم والكبر والغطرسة، وقد قال الله -تعالى-: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)[آل عمران: 178].
وقال تعالى: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)[الطارق: 15-17].
ففي الوقت الذي يُبتلى فيه المؤمنون ويمحّصون، فإن الكافرين يبتلون بسنة الإملاء، حتى إذا محص المؤمنون، وتميز الخبيث من الطيب، وبلغ ظلم الكافر منتهاه جاء محقهم ونهايتهم، وجاء تمكين الله لعباده المؤمنين على أنقاض تدمير الكفار: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[يوسف: 21].
والسعيد من ثبته الله أيام المحن، وخرج منها معافىً طيباً، وشرفّه الله -عز وجل- بأن يكون من الطائفة المنصورة، وحزبه المصلحين.
لقد ظلم حزب البعث شعبه وجيرانه، وقتل وفعل الأفاعيل، فأمهله الله -تعالى- برهة من الزمن، لكن لم يهمله، فأخذه بظالم آخر، وشتت أمرهم، وأصبحوا كما رأيتم، وأمريكا ظلمها أشد وأقسى من ظلم حزب البعث، وبحسب سنة الله، فإن أخذها سيكون أشد وتدميرها، سيكون أقسى مما حصل للبعثيين، والله يمهل ولا يهمل.
خامساً: من فوائد هذه الحرب: تبين للعالم كله الكذب الصريح والواضح من وسائل الإعلام الغربية، ووكالات أنبائها، فإلى فترة قريبة كان كثير من الناس يثقون بهذه المحطات والإذاعات، بل كان كثير من المسلمين إذا أراد أحدهم أن يعرف ما يجري في بلدان المسلمين توجه لبعض هذه الإذاعات والمحطات.
وفي هذه الحرب انكشف للعالم -والحمد لله- أنهم يكذبون ويزيفون ويزورون ولا يستحون، صراحة وبكل وقاحة، وأنهم قد تخلوا عن كل مبادئهم إن كان لهم مبادئ.
سادساً: كان الإعلام العربي ولا يزال بوقاً للإعلام الغربي يردد كالببغاء ما يقوله أولئك، فمن فوائد هذه الحرب أننا سمعنا في بعض الأحيان وفي بعض الفترات من بعض المحطات والقنوات، وحتى الإذاعات كلاماً يخالف ما كان يردده الإعلام الغربي، وأحياناً يعارض وأحياناً مصبوغاً بالصبغة الإسلامية، وكل هذا يعتبر قفزة نأمل أن يستمروا عليها ولو لبعض الوقت، وأن يكون لهم استقلالهم على الأقل في ما يقولون وينطقون.
سابعاً: إن مناشدة ما يسمى بهيئة الرمم أو الأمم الملحدة أو المجتمع الدولي وأشباهها لا يجدي شيئاً كما هو مُجرب، وما أشبه من المناشدة بالاستغاثة بالغريق أو السجين، وقد شنّع سلفنا الصالح على من هرع إلى القبور وقت الأزمات مستغيثاً بهم قائلين لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا".
إن الله -جل جلاله- إذا اشتكى إليه المخلوق، وأنزل حاجته به، واستغفره من ذنبه، أيّده وقوّاه وهداه وسدّ فاقته وأغناه وأحبه واصطفاه، والمخلوق إذا أنزل العبد به حاجته استذله وازدراه، ثم أعرض عنه فخسر الدنيا والآخرة، فيا ليت قومي يعلمون.
ثامناً: قال الله -تعالى-: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)[آل عمران: 179].
عندما ننـزل هذه الآية على هذه النازلة التي حلت بديار المسلمين، يمكننا القول: بأن الذين يواجهون لهيب هذه الحرب من المسلمين داخل العراق، أو من هم خارجه من المسلمين، كلهم يعيشون الآن في أتون الابتلاء والتمحيص، حيث أن مجتمعات المسلمين سواء داخل العراق أو خارجه تعيش مفاسد عظيمة، وخليطاً من الأفكار والمواقف والانتماءات الكفرية، ففيهم المؤمن الصادق، والطاغوت الخائن، والمنافق، والعميل، وضعيف الإيمان، والمتعلق بهذا المبدأ أو ذاك، وفيهم دعاة الإصلاح، وفيهم دعاة الفساد.
فما كان الله -عز وجل- ليذر المؤمنين على هذا المزيج الذي لا يعرف طيبه من خبيثه، فقدر الله -عز وجل- هذه الأحداث الموجعة لحكم بالغة، منها: تمييز الناس، حتى يظهر فيها المنافق الخائن، والكافر المستتر على كفره، ويتميز فيها أصحاب العقائد الصادقة من أصحاب المبادئ الفاسدة، وطلاب الدنيا من طلاب الآخرة، وقد بدت بوادر هذا التميز من الآن، فكيف الحال في نهايته.
وقد تكلم أناس كنا نحسن بهم الظن، وإذا بهم يخالفون كثيراً من الثوابت والأصول التي كانوا هم يدعون إليها قبل فترة بسيطة.
فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، إن نصر الله -عز وجل- وتمكينه لأوليائه ومحقه لأعدائه لا يتم إلا بعد هذا الفرز والتمحيص، كما يمحّص الذهب المختلط بالأتربة والشوائب بحرقه وتمحيصه في النار، فيخرج تبراً أحمراً نقياً.
فلننتبه نحن -معاشر المسلمين-، فنحن في هذه الأيام العصيبة في ابتلاء وتمحيص، ابتلاء لما في قلوبنا، وابتلاء لما تقوله ألسنتنا، وابتلاء لأعمالنا ومواقفنا، وما أكثر من يسقط في هذا الابتلاء.
نسأل الله أن يعافينا ويثبتنا، وأن يجعلنا ممن يخرج من هذه الفتنة طيبين مؤهلين لنصر الله -عز وجل- وتمكينه.
تاسعاً: من دروس هذه الحرب: إن هذه الهجمة الشرسة التي شنتها الولايات المتحدة على الإسلام والمسلمين لا تدل على ضعف الإسلام، بل هي ظاهرة تدل على أن هذا الدين بدأ بأتباعه الصادقين يشكل مصدر خطر ورعب على أعدائه، وما الحملة المسعورة التي تشنها أمريكا وحلفاؤها الكفرة على بلاد المسلمين بداية من حملتهم على أفغانستان، وبما تقوم به هذه الأيام من عدوان شامل للعراق والسعي لاحتلاله إلا دليلاً على ذلك.
ومع كل هذا الكيد والمكر، فنحن نعتقد بأن نصر الله آت، وقد ضرب الله لنا أمثالاً بالأمم قبلنا، ومن أكثر القصص في القرآن قصص بني إسرائيل، وذلك لوجود بعض أوجه الشبه بينهم وبين هذه الأمة، وقد عاشوا سنين عديدة تحت الذل والهوان والتسلط الفرعوني بعد أن نسوا ما ذكروا به، وتعلقوا بالدنيا وأَنِسُوا بها وركنوا إلى الشهوات، وحب الحياة، ثم اشتد عليهم العسف والأذى قبيل ميلاد موسى -عليه السلام-، ولما بلغ أشده وأُكرم بالنبوة زاد عليهم الأذى والظلم، حتى قالوا: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)[الأعراف: 129].
ومكثوا على هذا الحال من الاضطهاد سنين عديدة، وفيهم أهل الإيمان بالله موسى وهارون، ومن استجاب لهما، ونبي الله يعدهم بالنصر والاستخلاف في الأرض، وهلاك العدو، وبعد هذه السنين الطوال أُمروا بالخروج وركوب البحر، فخرجوا من الذلة والهوان: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ)[الأعراف: 137].
وفي هذا دليل على أن نصر الله -تعالى- آت، وزمانه مقبل، ولكنه لا يحسب بحساب أعمارنا القصيرة، ولا يقاس وفق قياسات زمنية قريبة: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ)[الأنبياء: 37].
فيجب أن نوقن بأن عاقبة هذه الحرب الصليبية الجديدة ستكون للإسلام، لقد جرب الأوربيون مرتين وفشلوا في القضاء على الإسلام، ولم يستطيعوا الاستمرار طويلاً في احتلال العالم الإسلامي، ونحن موقنون بأن هجومهم هذه المرة سينتهي بعد سلسلة من الحروب والكوارث.
لقد علَّمَنَا القرآن، وبينت لنا السنة النبوية أن الصراع الأبدي المستمر حتى نهاية العالم هو بين الإسلام من جهة وبين اليهودية والنصرانية من الجهة الأخرى، وأنه مستمر حتى تسقط في النهاية إحدى الجبهتين، وقد أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن نهاية هذا الصراع ستكون بانتصار المسلمين، وظهور الإسلام على الدين كله، والقضاء على اليهود، وكسر الصليب.
لكن ينبغي أن لا نغترّ بهذه البشائر الواردة في السنة، وأن لا نتَّكِل عليها ونتواكل بسببها، فقد لا نكون نحن هذا الجيل المقصودين بها، وينبغي ألا نزكي أنفسنا فقد نُبتلَى بتسليط العدو علينا حسب ذنوبنا، وحالنا وحال قلوبنا وحال قياداتنا، وقد نكون نحن وقودَ المعركة، والذي سيجني ثمار النصر غيرنا، مسلمون آخرون يُوَفُّون بشروط النصر، وقد نشهد نحن بشائر النصر وبوادره بعد ابتلاء شديد وحوادث جِسَام، و(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ)[الروم: 4].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد:
وأيضاً من فوائد هذه الحرب، عاشراً: ولعلها أن تكون من أهم فوائدها: مراجعة الأوضاع على كافة الأصعدة والمستويات.
إن ما حصل للعراق قد يحصل لأية دولة أخرى، وما نزل بالشعب والمجتمع العراقي قد ينـزل بأي شعب أو مجتمع، فالعالم أصبح فوضى، لا يحكمه نظام ولا تقيده شريعة ولا قانون إلا شريعة الغاب التي سنتها أمريكا مؤخراً.
لذا أصبح لزاماً على الجميع أن يحتاط، وأن يراجع وضعه، الحكومات تراجع أوضاعها، وتتفقد أحوالها وتستعد، والعلماء يراجعون أوضاعهم وفتاويهم، ويكونون على مستوى الأحداث، والدعاة يراجعون أوضاعهم وخططهم الدعوية، وما يقدمونه للناس بما يناسب المقام، والحركات الإسلامية تراجع أوضاعها ومناهجها، وكيف تتصرف في مثل هذه الظروف، والمؤسسات الخيرية تراجع أوضاعها وبرامجها، وكيف يمكنها أن توصل المساعدات في ظل أوضاع صعبة وملاحقة مستمرة، وهكذا الكل يراجع وضعه ويبدأ يضع الخطط، ويهيئ نفسه لحالة قد تشبه حال العراق، فلو حصل لا قدّر الله فماذا نصنع؟ وكيف نتصرف؟.
فلعل ما حصل يكون منطلقاً للمرحلة الإصلاحية القادمة على مستوى الحكومات والدول والشعوب والأفراد والمؤسسات الخيرية والحركات الإسلامية، وغيرها، دعوةً، وجهاداً، وتربيةً، وتزكيةً، وأن نستعد فكرياً ونفسياً للمرحلة القادمة، وأن لا نغرق في الأوهام، وأن لا نحزن ولا نـهن، ولا نفقد ثقتنا بديننا مهما كانت النتائج: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139].
هذا العلو هو علو الإيمان والدين الذي يقتضي منا أن نكون الأفضل في كل شيء، فرغم كل المساوئ والهزائم التي مني بـها المسلمون إلا أن الخير ما زال فيهم، فإلى العمل لا التحازن وإلى الصدق لا التباهي، وإلى التناصح لا التلاوم، فالأمة الإسلامية تمرّ هذه الأيام بأعنف المراحل وأكثرها حرجاً في تاريخها، فقد اجتمعت الأزمات دفعة واحدة حيث تكالبت عليها قوى الشر الخارجية، في الوقت الذي تعاني فيه من الوهن والتمزق في الصف الداخلي، مع الميوعة والفوضى الفكرية، وهذا يدعو للعمل لا التخلف، ورغم هذه الفترة المظلمة إلا إن الأمل في الله -سبحانه وتعالى- أن يخرج هذه الأمة من ظلماتها وغفلاتها.
الحادي عشر: من دروس هذه الحرب وفوائدها: ما رأيناه من تلاحم الشعوب الإسلامية مع بعضها، وقد وقفوا وقفة واحدة ضد هذه الحرب، ورفضوا هذا العدوان الغاشم من الصليبيين ضد إخوانهم المسلمين، إلا من بعض الشذاذ ممن لا عبرة بهم، فظهرت -والحمد لله- فتاوى شرعية مؤصلة جماعية وفردية في جملة من بلاد المسلمين، تبين الحكم الشرعي في هذه الحرب وحكم المشاركة أو المعاونة، بل حصل الاهتمام بهذه الفتاوى حتى من الغربيين، وفي كل هذا خير.
وصار في هذا الحدث فرصة للكثيرين من الخطباء والدعاء أن يتحدثوا في قضايا مهمة جداً، وأن يوضحوا مفاهيم أساسية كمفهوم نصرة الدين وتولي المؤمنين التي هي فرض عين على كل مسلم، وعقيدة الولاء والبراء، والقنوت والدعاء، والجهاد في سبيل الله وغيرها من القضايا والمفاهيم.
وأدرك الكثيرون أن الأمة تعيش حالة الحرب الشاملة، والتي يجب عليها أن تكون أبعد الناس عن اللهو والترف والمباريات، وأن تصرف جهودها وطاقتها للتقرب إلى الله ورجاء ما عنده.
وحصل بسبب هذه الحرب نوع من الوعي لدى الأفراد والشعوب والدول، ولم تنخدع باللعبة الأمريكية، وأنها قد جاءت من أجل تحرير العراق؛ لأنها قد شاهدت بأعينها كيف أن الإدارة الأمريكية تركت بعض ضعاف النفوس يمارسون السلب والنهب، وكان بإمكانها أن تمنع ذلك، وإلا فما تفسير أنها قد حافظت وحمت آبار النفط، ولم تحافظ على بقية مرافق الدولة.
وقد صرح فرعون أمريكا بأن آبار النفط العراقي ستكون وديعة عند الولايات المتحدة لحساب الشعب العراقي، فأعاد إلى ذاكرتنا تلك القصة التي مفادها أن الأسد استعان بالذئب والثعلب في يوم صيد، فصادوا جملاً وغزالاً وأرنباً، فضحك الثعلب وقال بفضول: قد جاءت النسبة قدرية واضحة التناسب؛ فالجمل لمولانا الملك، والغزال للذئب، والأرنب لي، فلطمه الأسد، وأسال دمه على وجهه، والتفت إلى الذئب يستشيره، فقال الذئب: بل الجمل تأكله الآن أيها الملك، وأُحِبُّ لك أن تتلهى عصراً بين الوقتين بالأرنب، ثم يكون عشاؤك الغزال فإنه أخف على المعدة عند النوم.
فابتسم الأسد، وقال: هذه هي الحكمة بعينها، من أين تعلمتها؟ قال: رأيتها في الكتاب الذي كتب بالمداد الأحمر، يعني وجه الثعلب الدامي.
فوديعتنا لدى فرعون أمريكا لن تقسم إلا كذلك، ودروس أمريكا لشعوب الأرض هي الكتاب البليغ الفصيح الأحمر، وستسيطر على العراقيين أحزان وآلام نتيجة سعة التدمير، وكثرة القتلى وجريان الدماء، والأمريكي المنتصر سيتصرف بزهو وخيلاء وتكبّر، ويتبجح علانية، وستدون مكتبة واسعة من كتب سطرت بالمداد الأحمر التهديدي لكل البشرية، وليس كتاباً واحداً.
كانَ الخليجُ خليجًا كلُّهُ عَرَبُ *** واليومَ أضحى خليطًا ما لهُ نَسَبُ
ما كنتُ أحسبُ يومًا من جزيرتنا *** أنَّ العُلوجَ علىَ أعراضِنا تثبُ
ماذا التَّحالفُ ضدَّ الأهلِ تنعته *** ماذا النُّكوصُ يُسمَّى أيُّها العربُ؟
لو في الجنودِ من المليارِ من رَجُلٍ *** لما تَرَأَسَ من للغربِ ينتَسبُ
فقد توطنَّ في مليارنا وهنٌّ *** وقد تكشَّفتِ الأستارُ والحجُبُ
خمسُونَ عامًا بنا الحادي وقافِلَةٌ *** تمشي بَغيرِ هُدىً في الليلِ تحتطبُ
إنْ قلتَ طنجةُ أو نجدٌ بها خللٌ *** ففي العراقِ كما في مِصْرِنَا عَطَبُ
وإن نَظرتَ إلى الجولانِ تلحظُهُ *** يبكي الكرامةَ والأرْدنُّ ينتحبُ
لولا بغزَّةَ والأقصى بنا فئةٌ *** تلقى العدوَّ كآسادٍ وتَنتدبُ
رُبَّاهُ عفوكَ إنَّ الهمَّ يعْصِفُ بي *** والقلبُ تُثقلُهُ الأوْصَابُ والنُّوبُ
أتيتُ بَابَكَ يا مولايَ أطرُقُهُ *** ومن سِوَاكَ يُرَجَّىَ عندهُ الطَّلَبُ
أعِدْ بعونِكَ للإسْلامِِ عزَّتَهُ *** فللخلافة باتَ الكلُّ يرتقبُ!
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين والمنافقين ودمر أعداءك أعداء الدين.
اللهم منـزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اللهم اهزم جيوش الكفر الغازية، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم اكفيناهم بما شئت، اللهم مزقهم تمزيقاً، اللهم عليك بقوات أمريكا رأس الكفر والإلحاد، وعليك بحلفائها، اللهم عليك برؤوس الكفر وأعوانهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم خالف بين قلوبهم، اللهم اجعلهم وما يملكون غنيمة للإسلام والمسلمين، اللهم انصر عبادك المجاهدين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم انصرهم في فلسطين وفي العراق وفي الشيشان، وفي الفلبين وفي كشمير وفي بلاد الأفغان والبلقان، وفي كل أرض وبلد يا رب العالمين.
اللهم أمِّن خائفهم، واحمل حافيهم، واطعم جائعهم، واكس عاريهم، وآوي يتيمهم، وأيدهم بجنودك يا أرحم الراحمين.
اللهم كن لإخواننا المسلمين في العراق عوناً ونصيراً، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم أنزل عليهم السكينة والطمأنينة، اللهم احقن دماءهم، اللهم اخلفهم في أهليهم ونسائهم وأطفالهم بخير، اللهم احفظهم في دينهم وفي أعراضهم وفي أموالهم وأطفالهم، وأرفع البلاء عنهم، يا أرحم الراحمين.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه وليك، ويذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى عن المنكر، إنك سميع الدعاء.
اللهم اشف صدورنا، وأقر عيوننا بنصرة دينك وأوليائك، وخذلان أعدائك.
اللهم قاتل أمريكا وحلفائها الذين يكذبون رسلك، ويعادون أوليائك، ويصدون عن سبيلك، وأنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق.
اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم.
التعليقات