الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الإخوة المؤمنون: من الخصال السيئة التي يفرح بها الشيطان إذا اتصف بها بنو آدم خصلة ذميمة تفقد المرء توازنه، وتصده عن الحق، وتبغضه لدى الخالق -جل جلاله-، وتخرم أثمن ما يملك وهو إخلاصه، وتورث القلب بقعا سوداء يصعب إزالتها خصلة ذميمة سيئة تصيب بعض المسلمين إنها خصلة الإعجاب بالنفس؛ ذلك الإعجاب المفضي إلى التعالي وازدراء الآخرين ورفض الحق مهما كان واضحا؛ لأنه لم ينبثق من قلب ذلك المعجب بنفسه.

العجب -أيها الإخوة- آفة شيطانية تفسد الأعمال وتحبط الحسنات وتعطل المسلم عن سيره إلى الله تعالى، والواجب على كل مسلم أن يبحث وأن يفتش في نفسه عن هذه الخصلة العجب يصادم الإخلاص الذي هو مناط قبول الأعمال فالعجب سوء أدب مع الله وسوء ظن بالخلق وسوء معاملة ... الافتقار إلى خالقها كم من مسلم لا يحاسب نفسه ويغرق في معاصيه بسبب إعجابه بنفسه، وكم حرم كثيرون من إخواننا المسلمين من معرفة أخطائهم والاهتداء لعيوبهم؛ لأنه أعماهم عجبهم بأنفسهم.

أخي المسلم: إن العجب الذي يجب عليك الفراغ منه هو أن ترى أن عندك شيئا ليس عندك غيرك ترى أنك تملك أشياء لا يملكها على وجه الأرض إلا أنت سواء كان ذلك في أمور الدين. وهذه بلية ورزية أصيب بها بعض أهل السنة ممن يظنون أن الحق إذا لم يمر عليهم فيختم عليه بختم المرور فإنه لا حق إلا في ذلك فهم يردون كل خير عند غيرهم؛ لأنهم لم يعرفوا ذلك الخير ولم يصدقوه على حسب معتقدهم المنبثق من إعجابهم وغرورهم بأنفسهم إن العجب مذموم سواء كان ذلك في أمور الدين كمن يستعظم عبادته وطاعته ومنهجه ويزدري الآخرين أو كان ذلك في أمور الدنيا من مال ومركز وملبس ومسكن وصحة وجسم وغير ذلك قال بعض السلف: "العجب في الدين أن تحمد نفسك على ما علمت وعملت وتنسى أن النعم من الله عز وجل-"، ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: "العجب قرين الرياء لكن الرياء من باب الإشراك بالخلق والعجب من باب الإشراك بالنفس؛ فالمرائي لا يحقق قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) والمعجب لا يحقق قوله تعالى: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5]".

أيها الأحبة في الله: كثيرا ما يكون العجب مفضيا إلى الكبر والتعالي -أعاذنا الله وإياكم منه- الذي يظهر على طائفة من إخواننا المسلمين -هداهم الله- هذا الكبر أوله إعجاب بالنفس، والكبر من الصفات التي لا تجوز إلا لله رب العالمين؛ فهو المتكبر وغيره لا يجوز له أن يتصف بهذا.

ذكر العلماء -رحمهم الله- أن العجب يعمي الإنسان عن ذنوبه، ويجعله يستصغر ذنوبه وسيئاته، ويغتر بعمله، ويشعر كأنه صاحب منة على الله، ويرى أنه ليس بحاجة إلى توبة ولا إلى نصيحة؛ لأنه الكامل وغيره ناقص، ولأنه الذكي وغيره بليد، فيُعيِّشه الشيطان في كمال زائف وعصمة مدعاة، فيصير لا يقبل حقا من أحد، ولا يتراجع عن خطأ مهما صار ذلك الخطأ عظيما. قيل لعائشة -رضي الله عنها-: "متى يكون الرجل مسيئا؟ قالت: إذا ظن أنه أحسن أو إذا ظن أنه محسن". نعم إذا غلب على نفسه أنه هو المحسن فإن ذلك أول السقوط وأول الإساءة.

أخي المسلم: انظر كيف ذم الله العجب فقال -جل وعلا-: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا)[التوبة:25] الكثرة سبب في الغلبة كيف لا وأصحابها هم أهل الإيمان إنهم كانوا قلة في بعض المعارك وانتصروا فكيف الآن وهم كثرة لكن دخل عليهم آفة دخلت عليهم آفة أفسدت كثيرا مما في قلوبهم (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا)[التوبة:25] تأديب من الله -عز وجل- للطائفة المؤمنة أن تسير على وفق مراد الله ولا تعجب بنفسها مطلقا وقال صلى الله عليه وسلم ذاما العجب كما في الصحيحين قال -عليه الصلاة والسلام-: "بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته إذ خسف الله به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" وفي سنن البيهقي بإسناد حسن قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه" وجاء في حديث إسناده جيد كما في السلسلة الصحيحة قال -صلى الله عليه وسلم-: "لو لم تكونوا تذنبون خشيت عليكم أكثر من ذلك العجب ، لو لم تكونوا تذنبون خشيت عليكم أكثر من ذلك العجب".

العجب أمره خطير على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو أخوف علينا من الذنوب، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الهلاك في اثنين القنوط والعجب".

أيها الإخوة في الله: سر إهلاك العجب لصاحبه أنه إذا أعجب بعمله وعلمه ونفسه لم يفطن لذنوبه، وإذا فطن لشيء من ذنوبه استصغرها؛ فهو لا يفكر في التوبة ولا الإقلاع عن ذنب مهما كان كبيرا، فيهلك؛ نسأل الله العافية وهو على ذلك، قال بعض السلف: "بحسب الرجل من العلم أن يخشى الله وبحسبه من الجهل أن يعجب بعلمه"، وقال مطرف بن عبد الله -رحمه الله تعالى-: "لأنْ أبيت نائما -يعني لا أصلي الليل- وأصبح نادما أحب إلي من أن أبيت قائما فأصبح معجبا"، وقال ابن المبارك: "لا أعلم في المصلين شيئا شرا من العجب" أعاذنا الله وإياكم من هذا البلاء.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

فيا أيها الإخوة في الله: لماذا يعجب المرء بنفسه وبعمله؟ إن أعظم الأسباب الموقعة في ذلك هو الجهل بحق الله وعدم تقدير الله وعدم تعظيمه وقلة الفقه في باب الأسماء والصفات فإلا لو كان العبد يعرف الله حق المعرفة ويعظمه حق التعظيم ويقدره ويجله ويعبده على الوجه اللائق به لم يقع في ذلك أبدا الخير النازل منه وغير النازل كله بيد الله ومرده إلى الله قال تعالى (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النحل:53]. نِعَم الدين نِعَم الدنيا ما بكم من نعمة فمن الله؛ فكيف ينسى العبد أن كل خير حاصل له إنما هو منة وفضل وإحسان من الله، قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النُّورِ:21].

ومن أسباب الوقوع في الإعجاب: الغفلة عن حقيقة النفس البشرية وضعفها، وحاجتها إلى الله، والجهل بعيوب النفس وإهمال محاسبتها، قال الشافعي -رحمه الله-: "إذا خفت على عملك العجب فاذكر رضا من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب؛ فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله"، وقال المحاسبي -رحمه الله-: "كيف يعجب بأعماله من كانت الأعمال مننا من الله العظيم، وعليه من المنن في الدين والدنيا أكثر من أن يعد أو يحصى"، وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي به مرضاة الله مطالعا فيه منة الله عليه وتوفيقه له فيه، وأنه بالله لا بنفسه ولا بمعرفته ولا بفكره ولا حوله ولا قوته، بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن فالذي من عليه بذلك هو الذي من عليه بالقول والفعل، فإذا لم يغب عن بالك، ولم يغب عن ملاحظته النظر إلى هذه الأمور، ولم يحضره ما يدعو إلى العجب"، وقال ابن القيم رحمه الله: "لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبته عن شهود منة ربه وتوفقيه".

وخلاصة كلام ابن القيم أن من رأى هذه المنن من الله أصلا؛ فكيف يعجب بنفسه إذا أراد أن يتكلم وأعجبه حديثه، أو أراد أن يتصدق وأعجبته صدقته، أو أراد أن يصلي وأعجبته صلاته، أو أراد وأراد وأعجبته نفسه وقوله وفعله فليتذكر من الذي أعطاه اللسان ومن الذي أعطاه هذه الحواس التي بها أتقن صنعته إنه الله -جل جلاله- هو الذي أعطاه.

قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "من تلمح خصال وذنوبها علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير"، وقال ابن حزم -رحمه الله-: "من امتحن بالعجب من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة، وإن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك وأخْفِها ولا تنشرها، وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، وأنه موهبة من الله مجردة وهبك إياها فلا تقابلها بما يسخطه فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت، وإن أعجبت بمدح إخوانك لك ففكر في ذم أعدائك إياك؛ فحينئذ ينجلي عنك العجب، فإن استحقرت عيوبك ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس، وتمثل اطلاعهم عليها؛ فحينئذ تخجل وتعرف نقصك". وصدق رحمه الله.

أيها الإخوة في الله: كم يحتاج الواحد منا إلى أن يقف مع نفسه وقفة محاسب ومصارحة؛ ليعرف عيب نفسه، ويضع نفسه في المكان اللائق بها.

أخي المسلم: اسأل نفسك بصدق هل ترى لنفسك فضلا على غيرك من إخوانك المسلمين؟ ألا تخشى أن يكون ذلك سببا في حبوط عملك وإعراضك عن الحق؟

أسأل الله -عز وجل- أن يكفينا وإياكم شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ إنه سميع قريب.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.