عناصر الخطبة
1/ التأمل في نعم الله والإقرار بها ومعرفة قدرها 2/ سؤال الله العافية وحقيقتها 3/ السكينة ماهيتها وحقيقتها 4/ سكينة النبي –صلى الله عليه وسلم- وثباته في أحلك المواقف 5/ السكينة وآثارهااقتباس
السكينة هي الطمأنينة والوقار، والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرِد عليه، ويوجب له زيادةَ الإيمان، وقوةَ اليقين والثبات، ولهذا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أوجد الكون من عدمٍ ودبَّره، وخلق الإنسان من نطفة فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثمَّ إذا شاء أنشره، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، ومن استن بسنته، واهتدى بهديه، واقتفى أثره.
أما بعد:
فإنَّ من نعمة الله على العبد: أن يرزقه حسنَ النظر في نعمِ الله عليه والإقرارَ بها، وما أعطاه الله من النعم التي افتقدها كثيرٌ من الناس، فإنه إنْ فعل ذلك هانت عليه كلُّ مصيبة، واستصغر كلَّ بلاء، وتيقَّن بما اختصَّه الله به من النعم حين حُرِم منها كثيرون، فشكر نعمةَ الله عليه.
ومن أعظم نِعَم الله على العبد التي لا يكاد يفطن لها: أنه قد يُغلِق عليه بابَه فيرسل الله إليه من يطرقُ عليه الباب يسأله شيئًا من القوت ليعرِّفَه نعمته عليه، قال سلامُ بن أبي مطيع: دخلت على مريضٍ أعوده، فإذا هو يئن، فقلت له: اذكر المطروحين على الطريق، اذكر الذين لا مأوى لهم، ولا لهم من يخدمهم. قال: ثم دخلت عليه بعد ذلك فسمعتُه يقول لنفسه: اذكري المطروحين في الطريق، اذكري مَن لا مأوى له ولا له من يخدمه.
قال وهب: عبَدَ اللهَ عابدٌ خمسين عامًا، فأوحى الله إليه إني قد غفرْتُ لك، قال: أي ربِّ وما تغفر لي ولم أذنب؟ فأذِن الله لعِرْق في عُنُقه يضرب عليه، فلم ينم ولم يصلِّ، ثم سكن فنام، فأتاه مَلَكٌ فشكا إليه ما لقي من ضَرَبان العِرْق، فقال الملَك: إنَّ ربَّك يقول: إنَّ عبادتك خمسين سنةً تعدل سكون العِرْق.
وقيل: إنَّ داودَ -عليه السلام- قال: يا ربِّ أخبرني ما أدنى نِعَمك عليَّ؟ فأوحى الله إليه: يا داودُ، تنفَّس، فتنفس، فقال: هذا أدنى نِعَمي عليك.
وقال عبد الله بن أبي نوح: قال لي رجل على بعض السواحل: كم عاملْتَه سبحانه بما يكره فعاملك بما تحب؟ قلتُ: ما أحصي ذلك كثرة، قال: فهل قصدتَ إليه في أمرٍ كَرَبك فخذلَك؟ قلت: لا والله، ولكنَّه أحسنَ إليَّ وأعانني، قال: فهل سألتَه شيئًا فلم يُعْطِكَه؟ قلت: وهل منعني شيئًا سألتُه؟ ما سألتُه شيئًا قطُّ إلا أعطاني، ولا استعنْتُ به إلا أعانني.
قال: أرأيتَ لو أنَّ بعضَ بني آدم فعل بك بعضَ هذه الخلال ما كان جزاؤه عندك؟ قلت: ما كنتُ أقدر له على مكافأةٍ ولا جزاء، قال: فربُّك أحقُّ وأحرى أن تُدئِبَ نفسَك في أداء شكره وهو المحسن إليك، والله لشكرُه أيسر من مكافأةِ عباده، إنه تبارك وتعالى رضي من العباد بالحمد شكرًا.
وبهذا يتبيَّن أنَّ على العبد دوامَ شكرِ الله على نعمِه الظاهرة والباطنة، وعلى جميعِ أحواله، قيل: إنَّ موسى -عليه السلام- قال: يا ربِّ ما أفضلُ الشكر؟ قال: أنْ تشكرني على كل حال.
وقال بكر بن عبد الله: قلت لأخٍ لي: أوصني؟ فقال: ما أدرى ما أقول، غير أنه ينبغي لهذا العبد أن لا يفتر من الحمد والاستغفار، فإنَّ ابن آدم بين نعمةٍ وذنب، ولا تصلح النعمة إلا بالحمد والشكر، ولا الذنب إلا بالتوبة والاستغفار.
وعلى العبد أن يسأل اللهَ العافيةَ في دينه ودنياه؛ فإنَّ مَن تحقق له ذلك فقد قَرَّت عينه وسعد قلبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله المعافاة فإنه لم يؤتَ بعد اليقين خير من المعافاة".
وقال العباس -رضي الله عنه-: قلت: يا رسول الله علمني شيئًا أسألهُ الله؟ قال: "سلِ اللهَ العافية"، فمكثتُ أيامًا ثم جئت، فقلت: علمني شيئًا أسألهُ اللهَ؟ فقال لي: "يا عباس، يا عمَّ رسول الله، سلِ الله العافية في الدنيا والآخرة"، وفي حديث آخر أنه قال: "يا نبي الله أي الدعاء أفضل؟ قال: "سل العفو والعافية في الدنيا والآخرة، فإذا أعطيت العافية في الدنيا والآخرة، فقد أفلحت".
وهذا السؤال يتضمن العفو عما مضى، والعافية في الحال، والمعافاة في المستقبل بدوام العافية واستمرارها.
وكان عبد الأعلى التيمي يقول: أكثروا من سؤال الله العافية، فإنَّ المبتلى وإن اشتد بلاؤه ليس بأحقَّ بالدعاء من المعافَى الذي لا يأمن البلاء، وما المُبتَلون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس، وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم.
وعاد النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا هزل فصار مثل الفرخ، فقال: "هل كنتَ تدعو اللهَ بشيءٍ أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبحان الله، لا تطيقه ولا تستطيعه، أفلا قلتَ: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار"، فدعا الله له فشفاه، قال وهب بن منبه: "رؤوس النِّعم ثلاثة، فأولها: نعمة الإسلام التي لا تتم نعمةٌ إلا بها، والثانيةُ: نعمةُ العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها، والثالثةُ: نعمةُ الغنى التي لا يتم العيش إلا بها".
وقدِم سعيد الجريري من الحج، فجعل يقول: أنعم الله علينا في سفرنا بكذا وكذا، ثم قال: تعداد النعم من الشكر.
وقال بكر بن عبد الله: يا ابنَ آدم، إنْ أردْتَ أن تعرف قدرَ ما أنعم اللهُ عليك فغمض عينيك.
وقال مقاتل في قوله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20] قال: "أمَّا الظاهرةُ فالإسلام، وأما الباطنةُ فستره عليكم بالمعاصي".
وقال مجاهد في قول الله -تعالى- عن نوح -عليه السلام-: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء: 3] قال: "لم يأكل شيئًا إلا حمد اللهَ عليه، ولم يشرب شرابًا قط إلا حمد اللهَ عليه، ولم يبطش بشيءٍ قط إلا حمد اللهَ عليه، فأثنى اللهُ عليه أنه كان عبدًا شكورًا".
وقال محمد بن كعب: "كان نوحٌ إذا أكل قال: الحمد لله، وإذا شرب قال: الحمد لله، وإذا لبس قال: الحمد لله، وإذا ركب قال: الحمد لله، فسمَّاه الله عبدًا شكورًا".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنَّ من تمام نعمة الله على عبده: أن يرزقه السكينةَ والطمأنينة، لما يترتب على ذلك من السعادة القلبية وبرد اليقين.
فالسكينة هي الطمأنينة والوقار، والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرِد عليه، ويوجب له زيادةَ الإيمان، وقوةَ اليقين والثبات، ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى المؤمنين في مواضعِ القلق والاضطراب؛ فيومُ الهجرة، إذ هو وصاحبه في الغار، والعدوُّ فوق رؤوسهم، فقال له أبو بكر -رضي الله عنه-: يا رسولَ الله لو أنَّ أحدهم نظر إلى قدمه أبصرَنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما ظنُّك باثنينِ اللهُ ثالثهما"، فثبَّت اللهُ قلب نبيِّه، وأنزل عليه السكينة، قال تعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا) [التوبة: 40].
ويوم حنينٍ حين ولَّوا مدبرين من شدةِ بأس الكفار، لا يلتفت أحدٌ منهم على أحد، ولا يعطِف عليه، فامتنَّ اللهُ بإنزال السكينة عليهم، قال سبحانه: (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 26].
ويوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكِّم الكفار عليهم، ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحتملها النفوس، أنزل الله السكينة في قلوبهم، فقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الفتح: 4]، وقال سبحانه: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح: 18]، وقال: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح: 26].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة، وسمعْتُه يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها -من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة- قال: فلما اشتد علي الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرؤوا آيات السكينة، فأقلع عني ذلك الحال".
قال ابن القيم: "وقد جرَّبْتُ أنا أيضًا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرِدُ عليه، فرأيت لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطمأنينته".
ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس ثباتًا في أحلك المواقف، لِما امتن الله عليه به من السكينة، قال البراء بن عازب -رضي الله عنه-: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ينقل من تراب الخندق، حتى وارى الترابُ جلدةَ بطنه، وهو يرتجز بكلمة عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدَّقْنا ولا صلينا
فأنزِلَنْ سكينةً علينا *** وثبت الأقدامَ إنْ لاقينا
إن الأُلى قد بغوا علينا *** وإن أرادوا فتنةً أبينا
فالسكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح وخشعت، واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخَنا والفحشِ واللغوِ وكلِّ قولٍ باطل، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كنا نتحدث أنَّ السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه".
وكثيرًا ما ينطق صاحبُ السكينة بكلامٍ لم يكن عن فكرةٍ منه، ولا رويةٍ، ولا هبة، ويستغربه هو من نفسه، كما يستغرب السامعُ له، وربما لا يعلم بعد انقضائه بما صدر منه، وأكثر ما يكون هذا عند حاجةِ الإنسان، وصدقِ رغبته إلى الله، والإسراعِ بقلبه حتى يكون بين يدي الله، مع تجرده من الأهواء، وبذلِ النصيحة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين.
والسكينة هي ذلك الشعور الذي يسكن إليه الخائف، ويتسلَّى به الحزين والضَّجِر، ويسكن إليه العاصي والجريء والأبيّ.
فإذا باشرت هذه السكينة قلبَ العبد سكَّنت خوفَه، وسلَّت حزنه، فإنها لا حزن معها، وهي سلوةُ المحزون، ومُذهِبَة الهمومِ والغموم، وتُذهِب عنه الضَّجَر، وتبعث نشوةَ العزم، وتحول بينه وبين الجرأة على مخالفة الأمر، وبين إباء النفس والانقياد إليه.
كما أنَّ من الواجب السكينة عند المعاملة بمحاسبةِ النفوس، وملاطفةِ الخلق، ومراقبةِ الحق، حتى تعرف ما لها وما عليها، ولا يدعها تسترسل في الحقوق استرسالًا، فيضيعها ويهملها، قال الحسن -رحمه الله-: إنَّ المؤمن لا تراه إلا قائمًا على نفسه: ما أردت بكلمةِ كذا؟ ما أردت بأكلةِ كذا؟ ما أردت بمدخلِ كذا ومخرجِ كذا؟ ما أردت بهذا؟ ما لي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا، ونحو هذا من الكلام.
كما أنه بمحاسبتها يَطَّلع على عيوبها ونقائصها، فيمكنه السعي في إصلاحها.
التعليقات